يصعب، في لحظة بحجم سقوط النظام السوري، أن أفصل بين ما هو شخصي وما هو عام، فهذان العالمان، اللذان ظلا يتجاوران لفترة طويلة من المنفى والخسارات، يتداخلان في هذه الأيام إلى حدّ يبدو فيه أن قصة كل فرد هي جزء من القصة الكبرى. لذا، سأكتب متنقّلةً بينهما، بين ما شعرتُ به أنا، وما اختبره السوريون حولي، على يقين بأن القارئ السوري سيجد ما يحاكي تجربته وفرحته.
بعد سنوات طويلة من اليأس، أصبحنا نحن السوريين في المنفى نتعامل مع الخبر على أنه أقل من عادي. اللون الأحمر وصوت “العاجل” لم يعودا يلفتان انتباهنا كما في السابق؛ الأخبار السيئة أصبحت شيئًا روتينيًا، أحداثًا متكررة نمرّ عليها مرور الكرام، وكأننا تعلّمنا أن نتعايش مع الألم. زاد على ذلك في السنة الأخيرة من حكم الأسد، سنة التطبيع، شعورُنا بفقدان الوطن، وفقدان حقّ العودة ربما، وبضرورة تعاملنا مع الحنين إليه كشيء عادي ويومي. أصبحنا نتحدّث عن سوريا كما لو كنّا نتحدث عن بلد بعيد، لا نملك إمكانية رؤيته ولا نستطيع تغييره.
ثم جاء الأسبوع الأخير من نهاية تشرين الثاني، حيث توقّف الوقت أمام الشاشات: شاشة تلفاز أو لابتوب لمتابعة الأخبار مباشرة، وشاشة الهاتف لمتابعة مواقع التواصل ومساحة اللون الأخضر التي تتّسع على الخريطة. لم يعد للنوم ولا للأكل ولا لأي فعل إنساني معنى. أخذ سؤال “لوين وصلوا؟” مكان السؤال التقليدي “كيف الحال؟”. أصبح كل شيء متعلقًا بخطوة النظام الأخيرة المرتقبة.
لحسن الحظ، لم أنم ليلة الثامن من ديسمبر، لأشاهد بعيني أهمّ عاجل على الإطلاق: “دمشق بلا بشار الأسد”. شعور لا يمكن وصفه بالكلمات بسهولة، مزيج من الدهشة والفرح والخوف من أن يكون الحلم غير حقيقي. لم أتمالك الدموع طبعًا، ولم أستطع سوى الاتصال بصديقة طفولتي لنتشارك البكاء، ونحتفل بالحلم الذي تجدد فينا بعد سنوات طويلة من الانتظار. حينها فقط استطعت النوم مجددًا. هذه المرة أعرف أن رحلة الهجرة واللجوء قد تنتهي، وأن لي وطنًا أزوره في الصيف على الأقل وأحدث أصدقائي عنه.
في الصباح، استيقظت وكأن العالم قد تغيّر بين ليلة وضحاها. الشوارع التي شكّلت غربتنا طوال العقد الأخير امتلأت بالفرح. سوريون يحتفلون في كل مدينة في العالم، رافعين علمنا الجديد، نهنئ بعضنا بعناق وبكاء، نتشارك الحلويات ونستعيد فرحًا اعتقدنا أنه ضاع إلى الأبد. والأهم من هذا كله أننا نهتف بصيغة الفعل الماضي: “عاشت سوريا، وسقط الأزل”. لحظة تاريخية يعيشها العالم كله.
وسط مشاهد الفرح التي عمّت السوريين، بقيت دموع أبي أكثر الصور رسوخًا في ذهني. فهو وأبناء جيله عايشوا الأسدين، وحلموا بالثورة من قبل أن يولد جيلنا بأكمله. وبينما كنا نحن نتبادل كلمة “مبرو”» بخفّة وفرح، كان هو وأصدقاؤه يهنئون بعضهم بعبارة “الحمد لله عالسلامة”، وكأنهم يخرجون للتو من نفق طويل.
من هنا بدأت حديثي معه، محاولين استرجاع تلك اللحظة كما عاشها هو.
ما هو أول شيء يخطر في بالك عندما تعود بذاكرتك إلى لحظة إعلان السقوط؟ كيف وصل إليك الخبر؟ هل كان هناك شخص معين أردت التواصل معه مباشرة؟
“الفرحة، الفرحة الكبيرة هي ما يخطر في بالي عندما أتذكر تلك اللحظة. غلبني يومها إرهاق أسبوع كامل من متابعة أخبار العمليات العسكرية. نمت، لأصحو على بكاء ابنتي التي أخبرتني أن النظام سقط… بكيت كما لم أبكِ من قبل، لي أخٌ شهيد صحا في داخلي وقتها، هو من رغبتُ بالتواصل معه”.
وهنا، لا أستطيع ككاتبة وابنة، إلا أن أتوقف عند إجابته. فأبي ليس استثناءً، بل مثالًا يكاد يتكرر في كل بيت سوري. لم يكن هو وحده من تذكّر شهيده لحظة السقوط؛ كل عائلة سورية حملت معها اسمًا ما، وجهًا ما، غاب وبقي حاضرًا في الذاكرة. ولو عدنا جميعًا اليوم إلى أرشيف مواقع التواصل الاجتماعي، لوجدنا أنفسنا نحدّق في صور أولئك الذين تمنّينا لو أنهم معنا في هذه اللحظة. إنها لحظة فرح، نعم، لكنها لحظة امتلاء بالغياب، وهذا ربما ما يجعل الفرح السوري أثقل وأكثر تعقيدًا من أيّ فرح آخر.
وبالحديث عن الفرح المعقّد، يضيف أبي: “جميعنا أجّل مخاوفه، أو حتى أنكرها”.
في الحقيقة، كان ذلك ملحوظًا على وجه كل سورية أو سوري خرجوا للاحتفال؛ فرغم الخوف الخجول، كان كلّ واحد منهم شاهدًا على خمسة عقود من الانتظار. مما دفعني للسؤال: عندما تفكر بخمسين عامًا من الحكم، ما هي المشاهد أو اللحظات التي تطفو أولًا؟ وهل تعود تلك الذكريات بطرق مختلفة منذ عام، مقارنةً بما قبل السقوط؟
“بالتأكيد لحظتَا اعتقالي، ولحظات اضطررتُ فيها للاختباء أو الابتعاد عن الأنظار ريثما تمرّ فترة “الدراسة الأمنية”… الرعب، اهتزاز النفس عند كل محطة. نظرات الخوف والهلع في عيون أمي وأبي، في عيني حبيبتي، وأيضًا لحظات النشوة في أنني اخترتُ معارضة النظام البائد منذ عامي العاشر! في عامي العاشر أسّست منظمة أسميناها “منظمة طلائع السلام” ردًّا على “منظمة طلائع البعث”… لن تصدقوا؟ نعم، أنا نفسي لا أصدق الآن.”
تأخذني هذه الإجابة إلى التفكير بطفولتي، بطفولتنا، كيف كنا نهتف مُجبَرين لا أبطالًا، نؤيد النظام ووحدة الأمة التي ينادي بها، نستعدّ للدفاع عن الوطن دائمًا، بخبطات أقدام صغيرة على الأرض وبأصوات لا تفهم ما تقول. اليوم، تخبرني صديقتي في الشارع أثناء الاحتفال أنها تستطيع أخيرًا أن تذهب مع أطفالها الذين وُلدوا في فرنسا ليزوروا بيتهم في حمص لأول مرة؛ أن يروا الوطن الذي لطالما حدّثتهم عنه، بيت الجدّة وأكلاتها، الأقارب والهدايا وألعاب العيد. أحلامنا البسيطة عادت إلى الحياة، وسؤال العودة بلا مساومات بدا أخيرًا قابلًا للإجابة.
نسأل مازحين عن تخفيض رسوم تجديد جواز السفر بعد السقوط، ويقول أحدنا إنه أصبح مستعدًا لدفع ما يُطلب طالما أنه لا يدفع للأسد. وربما من أكثر المشاهد طرافة وبهجة أننا اتفقنا جميعًا، جميع من في الساحة تقريبًا، على أن الصيف القادم في سورية، إن شاء الله، واستقبلنا الدعوات لزيارة المدن المختلفة.
ماذا نقدم لسوريا؟
بالإضافة إلى الخوف الخجول والحذر، امتزج الفرح بالحماسة؛ شكّلت لحظة السقوط اللحظة الفارقة للإجابة عن سؤال: “والآن، ماذا يمكننا أن نفعل؟”. أصبحنا، وخاصة نحن الشباب، نتطلّع إلى البحث عن أدوار نشغلها في المرحلة القادمة، فمن كان منّا مقاطعًا للنظام لم تعد لديه حجة اليوم، ومن كان خائفًا من العمل المدني أو السياسي من الداخل السوري، فإنها فرصتنا الآن.
العديد من منظمات المجتمع المدني التي تعمل أصلًا من المنفى بدأت تفكر في نقل عملها إلى سوريا، بالإضافة إلى الفاعلين السياسيين، فمنذ صبيحة اليوم التالي لسقوط النظام، بدأنا نلاحظ مبادرات جديدة تظهر لدعم حركة الانتقال الديمقراطي والمساهمة في تحقيق أحلام الثورة والحفاظ على مكتسباتها.
في هذا السياق، تحدثت معنا سارة (اسم مستعار)، وهي ناشطة في إحدى منظمات المجتمع المدني السورية التي عملت من مناطق شمال سوريا ومن المنفى، عن لحظة فرحها حين رأت سيارات تحمل شعار المنظمة تدخل مناطق سيطرة النظام وترافق عملية التحرير. “فجأة صرت حاسة إنه ممكن تتحقق العدالة. لما شفت السيارات فايتة عالشام، ما كان يهمني مين عمل هاد الشي، المهم كان ساعتها إنه صار فينا ننزل ع سوريا”.
بالإضافة إلى عملها مع المنظمة، بدأت سارة التفكير بالعمل من هولندا، فبحسب ملاحظاتها، حتى من كانوا في المنفى، هنالك الكثير منهم من كان يائسًا، لا يجد جدوى في العمل السياسي، أو من كان غير مهتم أصلًا، وخاصة الجيل الصغير الذي كبر في المنفى وأصبح اليوم، بعد السقوط، مهتمًا بالعمل من أجل بلده. ومن منظورها كحاملة شهادة حقوق تقول: “صار لازم نرجع نفيد البلد. شو عم نعمل هون؟ في كتير أسباب بتخلي عدد من الناس ما قادر يرجع باللحظة الحالية على سورية، وبنفس الوقت حابة تعمل شي. بلشنا من هون: عملنا جلسة عن العدالة الانتقالية، بلشنا نخلق مساحات من النقاش بعد زوال الخوف، نشوف شو أولوياتنا كشعب سوري”.
وعند سؤالي لها عن الفرق بين العمل من الداخل والخارج تضيف: “الأولويات مختلفة. جوا في كتير هموم اقتصادية ومعيشية هي الأولوية اليوم، بينما برا عنا امتيازات بتخلينا نتجاوز هالنقطة. عنا وصول لمنظمات وبرلمانات أوروبية، فينا مثلًا نشتغل على دعم قطاعات الصحة والتعليم…”.
قبل عام من اليوم.. سقطت تماثيل الأسد التي جسّدت عقودًا من القمع. من هنا بدأت حكاية التحرير. pic.twitter.com/ye1q1tPsG7
— نون بوست (@NoonPost) December 8, 2025
بعد عام من السقوط، نتفق على أن لحظات لقاء أهالي المغتربين لأبنائهم في سورية مشاهد لا يمكن نسيانها. نشاهد جميع المقاطع المصوّرة على أنها مقاطع من بيوتنا ولأقاربنا.
عادت سارة إلى بيتها في ريف دمشق، بعد أن كانت العودة، على حدّ تعبيرها، “حلم مستحيل يتحقق”. تستذكر مشاعر الخروج منه منكسرة تعرف أنها قد لا تعود أبدًا، وتقارنها بمشاعر العودة: “زرت بيتنا. كنت متأقلمة مع فكرة إنه مستحيل نرجع. طلعنا خايفين ومرعوبين، بس رجعنا وعم يستقبلونا بـ’ارفع راسك فوق’… كان شعور بالنصر مو طبيعي”.
اليوم، بعد مرور عام على سقوط النظام، تبدو الحياة وكأنها بدأت صفحة جديدة. السوريون يحاولون إيجاد مواقع لهم في المشهد العام، يعيدون ترتيب أدوارهم ومسؤولياتهم، يبحثون عن طرق للمساهمة، لإعادة بناء ما تضرر، وإحياء الروابط التي فصلها التهجير. في كل مدينة وكل بيت، تروى قصص جديدة عن لقاءات، مبادرات، ومشاريع صغيرة.
اليوم، لا بد لنا أن نفرح رغم طريقنا الطويل نحو العدالة، ولا بد لنا أن نعترف بأن فرحنا هذا، هو فعل سياسي جماعي.