في ظل تحوّلات جيوسياسية متسارعة تُقوّض أسس العدالة وحقوق الإنسان، وتمنح الغلبة لمنطق القوة على حساب السلام والاستقرار، احتضنت قطر فعاليات النسخة الثالثة والعشرين من منتدى الدوحة لهذا العام، تحت شعار: “ترسيخ العدالة.. من الوعود إلى واقع ملموس”.
وعلى مدار يومي السبت والأحد، 6 و7 ديسمبر/كانون الأول الجاري، اجتمع أكثر من 6 آلاف مشارك إلى جانب 471 متحدثًا من نحو 160 دولة، من بينهم رؤساء وقادة ومسؤولون بارزون، إضافة إلى شخصيات عالمية مؤثرة في مجالات السياسة والاقتصاد والتقنية.
تحوّل المنتدى -الذي تأسس على يد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عام 2000- إلى منصة حوار دولية مفتوحة، تُطرح فيها الأسئلة الكبرى حول مستقبل النظام العالمي، وتُناقش أبرز القضايا التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، في محاولة لإعلاء صوت الحوار والدبلوماسية بديلاً عن مسارات الحروب وصدامات القوة.
جاءت فعاليات هذه النسخة الاستثنائية محمّلة برسائل سياسية وأخلاقية بالغة الوضوح، في مقدمتها السعي إلى تحويل شعار “العدالة في الفعل” من مجرد كلمات تُقال إلى واقع ملموس وخطوات عملية، فقد شددت نقاشات المنتدى على ضرورة الربط بين إنهاء النزاعات، وردم الهوة المتّسعة بين الشمال والجنوب، وتحقيق تنمية عادلة تضمن للجميع فرصًا متكافئة في عالم لا يُقصي أحدًا.
ينعقد منتدى الدوحة هذا العام في ظروف إقليمية ودولية تحتاج إلى تكاتف جميع الجهود لخفض التوتر، ودعم السلام والاستدامة في منطقتنا والعالم، من خلال ترسيخ العدالة، وتعزيز التنمية الإنسانية ومبادئ الحلول السلمية لمختلف النزاعات. أتمنى لضيوف المنتدى التوفيق والسداد، وأرحب بهم في قطر. pic.twitter.com/cF1WxGWNvA
— تميم بن حمد (@TamimBinHamad) December 6, 2025
للتوقيت كلمته..
ينعقد منتدى الدوحة هذا العام في لحظة إقليمية بالغة التعقيد، إذ يعيش الشرق الأوسط على وقع تحولات جيوسياسية خطيرة، تتصدرها المأساة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، وتعثر المساعي الهادفة لتكريس التهدئة واستئناف المسار السياسي انطلاقا من اتفاق شرم الشيخ، في ظل استمرار آلة العنف والتصعيد الإسرائيلي وغياب أفق واضح للحلول المستدامة.
كما يأتي المنتدى في وقت لا تزال الساحة السورية تواجه تحديات أمنية وإنسانية متراكمة، بفعل اعتداءات متكررة وواقع سياسي هش يفاقم معاناة المدنيين ويُبقي البلاد في دائرة التوتر، متزامنًا مع احتفال السوريين بالذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد.
هذه الظروف الملبدة بالاضطرابات تجعل من ضرورة توحيد الجهود الإقليمية والدولية أولوية لا تحتمل التأجيل، من أجل خفض منسوب التوتر، وتثبيت ركائز السلام، وإعادة الاعتبار للعدالة والتنمية الإنسانية كمسارات لا بديل عنها لحماية مستقبل المنطقة، وهي القيم ذاتها التي يسعى المشاركون في منتدى الدوحة إلى إيصالها للعالم، بوصفها بوابة العبور نحو استقرار حقيقي وشامل.
البحث عن العدالة الغائبة
تتجسد الرسالة الأولى التي حرص منتدى الدوحة على إيصالها هذا العام في شعاره “ترسيخ العدالة.. من الوعود إلى واقع ملموس”؛ شعار يختصر طموح المنتدى في نقل العدالة من إطارها الخطابي والمبادئ المعلّقة إلى سياسات فعلية تُسهم في تحقيق السلم والتنمية وصون حقوق الإنسان.
وقد شدّد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في كلمة الافتتاح على أن العدالة باتت، في كثير من الأحيان، غائبة عن مسار القانون الدولي، في عالم تتغلب فيه المصالح على المبادئ، وتُستبدل فيه قواعد القانون بمنطق القوة.
وأوضح أن تفاقم الأزمات لا يعود إلى نقص الموارد أو غياب المعرفة، بل إلى غياب المساءلة واستمرار النزاعات دون حلول عادلة، بما يهدد السلم والأمن الدوليين، مشيرًا إلى أن التوترات المتلاحقة أثبتت أن الاكتفاء بإدارة الأزمات بحدّها الأدنى، أو الرهان على توافقات مؤقتة لا تلامس جذور الصراع، لم يعد خياراً قابلاً للحياة؛ فالأزمات حين تُترك بلا عدالة تعود أعقد وأخطر، وتتجاوز حدود الجغرافيا.
وبلهجة حاسمة، أكد أن الحلول العادلة وحدها هي القادرة على صناعة السلام المستدام، ووقف دوامة النزاعات والانقسامات، وتحويل العدالة من طموح مجتمعي إلى حق عالمي لا يُستثنى منه أحد.
رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني خلال الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة 2025 تحت عنوان "الوساطة في زمن الانقسام":
– عالمنا يحتاج إلى إعادة الثقة في القانون والسلام لا يتحقق بقرارات شكلية.
– العالم يشهد تفاقمًا في الأزمات بسبب غياب المساءلة.
– معاناة… pic.twitter.com/WZfdKLjGdm
— نون بوست (@NoonPost) December 6, 2025
التحذير من غياب المساءلة
شدد المنتدى على أن غياب المساءلة يمثل أحد أخطر مظاهر الخلل في النظام الدولي، وأن هذا الخلل يكشف وجهه الأكثر قسوة في منطقتنا العربية؛ حيث يعيش الشعب الفلسطيني تحت انتهاكات صارخة للقانون الدولي، بينما يشهد السودان مأساة مستمرة من العنف والمجازر والانتهاكات الجسيمة، تلك الوقائع المؤلمة تؤكد أن العدالة ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطٌ وجودي لصون استقرار المنطقة وحماية شعوبها من التفكك والانهيار.
في هذا السياق، جاء التحذير واضحًا من استمرار إدارة الأزمات بمنطق القوة، ومن إبقاء المعتدي خارج دائرة الحساب، لما يحمله ذلك من مخاطر على مستقبل النظام الدولي، إذ يحوّله إلى مجموعة من الوعود المؤجلة التي لا تجد طريقًا إلى التنفيذ، وتُفقده قدرته على حماية الضعفاء ووقف نزيف الصراعات.
ولعل الرسالة الأبلغ التي أراد المنتدى ترسيخها هي أن السلام الحقيقي لا يُفرض من أعلى، ولا يُولد من قرارات شكلية؛ بل يحتاج إلى جهد تشاركي عالمي يجعل كرامة الإنسان وحقوقه محور كل السياسات، فبدون عدالة شاملة تُنصف الضحايا وتُحاسب المعتدين، سيظل السلام هشًا، وتبقى الإنسانية أسيرة لدوامة الألم والصراعات.
غزة الحاضرة بقوة
كان لملف غزة الحضور الأوسع في منتدى الدوحة، حيث شكّل محورًا رئيسيًا في جلسات النقاش التي شارك فيها خبراء وقادة من مختلف دول العالم، وتركزت المداولات على واقع اتفاق وقف إطلاق النار والمفاوضات التي تمر بلحظة مفصلية تستوجب التزامًا دوليًا حقيقيًا.
وشدد وزير الخارجية القطري على أن وقف النار لا يكتمل دون انسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة وعودة الاستقرار إليه، مؤكدًا أن دور الوسطاء يقوم على إبقاء الحوار قائمًا وضمان وصوله إلى نتائج عادلة تنهي معاناة المدنيين.
وفي سياق متصل، تناولت النقاشات تفاصيل المرحلة الثانية من اتفاق التهدئة، التي يفترض أن تشهد انسحابًا إسرائيليًا شاملًا، وتشكيل سلطة انتقالية في غزة، بمساندة قوة دولية لإرساء الاستقرار، كما حذّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من فشل المجتمع الدولي في تنفيذ المرحلة المقبلة، معتبرًا أن الأمن والحرية للجميع في المنطقة يجب أن يكونا أساس أي تسوية.
ولم تقتصر الرسائل على غزة وحدها، فقد جدّد المنتدى التذكير بضرورة وقف انتهاكات المستوطنين في الضفة الغربية وإعادة إعمار القطاع، وسط دعوات أوروبية ودولية لتفعيل حلّ الدولتين باعتباره الطريق الواقعي نحو سلام دائم.
كما شددت شخصيات أممية على أن استمرار معاناة الفلسطينيين يفاقم الخلل في النظام الدولي ويُحتّم التزامًا دوليًا بوقف تصدير السلاح للاحتلال وفرض محاسبة عادلة، بما يعيد للحقوق الإنسانية مكانتها التي لا يجوز التفريط فيها.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يؤكد خلال الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة 2025 أن على المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته لوقف انتهاكات إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار وضمان استمراره.
ويضيف أن النقاش جارٍ حول تشكيل قوة استقرار دولية تُنشر في غزة، مشددًا على أن هدفها الأساسي الفصل بين… pic.twitter.com/IO2fUAnTr5
— نون بوست (@NoonPost) December 6, 2025
سوريا الجديدة وحضورها الاستثنائي
في النسخة الماضية من منتدى الدوحة، كان الحديث عن سوريا مرتبطًا بنضال شعبها ضد القمع وضرورة احترام إرادته وتغليب مصلحة الوطن على نزوات السلطة. واليوم يعود الملف السوري إلى أروقة المنتدى بصورة مختلفة تمامًا؛ إذ تشهد دمشق مرحلة سياسية جديدة بعد سقوط النظام السابق، وتبرز الحاجة لمعالجة إرثٍ ثقيل تركته سنوات الصراع والمعاناة الإنسانية.
في هذا السياق، قدّم الرئيس السوري أحمد الشرع رؤيته للمسار الوطني خلال جلسة حوارية، مؤكدًا أن بلاده تسير في الطريق الصحيح نحو إعادة بناء الدولة واستعادة مكانتها الإقليمية، بما في ذلك السعي لرفع العقوبات وتثبيت الاستقرار الداخلي، وشدّد على أن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية تمثل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي، وأن المجتمع الدولي مطالب بدعم حق سورية في حماية سيادتها وعدم السماح بتصدير الأزمات إليها.
الرئيس أحمد الشرع خلال جلسة حوارية ضمن أعمال منتدى الدوحة:
– إسرائيل تعمل على تصدير الأزمات إلى الدول الأخرى والهروب من المجازر التي ترتكبها في قطاع غزة.
– إسرائيل قابلت سوريا بعنف شديد وشنت عليها أكثر من ألف غارة ونفذت 400 توغل في أراضيها.
– الأمور ذاهبة باتجاه رفع العقوبات عن… pic.twitter.com/tBrsQFpiRi
— نون بوست (@NoonPost) December 6, 2025
ومع مرور عام على إسقاط النظام السابق، شدّد الشرع على أن المرحلة الراهنة تتطلب حكمة جديدة وإصلاحًا مسؤولًا بمشاركة جميع السوريين دون تمييز، مؤكدًا أن بلاده تتجه نحو مسار ديمقراطي يضمن انتخابات خلال السنوات المقبلة، بالتوازي مع تحريك عجلة الاقتصاد وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، فيما تجلّت رسالته الأبرز في أن وحدة السوريين هي الشرط الحتمي لصون مستقبل بلدهم، وأن العدالة والمساءلة هما الطريق لترميم الجراح وطي صفحة الانقسام.
تمكين الجنوب والاستثمار في الإنسان
أكد المشاركون في منتدى الدوحة أن مستقبل التنمية في الجنوب العالمي يبدأ من الاستثمار في الإنسان قبل أي شيء آخر؛ فتمكين المواهب الشابة ودعم الإبداع الثقافي والفني، وتعزيز الصحة والتعليم، تمثل قواعد أساسية لخلق مجتمعات أكثر قدرة على النهوض بمواردها وفرصها. وجاء التأكيد على أن بناء الإنسان هو حجر الأساس لأي مشروع تنموي عادل ومستدام.
وكان للابتكار والتكنولوجيا المتقدمة حضور قوي في النقاشات، باعتبارهما أدوات جوهرية في معالجة الفجوات التنموية، خصوصًا في مجالات الأمن الغذائي وتعزيز الإنتاج الزراعي، وقد شدد المتحدثون على أن الذكاء الاصطناعي قادر على إحداث نقلة نوعية في حياة البشر من خلال توفير خدمات تعليمية وصحية ميسّرة وفعّالة، وتمكين الجنوب العالمي من تجاوز عقبات البنية التحتية وتضييق الهوة الرقمية مع الشمال.
وتقاطع الحضور على أن التنمية المنشودة تحتاج إلى شراكات دولية عادلة تجمع الحكومات والقطاع الخاص والمؤسسات الإنسانية، لتوظيف ثروات الجنوب داخل دوله، وتشجيع التصنيع المحلي، وخلق اقتصاد قائم على المعرفة والإبداع، فالاستثمار في الجنوب ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو التزام أخلاقي بتمكين الملايين من الشباب والأطفال، وبناء عالم أكثر توازنًا وإنسانية، يمنح الفرص للجميع دون تمييز.
في الأخير.. تظل العدالة محور السلام الحقيقي، إذ لا يمكن لأي استقرار أن يُبنى على وعود فارغة أو مصالح مزدوجة، كما كشف التجاهل المتكرر لمعاناة شعوب فلسطين وسوريا والسودان عن ازدواجية في التعامل مع الملفات الإنسانية من قبل بعض القوى الغربية، التي تضع مصالحها السياسية والاقتصادية فوق الحقوق الأساسية للإنسان.
ومن هنا يبرز الدور الحاسم لمثل هذا الحراك الفكري في ترسيخ مفهوم العدالة كشرط وجودي للسلام، وإلزام المجتمع الدولي بالمساءلة، لضمان أن يكون كل فرد، بغض النظر عن موقعه الجغرافي أو انتمائه، محميًا، وأن تصبح القوانين الدولية مرآة لمبادئ الحقوق والكرامة الإنسانية، لا مجرد شعار على الورق.