من تجاهل حقائق التاريخ يقع في الأخطاء ويتجرّع الخسارة المريرة. وإحدى الأخطاء الفادحة التي يمكن أن يرتكبها أي نظام أو دولة هو الاصطفاف مع أنظمة مستبدّة ضد شعوبٍ مقهورة، فالمعروف تاريخيًا أن هذه الشعوب ستصل إلى حريتها وإن طال زمن الاستبداد المسلَّط عليها.
هذا الخطأ التاريخي الفادح ارتكبه النظام العراقي حينما اصطفّ مع النظام السوري في حربه ضد شعبه، ولم يُلقِ بالًا لدروس التاريخ التي تُفيد بأن الأنظمة زائلة مهما طال عمرها، وأن الشعوب باقية وإن طال زمن الاستبداد المُسلَّط عليها. والحكمة تقتضي أن تصطفّ مع ما تريده الشعوب، لا مع ما تريده الأنظمة. لقد ارتكب النظام العراقي خطيئته الكبرى حينما قام بمساعدة النظام السوري وأمدّه بأسباب البقاء، متجاهلًا الجرائم التي ارتكبها بحق مئات الآلاف من المواطنين السوريين، وتهجيره لملايين منهم، وتدميره الحواضر السورية وجعلها مدنًا من الركام.
يوم تحرير سوريا في 8 كانون الأول عام 2024، سبقته حالة هروب جماعي للميليشيات التي أرسلها النظام العراقي إلى سوريا؛ إذ تركت ميليشيا العصائب والنجباء مواقعها حول مرقد السيدة زينب في ريف دمشق، وهربت باتجاه الحدود العراقية تاركةً خلفها الأسلحة والمعدات. ولحقت بها ميليشيا كتائب حزب الله وميليشيا الطفوف وميليشيا سيد الشهداء من البوكمال والميادين، في مشهد ما زال كثيرون داخل الأوساط الأمنية يصفونه بأنه انسحاب “غير مفهوم”، تزامنًا مع هروب بشار الأسد من دمشق، الذي كانوا يحمونه، ليُعلنوا بذلك نهاية مسار سياسي وأمني بدأ قبل ثلاثة عشر عامًا، عندما اتخذ قادة بغداد قرارًا بدعم الأسد سياسيًا، ثم تحوّل هذا القرار تدريجيًا إلى أموال تُضخّ ومقاتلين يعبرون الحدود.
واليوم، ونحن نرى مشهد تحرير سوريا وفشل المغامرة العراقية هناك، يحقّ لنا أن نتساءل: ماذا جنى العراق من تلك السياسة؟ وبعد خسارته رهانه على النظام السوري، ما هو موقف النظام العراقي الآن، وهو ينظر إلى سقوط مشروعه الأوسع الذي قادته إيران في سوريا؟
نشرت مليشيا العصائب فيديو لعناصرها في سوريا على منصات تابعة لها في “تلغرام” دون توضيح تاريخ او مناسبة النشر
أفراد المليشيات العراقية في سوريا يقدر عددهم بنحو 6 آلاف ويتلقون مرتبات بصفتهم عناصر بالحشد الشعبي
المليشيا المتورطة بجرائم حرب طائفية في العراق وسوريا وعمليات سرقة ونهب… pic.twitter.com/EzzDr3xTs6
— عثمان المختار (@othmanmhmmadr) May 8, 2024
أسباب انحياز النظام العراقي لصالح عائلة الأسد
حينما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان نوري المالكي رئيس الوزراء، وهو شخصية طائفية وزعيم لحزب الدعوة الإسلامي المفرط في ولائه للنظام الإيراني، وبالرغم من قرب النظام الأسدي في سوريا من النظام الإيراني، فإن ذلك لم يمنع من أن تكون علاقة حكومة نوري المالكي سيئة بنظام بشار الأسد، لأن المالكي كان يُحمّل الأسد مسؤولية دعم الجماعات المتطرفة في العراق مثل تنظيم القاعدة، للإخلال بالأمن وإدامة التفجيرات التي ذهب ضحيتها مئات العراقيين.
لقد كان المالكي محقًا في اتهامه للأسد، لكن النظام السوري كان ينفي تلك الاتهامات، بينما كان في حقيقة الأمر يريد من دعمه لتلك الجماعات الإرهابية مشاغلة القوات الأميركية في العراق، حتى لا تفكّر في إسقاط نظامه كمرحلة ثانية بعد العراق. ووصلت حدّة الخلاف بين المالكي والأسد إلى قيام المالكي بتقديم شكوى للأمم المتحدة، متهمًا النظام السوري بدعم الإرهاب في العراق.
بعيدًا عن أحداث ما بعد 2011 وعن ما بعد سقوط النظام ، من يريد أن يمجد ببشار بحجة دعمه للمقاومة في لبنان هو حر، لكن لا يخوّن كل من تحدث عنه!
عشرات الآلاف من العراقيين ذهبوا ضحية دعم بشار ونظامه للإرهـ ابيين بحجة “المقاومة”، المفحْخات، التي كانت تضرب الأسواق، والمدارس، وتقتل الكبار… pic.twitter.com/mwkaiB8lAa
— Ali. ABk (@Bk_Hanasa) December 6, 2025
لم تفلح الجهود الإيرانية في تقريب وجهات النظر بين النظامين السوري والعراقي في تلك المرحلة. لكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي التي شملت سوريا أيضًا، انقلب موقف المالكي وحكومته من النظام السوري 180 درجة. ورأى أن الثورة السلمية التي بدأها الشعب السوري تشكّل مصدر خطر على نظامه، وأن هذا النوع من الثورات سيصل لا محالة إلى بغداد ليسقط حكومته. والأهم من ذلك، أن سقوط النظام السوري سيقوّض خطط الراعية الأكبر، إيران، في تشكيل محورها الممتد من أراضيها حتى لبنان مرورًا بالعراق وسوريا.
قبل عام من اليوم
المالكي : إذا رأيت ان نظام الدكتور بشار الأسد قذ يسقط سآخد الجيش العراقي وأذهب أقـ اتل في سوريا لأن سقوط سوريا يعني سقوط بغداد!
لماذا لم يأتي المالكي وجيشه إلى سوريا لدعم نظام الهارب الأسد؟ pic.twitter.com/OjijQsDL4L
— أُميـة التكريتي 🇮🇶 (@umtikrit) November 29, 2025
فتناسى المالكي مواقفه السابقة، وفتح الأبواب على مصراعيها لدعم النظام السوري في حربه ضد شعبه، سواء من خلال الدعم المالي أو العسكري واللوجستي لإدامة صموده في مواجهة الثورة السورية. ويبرّر النظام العراقي مساندته للنظام السوري بأنه يريد حماية المراقد الشيعية المقدسة في سوريا، وهي الحجة نفسها التي استخدمها حزب الله اللبناني في تدخّله لقمع الثورة السورية، بهدف تبرير مشاركتهما في قمع ثورة الشعب السوري.
وقد قامت إيران بحملة دعائية تحريضية لاستمالة الشيعة في العراق ولبنان لمساندة نظام الأسد، مستخدمة شعار “لن تُسبى زينب مرتين” لتحفيز الميليشيات الشيعية على القتال في سوريا من أجل حماية مقام السيدة زينب. وتحول الشعار الشهير “يا لثارات الحسين” إلى ممارسة عملية للظفر بعاصمة الأمويين، في إشارة إلى ترسيخ مزاعم تقول إن السوريين (أحفاد الأمويين) يحاولون عبر ثورتهم سَبْيَ زينب معنويًا.
وكان هذا المدخل هو المفتاح الذي فتحت به إيران أبواب ترسيخ هيمنتها، عبر تضخيم الاهتمام بالمراقد الشيعية المزعومة وما تسميه “العتبات المقدسة”، وتشييد وترميم أضرحة ومزارات وهمية لرموز تساعدها على اجتذاب الشيعة، وجعلها ذريعة للتمدد أكثر فأكثر وتعزيز وجودها الإقليمي المتوغّل في المجتمع السوري. وقد أسهمت هذه الدعاية الإيرانية حول “حماية المراقد والمزارات” في رفع وتيرة التطرف الشيعي الذي تبنّته فرق الموت والميليشيات الشيعية ضد السوريين.
ماذا خسر العراق بمساندته للنظام السوري؟
الخطأ التاريخي الذي ارتكبه قادة العراق بمساندتهم للنظام السوري في حربه ضد الشعب السوري كانت نتائجه جسيمة وخطيرة على كل المستويات، فقد أظهرت المعلومات التي حصل عليها موقع “الحرة” مثلًا، أن المالكي ومجموعة من المقربين منه عملوا خلال الفترة بين عامي 2012 و2014 على إدارة ملف غسيل أموال الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني لدعم بشار الأسد.
ودعم فريق المالكي الميليشيات العراقية التي كانت تقاتل إلى جانب الأسد في سوريا من خلال توفير الأموال والتجهيزات العسكرية من ميزانية الدولة العراقية. كما قام المالكي بتأسيس مكتب للخدمات الخارجية بالتعاون مع فرع “المخابرات العامة 279” المسؤول عن النشاطات الاستخباراتية للنظام خارج سوريا. وبحسب مصدر في المخابرات الأميركية، بلغت الأموال التي نُقلت إلى سوريا نحو 460 مليون دولار خلال عام 2012.
إلى جانب ذلك، تم تجنيد ما يزيد على 18 ألف شيعي عراقي وأفغاني وباكستاني من قبل الحرس الثوري الإيراني، وبالتعاون مع زعيم ميليشيا “حركة النجباء” أكرم الكعبي، والقيادي في “كتائب حزب الله” أبو مهدي المهندس، وقائد ميليشيا “كتائب الإمام علي” شبل الزيدي، والقيادي في حزب الدعوة الشيخ عبد الحليم الزهيري، وتحمّل العراق جميع مصاريف نقلهم وتجنيدهم ورواتبهم.
وقد أرهقت الحرب المستمرة في سوريا على مدى سنوات خزينة العراق، بفعل التحويلات المالية التي كان يتلقاها النظام السوري، إضافة إلى التخصيصات المالية للميليشيات التي كانت تقاتل إلى جانبه، فضلًا عن الدعم غير المحدود بالمحروقات التي كانت تصل إلى النظام السوري وإلى لبنان، معقل حزب الله، عبر أسطول كبير من صهاريج نقل النفط.
أما الخسارة السياسية للعراق، فتمثلت في عزلة عربية واسعة، خصوصًا من الدول الفاعلة التي كانت تساند الثورة السورية، وأصبح التعامل مع العراق يتم على أساس أنه دولة مرتهنة في سياستها الخارجية للنظام الإيراني. بل وصل الأمر بالإدارة الأميركية إلى أن جعلت الملف العراقي جزءًا من الملف الإيراني. كما حصدت الحرب الدائرة في سوريا المئات من شباب العراق الذين قضوا بعد تجنيدهم ضمن صفوف الميليشيات العراقية التي كان يقودها الجنرال الإيراني قاسم سليماني. وفي نهاية المطاف، شهدنا كيف خرجت الميليشيات العراقية هاربة من سوريا بعد انتصار الثورة السورية، تاركةً سلاحها وعتادها غنيمةً لرجال الثورة.
ماذا جنى النظام العراقي من مساندته للأسد؟
لم يكسب العراق سوى عداء الشعب السوري الذي سُفك دمه على يد الميليشيات العراقية وغير العراقية، وأصبح بلدًا غير جدير بالثقة من قبل الحكومة السورية الجديدة، ومنبوذًا عربيًا، ويشعر بالخوف من انتقال نجاح الثورة في سوريا إلى داخل العراق.
بل إن قادة العراق اليوم يعيشون هاجسًا كبيرًا من احتمال انتقال المنظمات الإرهابية التي كانت تعمل في سوريا إلى العراق، باعتباره أرضًا خصبة لنمو هذا النوع من الجماعات، خاصة أن النظام العراقي يستمر في سياساته الطائفية ضد المواطنين السنّة، وهي سياسات تغذي بدورها الأفكار المتطرفة لدى التنظيمات الإرهابية.
وقد بدا هذا التخوّف واضحًا في تصريحات بعض القادة العسكريين العراقيين بشأن احتمالية انتقال القوات الأمريكية المتواجدة على الحدود العراقية-السورية إلى وسط سوريا لإقامة قاعدة عسكرية بالقرب من دمشق. إذ ذكر موقع “بغداد اليوم” أن بغداد تواجه اليوم لحظة أمنية مرهفة مع تصاعد المعلومات حول إعادة تموضع القوات الأمريكية في شمال وشرق سوريا، والأنباء المتداولة عن انسحابها من مناطق سيطرة “قسد” وتفكيك قواعدها تمهيدًا لنقل جزء من هذا الوجود إلى قاعدة جديدة في العاصمة دمشق، بوصفها محور الاهتمام المقبل لواشنطن.
ويرى خبراء في الشؤون الأمنية أن الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا كان يمثل “عامل توازن” حاسمًا في منع تمدد تنظيم داعش باتجاه الحدود العراقية، وكانت القواعد الأمريكية تشكّل مظلة استخبارية متقدمة لمراقبة النشاط العابر للحدود وتقديم معلومات مباشرة إلى بغداد. وأي تقليص لهذا الوجود سيخلق “فراغًا أمنيًا سريع الاشتعال” تستفيد منه التنظيمات المتطرفة فورًا.
هل تتعظ الأنظمة التي ساندت نظام الأسد؟
حينما ترى احتفالات الشعب السوري في الذكرى الأولى لانتصار ثورتهم، تجد الفارق شاسع بين شعبٍ يخرج عن بكرة أبيه للاحتفال بالنصر، وبين شعبٍ يجبر على الخروج بالترغيب أو بالتهديد، لإحياء ذكرى انقلاب عسكري واعتباره ثورة، أو ذكرى احتلال كما هو الحال في العراق.
إن المشهد الذي تناقلته جميع وسائل الإعلام من دمشق ومن جميع المدن السورية، وتدفق الحشود الغفيرة للاحتفال بالذكرى الأولى لانتصار الثورة، هو منظر مرعب لنظام مثل العراق، لأن هذه الشعوب خرجت بدون دعوة من النظام، إنما هي خرجت طواعية للتعبير عن فرحتها بهذا الانتصار، لأنها هي التي صنعته ودفعت ثمنه غاليًا من دماء شبابها، وشيوخها، وأطفالها، ونسائها. بينما نجد أن الشعب العراقي ينتظر يوم الخلاص من النظام المتسلط على رقابهم، والنظام العراقي يعرف ذلك، ويدرك، أن هذا الشعب الذي لا يتفاعل مع يريدونه، سيأتي اليوم الذي ينتفض ضدهم ليقتلعهم من كراسيهم.
#تمرة💢|| ياستّار ، عدد السوريين اللي طلعوا الليلة للشوارع متوحدين ، وين اللي كانوا يقولون سوريا متجهة للتقسيم !!🇸🇾🤯🤯
محافظة دمشق تقرّر إلغاء احتفالية ساحة الأمويين بسبب الأعداد الهائلة من الحضور
تم إغلاق الطرق المؤدية إلى الساحة أمام حركة الدخول، مع السماح بالخروج منها فقط pic.twitter.com/AH0SyI6pJt
— تمرة • tmrrah (@tmrrah9) December 8, 2025
هذه الحقيقة يعرفها الجميع، والإدارة الأميركية التي سلّمتهم السلطة في العراق تعرف ذلك تمامًا، وحينما تريد واشنطن الضغط على النظام العراقي تهدّده برفع حمايتها عنه. هذا التهديد كفيل بجعل كل القادة السياسيين في العراق في حالة رعب، ويدفعهم لفعل أي شيء يضمن لهم بقاء الحماية الأميركية.
لكن هل يتعظ قادة النظام العراقي مما يجري في سوريا؟ وهل يدركون أن الظلم والاستبداد وإن طال زمنه فلا بد أن تنتصر إرادة الشعوب؟ لا نظن ذلك، وإلّا فإن أول ما كان يتوجّب على هذا النظام هو الانفتاح على الحكومة السورية الجديدة وفتح صفحة جديدة معها، لأنها حكومة تمثل الشعب السوري. لكن ما نراه هو أنهم يفعلون العكس؛ يحاولون تقويض الحكومة السورية الجديدة ووضع العراقيل أمامها، وما زالوا حتى الآن يراهنون على فلول النظام السابق، لعلّ ضربة حظ تعيدهم إلى الحكم. وهو خطأ كبير يرتكبه النظام العراقي، سيدفع ثمنه لا محالة، وسيكون مصيره لا يقل سوداوية عن مصير بشار الأسد.
لقد فات قادة العراق أن أي نظام يستلم السلطة بعد بشار الأسد سيحتفظ في ذاكرته موقف العراق الرسمي من الثورة، وما يترتب على ذلك من توترات أمنية واقتصادية واجتماعية بين البلدين الجارين، إضافة إلى المزيد من العزلة للعراق عربيًا وإقليميًا ودوليًا.
والحال نفسه ينطبق على بعض الأنظمة الأخرى التي بقيت حتى اللحظة الأخيرة مساندة لنظام الطاغية، وترفض الاعتراف بحكومة سوريا المنبثقة من ثوار الشعب السوري. ولولا الضغوط التي مارستها بعض الدول العربية الوازنة في المنطقة، بالإضافة إلى الرضى الأميركي عن التغيير في سوريا، لبقوا حتى الآن يناصبون العداء للثورة السورية.
إن الزمان لا ينتظر أحدًا، وإذا لم يغيّر النظام العراقي سلوكه تجاه القيادة السورية الجديدة، فسيكون أول الخاسرين، وأول ضحايا التغيير القادم الذي سيشمل دول الشرق الأوسط. وحينها سيصبحون من الماضي، وتُطوى صفحتهم وصفحة من تحالفوا معهم ضمن المحور الإيراني.
إن المحور الإيراني مُقدِم على معركة “انتحار” قريبة لا يخطئها أحد، وإصرار قادة العراق على عدم الانفكاك من تحالفهم مع إيران سيجعلهم في حالة انتحار مع حلفائهم هناك. ومن المؤكد أن نهايتهم لن تكون مأسوفًا عليها إن طالتهم وحدهم، لكن المشكلة أن الشعب العراقي سينال من هذا الدمار نصيبًا، ومن الخراب حظًا وافرًا مع الأسف.