في 8 ديسمبر 2024، سقط النظام السوري برئاسة بشار الأسد، وطُويت معه صفحة ثقيلة في الذاكرة اللبنانية تتمثل في إرث سياسي ونفسي ارتبط بتأثير دمشق على القرار اللبناني، وبقي أثره الرمزي حيًا رغم انحسار تأثيره على الأرض خلال الأعوام الماضية.
ومع هذا التحول، بدأت دمشق وبيروت إعادة اختبار حدود علاقتهما ومصالحهما، وسط محاولات حذرة للانفتاح والحوار، لكن ضمن سياق معقد تُثقله ملفات شائكة مثل قضية اللاجئين، وضبط الحدود والتهريب، والموقوفين في السجون.
ملامح التغيير السياسي والدبلوماسي
تفكيك الإرث القديم وانتقال السلطة
شكّل سقوط نظام الأسد نهاية حقبة تاريخية كانت دمشق خلالها تتدخل في الشأن اللبناني وتعتمد على حزب الله والدعم الإيراني لترسيخ نفوذها، فما تزال ذاكرة اللبنانيين تستحضر عقود الوصاية (1976–2005) بين عهدَي الأسد الأب والابن، وما رافقها من إدخال لبنان في حسابات وصراعات إقليمية تركت أثرًا عميقًا في الوعي السياسي الداخلي.
لكن، خلال عام 2025 شهدت العلاقات محاولات لتطبيع متدرج، وذلك بعد أن أضعفت خسارة الأسد، حزب الله بعد طرد السلطة السورية الجديدة المليشيات الإيرانية ومنعت السلاح من العبور نحو لبنان وسيطرت على إنتاج الكبتاغون وأعادت تأطير العلاقة مع إيران.
في الوقت نفسه يحرص الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع على بناء نظام سياسي براغماتي، ما يفتح الباب لتحسين العلاقات مع لبنان.
رسائل وزيارات واتفاقات
- في 26 ديسمبر 2024، بعث وزير الخارجية اللبناني السابق عبدالله بو حبيب رسالة إلى نظيره السوري أسعد الشيباني أعرب فيها عن تطلع بيروت إلى “علاقات تقوم على حسن الجوار” بعد عقود من التوتر.
- شكل اللقاء الأول بين الشرع ورئيس حكومة اللبناني السابق نجيب ميقاتي بدمشق في يناير 2025 لحظة رمزية كونه الأول بهذا المستوى منذ 15 عاماً. وبحث الجانبان وقتها ترسيم الحدود وضبط التهريب وإعادة اللاجئين السوريين وتسوية ودائعهم بالمصارف اللبنانية.
- وصف الشرع هذا اللقاء بأنه فرصة لفتح صفحة جديدة تقوم على احترام سيادة الدولتين، ودعا إلى “التخلي عن العقلية القديمة”.
- التقى الشرع أيضا نظيره اللبناني جوزيف عون أكثر من مرة خلال عام 2025 على هامش قمم أبرزها في مصر وقطر، وبحث الطرفان عدة قضايا أهمها ملف الحدود.
- في مارس 2025، جرى توقيع اتفاق أمني في جدة برعاية سعودية لترسيم الحدود بين سوريا ولبنان ومكافحة التهريب.
- في 10 أكتوبر 2025 زار وزير الخارجية السوري بيروت في أول زيارة رفيعة المستوى منذ نهاية عهد الأسد.
- أكد الرئيس عون خلال اللقاء ضرورة بناء علاقات متوازنة تقوم على احترام السيادة وتشكيل لجان مشتركة لحل الملفات العالقة، فيما شدد الشيباني على ضرورة الانتقال إلى شراكة سياسية واقتصادية.
- شهدت نهاية 2025 زيارة رئيس الوزراء اللبناني الجديد نواف سلام لدمشق حيث تكررت الدعوات إلى نسج علاقات تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا الدولتين.

الملفات العالقة بين البلدين
اللاجئون السوريون
كان لبنان الدولة المضيفة الأكبر نسبياً للاجئين السوريين قياسا بحجم سكانه وذلك بعد نزوح الملايين من بلادهم إلى دول الجوار على خلفية جرائم نظام الأسد منذ عام 2011.
وبحسب تحديث للأمم المتحدة في 5 ديسمبر 2025، عاد إلى سوريا منذ سقوط الأسد أكثر من مليون و266 ألف شخص من دول الجوار، مبينة أن 294 ألف لاجئ عادوا من لبنان بحلول أكتوبر من نفس العام، بينما ذكرت تقارير أخرى أن العدد ارتفع إلى حوالى 379 ألفاً.
ولفتت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى أن التمويل الدولي لدعم العودة انخفض؛ إذ بلغ تمويل خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2025 نحو 29% فقط، ما يجعل ظروف العودة محفوفة بالتحديات.
ووضعت الحكومة اللبنانية خطة لإعادة اللاجئين بالتنسيق مع دمشق وبرنامج الأمم المتحدة للعودة الطوعية، غير أن منظمات حقوقية تخشى تنفيذ حملات إعادة قسرية في ظل المخاطر الاقتصادية في سوريا.
في المقابل، يدعو الجانب السوري إلى تعاون المؤسسات الدولية وعدم إقحام ملف إعادة اللاجئين في الصراعات السياسية.
السجون والموقوفون
يعد ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية من أكثر الملفات حساسية، وخاصة أن عدد هؤلاء ليس بالقليل، إذ يقدر عدد السوريين المعتقلين بنحو 2600 شخص، 70٪ منهم في الحبس الاحتياطي. وتقول منظمات حقوقية إن 44 شخصاً لقوا حتفهم منذ 2022 بسبب سوء ظروف الاحتجاز.
ويتهم الكثير من المعتقلين بدعم الثورة السورية أو الانتماء إلى مجموعات معارضة، بينما ترى دمشق أنهم معتقلون سياسيون وتطالب بإعادتهم.
وفي أكتوبر 2025 أعلنت وزارة الخارجية اللبنانية الاتفاق مع دمشق على تسليم السجناء السوريين غير المدانين بالقتل. وأكدت تقارير أن أي عفو أو اتفاق قضائي يحتاج إلى إقرار من البرلمان اللبناني الذي يستعد للانتخابات عام 2026.
ويخشى الجانب اللبناني أن تشمل المطالب أسماء مدانين بجرائم أو اعتداءات على الجيش، فيما ترى دمشق أن معظم الملفات مفبركة خلال عهد الأسد وتعهدت بمحاكمة المعتقلين وفقاً للقانون السوري.
ويقترح الباحثون إنشاء لجنة قضائية مشتركة لمعالجة ملفات المحتجزين بشكل يوازن بين سيادة القضاء اللبناني وضمانات حقوق الإنسان.
الحدود والتهريب
تمتد الحدود السورية اللبنانية على نحو 394 كم وتتميز بتضاريس جبلية وعرة تسهل عمليات التهريب والتسلل، فقبل سقوط الأسد، ازدهرت شبكات التهريب التي شملت المخدرات والأسلحة والسلع بسبب ضعف الرقابة وتغلغل حزب الله وعشائر البقاع.
وبعد تغير السلطة، سعت دمشق وبيروت إلى ترسيم الحدود ومكافحة التهريب، عبر اتفاق جدة، وشنت الإدارة السورية الجديدة حملة ضد مخدر الكبتاغون.
ورغم التفاهمات، تتواصل عمليات تهريب الكبتاغون والأسلحة، إذ تشير تقارير إلى أن إنتاجه ما زال مزدهراً في مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة السورية، وأن تفكيك الشبكات دفع الكثير من التجار للانتقال إلى لبنان والعراق، مع احتمال تزايد مشاركة حزب الله والعشائر البقاعية بسبب الأزمة المالية اللبنانية.
ويوضح تقرير لمركز “Stimson” للدراسات أن وادي البقاع اللبناني لا يزال مركزاً لزراعة القنب وتجارة الكبتاغون، وأن الأردن أصبح ممراً رئيسياً للتهريب إلى الخليج، بينما بدأت شبكات جديدة بالظهور في ليبيا وأوروبا.
وفي يوليو 2025، نشبت اشتباكات حدودية في منطقة بعلبك‑الهرمل بين الجيش اللبناني ومهربين حين حاولت القوات السورية إغلاق معابر غير شرعية ما أسفر عن قتلى وأظهر مدى هشاشة الوضع.

مستقبل العلاقات.. السيناريوهات والاحتمالات
يطرح “Middle East Council on Global Affairs” ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين البلدين بعد عام على سقوط الأسد.
- تفاهم مشروط: يلتزم لبنان بترحيل معتقلين سوريين وترسيم الحدود وضبط التهريب، مقابل تعاون دمشق في استعادة اللاجئين وتسهيل التجارة، وهذا السيناريو يعتمد على قدرة السلطات اللبنانية على تجاوز خلافاتها الداخلية وإقناع البرلمان بتمرير اتفاق قضائي.
- الجمود: تتجمد العلاقات بسبب رفض بيروت إطلاق جميع المعتقلين أو نتيجة عرقلة حزب الله، فيتجه الشرع إلى فرض قيود تجارية أو إغلاق الحدود، ما يفاقم الأزمات الاقتصادية في البلدين.
- صفقة إقليمية/دولية: تكون برعاية أميركية وتشبه اتفاق الطائف، يُعاد فيها توزيع النفوذ بين القوى الإقليمية ويتم دمج لبنان وسوريا في خطة سلام شاملة تشمل إعادة الإعمار وتطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي.