أبحاث رأي سرّية، حملات إعلامية رقمية، تجنيد مؤثرين، محاولات للتأثير على منصات التواصل الكبرى وحتى الاستثمار فيها، إلى جانب تضخيم سرديات تربط الفلسطينيين والعرب بـ”التطرف”.
كل ذلك أصبح جزءًا من إستراتيجية إسرائيلية تهدف لإعادة تشكيل صورتها بعد أن تآكلت بشدة حول العالم خلال العامين الأخيرين نتيجة العدوان على قطاع غزة وما خلفه من مآس إنسانية ودمار واسع.
تسريبات بحوث حول سمعة “إسرائيل”
تكليف سري: في أغسطس 2025، كشفت منصة “Drop Site News” عن عرض تقديمي مسرّب أعدته شركة “Stagwell Global” بأمر من وزارة الخارجية الإسرائيلية.
تضمن التكليف استطلاعات رأي لأكثر من 13 ألف شخص في 13 بلداً، وخلص إلى أن نحو نصف الأوروبيين يربطون “إسرائيل” بكونها “دولة إبادة جماعية ونظام فصل عنصري”، رغم أن المشاركين يعارضون حماس وإيران.
كما أظهرت استطلاعات رأي أخرى أن الشباب الأميركي أقل تعاطفاً مع “تل أبيب”. فعلى سبيل المثال، وجد استطلاع لمؤسسة غالوب العالمية أن 9% فقط من الأميركيين بين 18 و34 عاماً يدعمون “العمليات العسكرية الإسرائيلية”.
التوصيات: قدمت الوثيقة اقتراحات لتحسين الصورة، منها إبراز حقوق المرأة والمثليين في “إسرائيل”، واستخدام الخوف من “التطرف الجهادي” لتحقيق مكاسب في الرأي العام؛ حيث لاحظ الباحثون أن هذه الرسائل حققت تغييرات في المواقف تزيد عن 20 نقطة.
كما اقترحت دمج تسجيلات تحكي قصص الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، مع تعليقات تذكر “الجهاد الراديكالي” وتربطه بالفلسطينيين، وفق تعبيرها.
وأمام هذا الواقع، ارتفعت ميزانية الدبلوماسية العامة لعام 2025 إلى 150 مليون دولار، وهي أكثر من 20 ضعفاً من المعتاد، حيث خصصت حكومة الاحتلال أموالا ضخمة لحملات على وسائل التواصل وإرسال وفود إلى الجامعات الأميركية واستقبال مؤثرين.
كيف تحاول “إسرائيل” تحسين سمعتها؟
1- تجنيد المؤثرين وتمويلهم
تلقت شركة “Bridges Partners” نحو 900 ألف دولار لتمويل “حملة مؤثرين” لصالح وزارة الخارجية الإسرائيلية، على أن يدفع العقد لكل مؤثر ما بين 6000 و7372 دولاراً للمنشور الواحد، حيث طلب من المؤثرين إنتاج 75–90 منشوراً بين يونيو وسبتمبر 2025، وكانت الخطة تستهدف تيك توك وإنستغرام وإكس، فيما ينص العقد على أن المحتوى يجب أن يروج لـ”إسرائيل” ويربط الفلسطينيين بـ”الفصائل المتطرفة”.
توسع البرنامج ليشمل شركات أخرى؛ مثل “Genesis 21 Consulting” ومجموعة “Show Faith by Works”، لتنظيم حملات تستهدف المسيحيين الإنجيليين في الغرب.
ووكشفت هآرتس في يوليو 2025 أن الخارجية الإسرائيلية تخطط لاستضافة 16 مؤثراً من تيار ماغا ومؤيدين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى “إسرائيل” لمواجهة تراجع الدعم بين الشباب الأميركي، مع خطط لتنظيم 550 زيارة لمؤثرين بحلول نهاية العام.
وفي أكتوبر 2025، التقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عددا من المؤثرين الأمريكيين في القنصلية بنيويورك. وقال: “علينا أن نقاتل بأسلحة تلائم ساحات المعركة التي نخوضها، وأهمها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد الجبهة الثامنة بالنسبة لإسرائيل”.

2- السيطرة على منصات التواصل
في سبتمبر 2025، نشر موقع “Responsible Statecraft” تقريراً تحت عنوان “إسرائيل تربح تيك توك”، يفصّل استحواذ مجموعة من المستثمرين المقربين من “تل أبيب” على النسخة الأمريكية من التطبيق بعد مزاعم أعضاء في الكونغرس أن المنصة “منحازة للفلسطينيين”.
بين التقرير أن الصفقة، البالغة قيمتها 14 مليار دولار، تضمن سيطرة مستثمرين مثل لاري إليسون مؤسس أوراكل، وروبرت مردوخ وجيف ياس – وجميعهم معروفون بدعمهم لـ”إسرائيل” – على المنصة.
بموجب الصفقة، تحصل أوراكل على 15% من الحصة وتصبح “مزود الأمن”، وسيُتاح للمستثمرين التحكم في خوارزميات التطبيق التي يستهلك من خلالها 30% من الأميركيين الأخبار.
ولفت الموقع إلى أن إليسون يعد أكبر متبرع لجيش الاحتلال وأن شراكته مع سافرا كاتز، المديرة التنفيذية لأوراكل وصديقة نتنياهو، تُمكّن من توظيف بيانات تيك توك لخدمة رواية “إسرائيل”، موضحا أن المستثمر جيف ياس يدعم منظمات مرتبطة بحملات معادية للمسلمين في الولايات المتحدة.
وفور الإعلان عن الاستحواذ الأخير، قال نتنياهو إن شراء تيك توك “أهم صفقة بالوقت الحالي”، مؤكداً أن “الأسلحة تتغير بمرور الوقت؛ أهمها وسائل التواصل”، كما دعا إلى التعاون مع إيلون ماسك مالك منصة إكس لـ”ضمان الانتصار”.
وكشف موقع “Peoples Dispatch” عن تعيين المدربة السابقة في جيش الاحتلال إريكا ميندل، مديرة لسياسة مكافحة الكراهية في تيك توك مما يثير المخاوف من توجّه المنصة نحو تقييد الأصوات المؤيدة لفلسطين.
وذكر أن أوراكل تعاونت مع وزارات إسرائيلية لمشروع يدعى “كلمات من حديد” لدعم المحتوى المؤيد لـ”إسرائيل” على تيك توك وإنستغرام وإكس.
3- تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي
مشروع Clock Tower X: في يوليو 2025، كشفت وثائق أن الخارجية الإسرائيلية تعاقدت مع شركة Clock Tower X، المملوكة لـ”براد بارسكيل” مدير الحملة الرقمية السابقة لترامب، بعقد بقيمة 6 ملايين دولار.
العقد يهدف لإنشاء محتوى يستهدف جيل زد وتوليد 50 مليون انطباع مدفوع شهرياً، إلى جانب بناء مواقع ويب جديدة تعمل على”تأطير الإجابات في محادثات GPT”، أي التأثير على بيانات التدريب التي تعتمد عليها أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وGemini.
وأوضحت صحيفة يديعوت أحرونوت أن البرنامج يستخدم تقنية Generative Engine Optimization” (GEO)”، الشبيهة بتحسين محركات البحث ولكن لتوجيه مخرجات الذكاء الاصطناعي.
مبادرة الروبوتات: ذكرت الغارديان أن شركة SKDKnickerbocker، المملوكة لـ Stagwell Global، حصلت على عقد بـ 600 ألف دولار لإدارة “برنامج قائم على الروبوتات” يهدف إلى إغراق تيك توك وإنستغرام ويوتيوب بالمحتوى المؤيد لـ”إسرائيل”.
لكن سياسة الضغط والمقاطعة أدت إلى إيقاف البرنامج. وفي أوائل 2025، جرى إنهاء العقد مع SKDK وتحويل الموارد إلى Clock Tower.
التلاعب ببيانات التدريب: Clock Tower ستستخدم أيضا أداة MarketBrew AI لتهيئة المحتوى لمحركات البحث، مما يمكن “إسرائيل” من دفع روايتها لتصبح مرجعاً للذكاء الاصطناعي.
بارسكيل كشف أن هذه الشراكة ستكون مع شبكة Havas Media وأن الشركة تعمل تحت إشراف “إسرائيل”، في عمل يستهدف الأمريكيين الذين ابتعدوا عن تأييد “تل أبيب”.
4- حملات الإعلانات الرقمية والتلاعب بالمعلومات
إعلانات “لا توجد مجاعة”: في سبتمبر 2025 كشف تحقيق مشترك لـ “Eurovision News Spotlight” ووكالة “RTVE” الإسبانية، أن لجنة الإعفاءات الإسرائيلية وافقت على إنفاق 50 مليون دولار على حملات معلومات عامة عبر Google وX ومنصات أخرى لنفي المجاعة في غزة.
فقد خصصت 45 مليون دولار لإعلانات على يوتيوب ومنصة Google Display & Video 360، و3 ملايين دولار لمنصة إكس، و2.12 مليون دولار لمنصتي Outbrain وTeads.
ونفّذت وكالة الإعلان الحكومية الإسرائيلية “Lapam” هذه الحملات، ونشرت فيديوهات تُظهر أسواقاً مزدحمة في غزة لتكذيب تقارير عن المجاعة، فيما تلقت غوغل العديد من الشكاوى، بما فيها من جهات حكومية، ضد إعلانات الفيديو الإسرائيلية التي تقول “هناك طعام في غزة”. ورغم ذلك قرر فريق الثقة والأمان في الشركة إبقاء الإعلانات بحجة أنها لا تنتهك سياسة المحتوى.

5- شيطنة الأفراد والمنظمات والإعلام
تحريض فردي وجماعي: كلفت “إسرائيل” شركة “Show Faith by Works” الأمريكية (مؤسسة ضغط – لوبيينغ يمينية) بتدشين حملة لـ “ربط السكان الفلسطينيين بالفصائل المتطرفة” والترويج إلى أنهم “يخفون أسلحة في مدارسهم ويشاركون في هجمات 7 أكتوبر”.
كما تبث “إسرائيل” رسائل تستهدف الجمهور المسيحي لتبرير دعمها من خلال إثارة الخوف من الإسلام والعرب. على سبيل المثال، نشر يميني إسرائيلي صورة مؤخرا يحرِّض فيها ضد السوريين في ألمانيا لأنهم تظاهروا في ذكرى سقوط نظام بشار الأسد.
كما نشر تغريدة أخرى قال فيها: “في برلين، يهتف الإسلاميون الله أكبر وسط تصفيق اليساريين المتطرفين. تجمّع الإسلاميون واليساريون علنًا، ممجدين حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في قلب ألمانيا”.
تستخدم هذه الأمثلة الشخصية لتوضيح أن التحريض ضد العرب والمسلمين ليس ظاهرة عفوية بل جزء من حملة موسَّعة تهدف إلى صرف الانتباه عن الجرائم الإسرائيلية في غزة وإعادة تعريف الصراع كحرب مزعومة ضد “التطرف الإسلامي”.
تشويه المنظمات الدولية: تبيّن المواد المسربة أن وكالة “Lapam” الإسرائيلية الحكومية، مولت إعلانات تتهم الأمم المتحدة ووكالة الأونروا بأنها “مناصرة لحماس”.
تضمنت الإعلانات دعوات للعثور على “ثغرات” في تقرير هيئة تصنيف الأمن الغذائي (IPC) حول المجاعة، وظهرت أعلى نتائج البحث في دول أوروبية لإعادة توجيه المستخدمين إلى موقع حكومي إسرائيلي. وتضاعف عدد الإعلانات التي تبثها “Lapam” من 2000 في عام 2024 إلى أكثر من 4000 في 2025، نصفها يستهدف جمهوراً دولياً.
الهجمات على الإعلام: دشنت وزارة الخارجية الإسرائيلية حملة دعائية مكثفة على منصة إكس؛ تضمنت إعلانات مدفوعة تهاجم وسائل إعلام مثل BBC وCNN وتتّهمها بنشر “دعاية حمساوية”.
