مع غروب شمس كل نهار، يخرج الصياد خضر بكر وطفله حسن مرتديَين الجاكيتات الشتوية الثقيلة، مُلوحين لأفراد العائلة المكوّنة من ثلاثين فردًا بالوداع، فيما تحمل أناملهم وجبة طعام وزجاجة ماء يسيرون بها مشيًا على الأقدام مسافة كيلوين وصلاً إلى الميناء البحري، وجه وروح المدينة، الذي دمّرته صواريخ الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة على قطاع غزّة.
أمضى بكر في ممارسة مهنة الصيد أكثر من واحد وثلاثين عامًا، لكونها متوارثة أبًا عن جد، رغم مخاطرها وملاحقات الاحتلال الإسرائيلي من الزوارق الحربية على مدار السنوات وحتى اللحظة.
يحدثنا الصياد الأربعيني بكر، الذي تركت أشعة الشمس أثرًا على وجهه وأنامله: “طالعين واضعين أرواحنا على كفوفنا، الإسرائيليين مش تاركين البحر ولا حتى مساحة الكيلومتر المتفق عليها في هالهدنة الهشّة. يوميًا يتم إطلاق النار واعتقال وملاحقة للصيادين من قبل الزوارق الإسرائيلية رغم عدم تجاوز الـ800 متر!”.
الصياد بكر واحد من مئات الصيادين الفلسطينيين الذين يخاطرون بحياتهم مع توقّف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، للحصول على أرزاقهم رغم تدمير مراكبهم وحرمانهم من مصدر عيشهم الوحيد.

وبنبرة صوتية مرتجفة يقول: “بخاطر لأحصّل قوت عائلتي وأعيل أفراد أشقائي الثلاثين. ما خلّونا اليهود أي حسكة ولا سفينة ولا غزل صيد من اللي كنا نشتغل فيه على مدار الأعوام السابقة، قبل حرب الإبادة اللي دمّرتنا وقطعت أرزاقنا”.
بمزيج من الألم والفخر يتابع الصياد بكر: “بعدما تعمّد الاحتلال الإسرائيلي تدمير وحرق أدواتنا ومعدّات صيدنا، حاولنا النهوض من جديد بعمل حسكات المجداف، وهي القوارب البدائية الصغيرة المصنوعة من الفلين والمخصّصة لشمّ الهواء في البحر بالتجديف اليدوي. لكننا عملنا على تطويرها وتوسيعها، ووضعنا عليها غزل الصيد، وبدل ما يركبها شخص واحد، صارت تتّسع لأربعة أشخاص”.
سألناه: “هل هي آمنة في البحر؟”، تنهد وشدّ قبضة أنامله وقال: “غير آمنة، أنت وربّك وحظّك. ممكن تقلب فيك في عرض البحر أو يصير فيها حادث… لكن ما في حلّ غيرها”.
يحدّق الصياد بكر في البحر وأمواجه المتلاطمة ويخبرنا: “يوميًا أرمي الغزل في البحر وأنْتظر أكثر من 15 ساعة وسط البرد والعتمة وإطلاق النار. وما أصطاده من السمك قليل، ما ينقارن بما كان قبل حرب الإبادة من أنواع السردينة والسلطعونات والبوري والغزلان والجمبري. اللي بطلعه ما بأكله لعائلتي لسعره المرتفع؛ الكيلو بتجاوز 200 شيكل. ببيعه وبقدر أتدبّر مصروفات واحتياجات عائلتي اليومية”.
سألناه: “هل تعرضتَ للاعتقال من الاحتلال الإسرائيلي؟”، يجيب “نون بوست”: “في عام 2011 اعتقلني الاحتلال الإسرائيلي، وخضعت للتحقيق لأكثر من 24 ساعة. وأخبرني المحقق الإسرائيلي بعربية ركيكة: “أنا بدي أقطع رزقك من البحر يا بكر”. ومن ثم أطلق سراحي، وبقي زورقي لمدة أربع سنوات ونصف مصادَر لدى الاحتلال الإسرائيلي”.
“لم يثنِني الاحتلال الإسرائيلي عن الصيد. نحن عائلة امتهنت الصيد أبًا عن جد. زينا زي السمك، لو طلع من البحر بموت. رغم كل المخاطر والاعتقالات اليومية اللي بعيشها وبشوفها، ما بترك البحر ولا السمك”، يقول الصياد بكر.
– سلّطت “تلجراف” الضوء على اختفاء خمسة صيادين فلسطينيين من عائلة الهسي، خرجوا للصيد في أحد أيام تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي ولم يعودوا، وسط مخاوف عائلتهم من أن يكونوا قد اعتُقلوا في البحر. وقد مر شهر كامل دون العثور على أي أثر لهم، لا قوارب ولا جثث.
– تشير تقديرات العائلة، بحسب… pic.twitter.com/65vJXMK3BT
— نون بوست (@NoonPost) December 9, 2025
على ميناء مدينة غزّة، الذي اكتست أرضيته بالخيام والركام نتيجة التدمير الإسرائيلي الممنهج، حيث تفوح رائحة الملح والسمك، يمضي الأب الأربعيني رامي الكرد بين بسطات الصيادين متسائلًا عن أسعار السمك ليجلبه لعائلته.
يقول الأب: “إصابة ابني هي ما دفعتني لنزول الميناء البحري وشراء السمك الذي نصحنا الطبيب به، لكونه غذاءً صحيًا خاليًا من المواد المصنّعة والمعلّبة، اللي مضارها أكثر من منافعها في هالأيام. اشتريت 2 كيلو سمك رغم سعره اللي يتجاوز 400 شيكل نقدًا”.
ويضيف الكرد: “قبل حرب الإبادة الإسرائيلية، كنا نشتري السمك مرة واحدة في الأسبوع ونتناوله وسط جمعة الأسرة لأنه مفيد وصحي. لكن خلال حرب الإبادة ما تذوقناه منذ عامين ونصف بسبب تضييق الاحتلال على الصيادين وانعكاس ذلك علينا”.
“230 صيادًا قُتلوا أثناء عملهم في البحر والمناطق القريبة، من بين نحو 5 آلاف صياد يعيلون ما يقرب من 50 ألف نسمة، وتُقدَّر خسائر الصيادين بنحو 75 مليون دولار”، يقول نقيب الصيادين في قطاع غزة، نزار عيّاش.
وأضاف نقيب الصيادين: “قطاع الصيد بحاجة إلى إعادة بناء من الصفر، حيث وصلت نسبة الدمار إلى 90% من مقدرات الصيادين في ميناء غزّة، من المراكب الكبيرة والصغيرة ومعدات الصيد، خلال الهجمة الإسرائيلية الشرسة على القطاع منذ السابع من أكتوبر عام 2023. لقد دمّر الاحتلال البنية التحتية في قطاع الصيد، من مصانع الثلج وأنظمة الطاقة الشمسية وإنارة الليل، واستهدف غرف الصيادين بشكل كامل بواسطة الزوارق والطائرات الحربية”.

“يحتل قطاع الصيد المرتبة الثانية بعد الزراعة، حيث كان إنتاج غزّة قبل الحرب 4000 طن سنويًا، واليوم لا يتجاوز 500 طن، وسط صراع للبقاء يتعرض له الصيادون من قبل الاحتلال الإسرائيلي. بعدما كان الصيادون في القمة باتوا أسفل الصفر”، وفق عيّاش.
ويؤكد: “قطاع الصيد محاصر من جميع الاتجاهات؛ من إغلاق المعابر ومنع دخول أدوات الصيد والمعدات، مما دفع الصيادين لمحاولة استصلاح وترميم مراكبهم بأبسط الأدوات”.
“منذ اندلاع حرب الإبادة على غزّة، استُهدف الصيادون الفلسطينيون بشكل ممنهج خلال محاولتهم النزول إلى البحر لكسب لقمة العيش. ووثّقت المؤسسات الحقوقية مئات الحوادث التي أطلقت فيها زوارق البحرية الإسرائيلية النار على مراكب الصيد، واعتُقل صيادون تعسفيًا، وفي بعض الحالات رُمي بهم إلى البحر بعد تقييدهم، مع مصادرة قواربهم ومعدّاتهم”، يقول د. صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد”.
ويتابع عبد العاطي: “هذه الانتهاكات ليست أحداثًا معزولة، بل تمثل جزءًا من حرب على البحر تهدف إلى منع الصيد وإفقار الصيادين. اعتُقل أكثر من 40 صيادًا وما يزال 11 رهن الاعتقال”.

وتطرّق رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني إلى انخفاض إنتاج الأسماك إلى مستويات شبه معدومة تجاوزت 95٪ مقارنة بما قبل الحرب، مع تعطيل المصدر الغذائي الرئيسي لآلاف العائلات في غزّة ومفاقمة آثار الحصار والمجاعة.
ويضيف د. عبد العاطي: “تُرقى هذه الانتهاكات إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي، إذ يمثّل منع الصيد وتدمير وسائل الكسب واستهداف المدنيين وحرمانهم من الغذاء عقابًا جماعيًا ممنهجًا محظورًا بموجب القانون الدولي الإنساني”.
ويؤكد المحامي والناشط القانوني: “على المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية التحرك لمحاسبة وتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة الجنائية الدولية، وإصدار أوامر حماية عاجلة لضمان حق الصيادين في الوصول إلى البحر وممارسة مهنتهم، وتعويض المتضررين وإعادة تأهيل الثروة السمكية في غزّة”. ورغم الزوارق الإسرائيلية والمياه الضيّقة، يصرّ الصيادون على الإبحار وملاطمة الأمواج، يخوضون عبابه بإرادة لا تلين.