وفّرت الثروات الهائلة لأبوظبي نفوذًا غير مسبوق في مجالات التمويل والطاقة والذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.
ولتحقيق ذلك، أبرمت الصناديق السيادية الثلاثة للإمارة – جهاز أبوظبي للاستثمار (إيه دي آي إيه)، ومبادلة، وأبوظبي القابضة (إيه دي كيو) – مئات الصفقات خلال السنوات الأخيرة، في إطار سعيها لتوظيف حصتها من تريليونات الإمارات، وتنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد على النفط، وفقًا لتحليل أجرته وكالة بلومبيرغ استنادًا إلى آلاف التقارير الإخبارية والملفات التنظيمية والبيانات الصحفية. إلى جانب أدوات الاستثمار الأخرى التابعة لأبوظبي، أصبحت هذه الصناديق من بين أكثر المستثمرين نشاطًا وتأثيرًا على مستوى العالم.
يستغرق قطع المسافة من طرف أبوظبي إلى طرفها الآخر أقل من 30 دقيقة بالسيارة، وهي رحلة قصيرة تمنح مشاهد لأفق متلألئ ومياه الخليج العربي الفيروزية. لكن خلف هذا المشهد تكمن كيانات تدير ما يزيد على تريليوني دولار، وهو مبلغ يفوق حجم اقتصاد كل من هولندا وسويسرا مجتمعين.
ورغم صغر حجم المدينة، فإن نفوذها المالي يمتد اليوم عبر القارات؛ فهي لا تحتضن ثلاثة صناديق سيادية فحسب، بل شهدت أيضًا في السنوات الأخيرة إنشاء مجموعة من الكيانات الجديدة التي تضخ مليارات الدولارات في قطاعات محددة. من بينها إم جي إكس، المستثمر في الذكاء الاصطناعي الذي يستهدف أصولاً بقيمة 100 مليار دولار، وإكس آر جي، الكيان الاستثماري في الطاقة بقيمة 151 مليار دولار، ولُنيت، الذي أصبح خلال عامين فقط أكبر مدير للاستثمارات البديلة في المنطقة.
لقد سخّرت الإمارة ثروتها لتتحول إلى قوة استثمارية كبرى في مجالات المال والطاقة والذكاء الاصطناعي. ولهذا السبب تقوم شخصيات بارزة مثل الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، لاري فينك، أو بروس فلات من بروكفيلد بزيارات منتظمة إلى أبوظبي.
وفي الأيام المقبلة، ستتوافد أسماء بارزة من وول ستريت مجددًا إلى المدينة للمشاركة في أسبوع أبوظبي المالي السنوي، بحثًا عن نصيب من هذه الثروات الهائلة.
وبالنسبة للكثيرين، ستكون رحلة الطيران الطويلة إلى ما تصفه أبوظبي بـ”عاصمة رأس المال” الجزء الأسهل. أما عند الوصول، فسيتعين عليهم التعامل مع شبكة معقدة من الصناديق السيادية، وشركات العائلة الحاكمة، ومديري الأصول الذين يسيطرون على تريليونات أبوظبي.
وقالت آنا ناكفالوفايت، الباحثة في صناديق الثروة السيادية بكلية كيلوج التابعة لجامعة أكسفورد: “أصبحت أبوظبي محطة لا بد من زيارتها في كل دورة رئيسية لجمع التمويل. لقد غدت الصناديق السيادية لأبوظبي لاعبين محوريين في مجالات الملكية الخاصة والبنية التحتية، ولا سيما في مجال الائتمان الخاص، حيث تراجعت البنوك الغربية عن المشهد.”
كان صعود الإمارة على الساحة العالمية سريعًا؛ إذ كانت تُعرف في السابق كقرية صغيرة لصيد الأسماك والغوص بحثًا عن اللؤلؤ حتى اكتشاف النفط في منتصف القرن العشرين.
واليوم، تسيطر أبوظبي على ما يقارب 6 بالمئة من إجمالي احتياطيات النفط الخام في العالم، وتدرّ شركتها الوطنية للطاقة مليارات الدولارات من الأرباح سنويًا. ويُستخدم جزء كبير من هذه الأموال حاليًا لتمويل جهود المدينة في تنويع اقتصادها بعيدًا عن السلعة التي أطلقت شرارة الطفرة النفطية.
وفي هذا السياق؛ أصبحت أبوظبي في موقع استثنائي؛ فمن النادر أن تمتلك مدينة صندوقًا سياديًا واحدًا، بينما عاصمة الإمارات لديها ثلاثة. ومن بين هذه الصناديق، تُعد شركة مبادلة للاستثمار التي تبلغ قيمتها 330 مليار دولار الأكثر نشاطًا بفارق كبير، إذ أبرمت أكثر من 300 صفقة خلال السنوات الخمس الماضية وحدها، وفقًا لتحليل بلومبيرغ. كما أن عشرات المليارات التي وظفتها في عام 2024 جعلتها الصندوق السيادي الأكثر نشاطًا في العالم، بحسب شركة الاستشارات “غلوبال إس دبليو إف”، وعززت اندفاعها نحو قطاعات مثل الائتمان الخاص والذكاء الاصطناعي.
وبالإضافة إلى الاعتماد على مواردها الذاتية، تمتلك مبادلة مجموعة من الشركات التابعة والمحافظ الاستثمارية التي يمكنها الاستفادة منها لتوظيف ثرواتها. فعلى سبيل المثال، مجلس أبوظبي للاستثمار (إيه دي آي سي) – وهو وحدة مستقلة تابعة لمبادلة – يواصل التوسع في مجالات مثل الأصول الخاصة والعملات الرقمية. وقد زاد المجلس مؤخرًا حجم استثماره في صندوق متداول للبيتكوين بأكثر من ثلاثة أضعاف.
أين تستثمر أبوظبي ثروتها السيادية
العدد التقديري للاستثمارات التي شاركت فيها الصناديق السيادية الثلاثة للإمارة منذ عام 2020، بحسب المنطقة:
ملاحظة: يتضمن عدد الصفقات احتساب مجموعة من الشركات التابعة والكيانات التي تسيطر عليها الصناديق. أما الصفقات التي شارك فيها صندوقان معًا، فقد جرى إدراجها ضمن إجمالي كل منهما. وفي بعض الحالات، تستهدف الصفقات مناطق أو قطاعات متداخلة؛ لذا تم اعتماد التصنيف وفق أوسع نطاق جغرافي يشمل جميع المناطق المعنية.
وبينما أصبحت مبادلة معروفة كقوة دولية في إبرام الصفقات، فإن صندوق أبوظبي القابضة (إيه دي كيو) الذي تبلغ قيمته 263 مليار دولار يميل إلى البقاء أقرب إلى الداخل؛ إذ أظهر التحليل أن أكثر من ثلث صفقاته البالغ عددها نحو 280 خلال نصف العقد الماضي كانت مع شركات مقرها الإمارات. ورغم أنه الأصغر بين الصناديق الثلاثة، إلا أن صندوق أبو ظبي يُعد الأسرع نموًا، حيث تضاعفت أصوله أكثر من مرتين خلال السنوات الأربع الأخيرة. ويضم اليوم محفظة متنوعة تشمل كل شيء من حصة في دار المزادات سوذبيز إلى شركة الطيران الوطنية لأبوظبي.
أما جهاز أبوظبي للاستثمار (إيه دي آي إيه)، فهو العملاق الذي لم يكشف علنًا عن حجم أصوله تحت الإدارة، لكن تقديرات “غلوبال إس دبليو إف” تضع الرقم في حدود تريليون دولار. وتأسس الجهاز عام 1976 كأول صندوق ثروة سيادي في أبوظبي بهدف الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. وبعد نصف قرن، أصبح معروفًا بدعمه لعدد كبير من شركات الملكية الخاصة وصناديق التحوط، إلى جانب بروزه كلاعب رئيسي في الصفقات الخارجية. فعلى سبيل المثال، ضخ مليارات الدولارات في الهند خلال السنوات الأخيرة، حيث تسعى الإمارات إلى تعزيز علاقاتها التجارية هناك.
ويقف وراء العديد من أدوات الاستثمار في أبوظبي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان – أحد نواب حاكم الإمارة، وشقيق رئيس دولة الإمارات، وابن مؤسسها. ويشغل منصب رئيس كل من جهاز أبوظبي وصندوق أبوظبي، إضافة إلى كيانات أحدث مثل إم دي إكس. ويشرف الأمير على ما يقارب ثلاثة أرباع ثروة أبوظبي السيادية، فضلاً عن أهم شركة استثمار خاص في الدولة، وأكبر مصرف فيها، وأكبر شركة مدرجة في سوقها المالي.
الوصف: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، الذي يرأس العديد من أدوات الاستثمار في أبوظبي، خلال زيارة أجراها في البيت الأبيض في شهر مارس/ آذار.
وسعت العديد من هذه الكيانات إلى إبرام صفقات أكثر طموحًا عبر مختلف القطاعات. ففي مجال البنوك، حاولت شركات يشرف عليها الشيخ طحنون الاستحواذ على ستاندرد تشارترد ولازارد. ورغم أن أيًا من الصفقتين لم تكتمل، إلا أن ذلك عكس نية أبوظبي في ترك بصمتها على التمويل العالمي.
وأظهر التحليل أن مستثمري المدينة لطالما ضخّوا الجزء الأكبر من أموالهم في شركات إدارة الأصول، وصناديق الائتمان، وشركات رأس المال المغامر، والخدمات المالية والتأمينية أكثر من أي قطاع آخر.
غير أن التركيز بدأ يتغيّر في الآونة الأخيرة؛ حيث يشير التحليل إلى أن عدد الصفقات في مجال الذكاء الاصطناعي هذا العام قد يتجاوز لأول مرة استثمارات الصناديق في قطاع الخدمات المالية. لقد أصبح الشرق الأوسط لاعبًا رئيسيًا في هذا القطاع المعروف بكثافة رأس المال؛ حيث يمكن أن تصل تكلفة إنشاء مراكز بيانات أو مصانع لتصنيع رقائق أشباه الموصلات إلى مليارات الدولارات.
وقامت شركة مبادلة بعقد صفقات أكبر وأكثر تكرارًا في هذا القطاع بعد أن دخلت العام الماضي في شراكة مع شركة “جي 42″، الشركة الرئيسية للذكاء الاصطناعي في الإمارة، لدعم شركة “إم جي إكس”. وقد نفذت الشركة الجديدة سلسلة من الصفقات اللافتة للنظر، وانضمت مؤخرًا إلى “بلاك روك” عبر شركتها “جلوبال إنفراستركتشر بارتنرز” لشراء شركة “ألّايند داتا سنترز” في صفقة ضخمة بلغت 40 مليار دولار.
وتنشط أيضًا هيئة أبوظبي للاستثمار في هذا القطاع، بينما تواصل شركة أبوظبي التنموية القابضة ضخ الأموال في عدد من المعادن الحيوية اللازمة لإنجاز هذه التكنولوجيا. أما شركة “إكس آر جي”، الذراع الاستثمارية الدولية لشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، فقد وضعت نصب أعينها الاستثمار في أنظمة الطاقة الأساسية التي تغذي مراكز البيانات.
وقال ديفيد بترايوس، الجنرال السابق في الجيش الأمريكي ورئيس فرع شركة “كيه كيه آر” في الشرق الأوسط، في مقابلة: “لقد تطوّر المستثمرون الإقليميون بمرور الوقت، ويصعب جدًّا جمعهم تحت إطار واحد، صدق أو لا تصدق، لأن لكل مستثمر شخصية مختلفة قليلًا عن الآخر”.
وأدى تعلم كيفية التعامل مع شبكة المال المعقدة هذه إلى حصول البعض على شيكات كبيرة. خذ على سبيل المثال صندوق “بريفان هوارد”؛ حيث أمضى صندوق التحوط الكلي العالمي سنوات في تعزيز وجوده في الإمارة، ويُدير الآن حوالي 10 مليارات دولار محليًا؛ أي أكثر مما يديره من لندن أو نيويورك. وقد أعلنت الشركة في أغسطس/ آب أنها حصلت على التزام بقيمة 2 مليار دولار من شركة “لونيت” لإنشاء منصة استثمارية جديدة. وتضم “لُونيت” كلًا من جهاز أبوظبي للتنمية وشركة “شيميرا للاستثمار – وكلاهما يخضع في النهاية لإشراف الشيخ طحنون – كشركاء رئيسيين محدودين.
بالمقابل؛ يمكن لكثيرين آخرين ممن يصلون إلى أبوظبي بحثًا عن الثروة أن يضلّوا الطريق بسهولة رغم صغر حجم المدينة نسبيًا. فعندما حضر أحد مديري الصناديق مؤتمرًا لجمع الأموال، لم يكن لديه أدنى فكرة من أين يبدأ. وبالكاد استوعب الفرق بين جهاز أبوظبي للاستثمار وشركة مبادلة، قبل أن يُقال له إنه بحاجة إلى إضافة هيئة الاستثمار الإماراتية وصندوق معاشات أبوظبي إلى قائمة المستثمرين المحتملين الذين يجب أن يزورهم.
وقبل أسابيع قليلة فقط، أعلنت أكبر شركة مدرجة في الإمارة، “الشركة العالمية القابضة”، أنها ستدمج ثلاثًا من وحداتها لتشكيل عملاق استثماري جديد يدير أصولًا بقيمة 33 مليار دولار؛ مجموعة “تو بوينت زيرو”.
وليس من المستغرب أن يسود بعض الارتباك؛ حيث قال ستيفان هووبس، الرئيس التنفيذي لمجموعة “دي دبليو إس، ذراع إدارة الأصول التابعة لـ”دويتشه بنك”، والتي افتتحت مؤخرًا مكتبًا في الإمارة: “لن تجد كل شيء على ويكيبيديا. تحتاج إلى وجود أشخاص على الأرض يفهمون الديناميكيات. وأعتقد أنه من المهم جدًا أن تعامل كل واحد منهم كعميل مستقل؛ حيث يجب الحفاظ على الخصوصية والسرية، بدلًا من معاملتهم ككيان واحد تحت اسم أبوظبي”.
ومن بين الصناديق القائمة، لا ينبغي الخلط بين شركة “مبادلة” وذراعها لإدارة الأصول البديلة “مبادلة كابيتال”، التي تدير أموالًا لمستثمرين خارجيين من أطراف ثالثة عبر صناديق مخصصة – وهو أمر نادر بالنسبة لكيان مملوك لصندوق سيادي -. وفي السنوات الأخيرة، شرعت “مبادلة كابيتال” في حملة صفقات في أمريكا الشمالية، منفذة عمليات كبيرة ومعقدة، من بينها الاستحواذ الكامل على شركة إدارة الصناديق المشتركة الكندية “سي آي فاينانشال كورب“، وصفقة الاستحواذ على مجموعة “فورتريس إنفستمنت غروب”.
أما في جهاز أبوظبي للتنمية، فهناك شركة “بيور هيلث”، وهي مختلفة عن “مبادلة هيلث”. وكلاهما منفصل عن “إم 42″، وهو مشروع مشترك بين “جي 42 هيلث كير” و”مبادلة هيلث”. (تحمل أسماء العديد من الكيانات في أبوظبي الرقم 42، تكريمًا لرواية “دليل المسافر إلى المجرة”، التي يُذكر فيها أن هذا الرقم هو الإجابة عن “السؤال النهائي حول الحياة والكون وكل شيء”).
من جانبهم، أقرّ المسؤولون بالمخاطر المتمثلة في احتمال أن تتنافس شركات مختلفة فيما بينها على أصول متشابهة. وللتخفيف من هذا الالتباس، يشرف جهاز رفيع المستوى في الإمارة على مقترحات الاستثمار.
ومع ذلك، فإن شركات التمويل مستعدة للغوص في هذه الشبكة المعقدة، نظرًا لعدم وجود مستثمرين آخرين في العالم يمتلكون حجم السيولة الذي تملكه الكيانات في أبوظبي.
وقال أمين بوشنتوف، الرئيس التنفيذي للاستثمار في شركة “أطلس مينا كابيتال”، وهي شركة عائلية مقرها أبوظبي: “في أبوظبي، كما هو الحال في بقية المنطقة، لا يوجد دليل أو خريطة تخبرك إلى أين تذهب – ليس شيئًا يمكنك العثور عليه عبر غوغل. إن المنظومة مبنية على شبكة عميقة من العلاقات الشخصية الموثوقة، وفي قلب هذه العلاقات تكمن الثقة، وهي أمر لا يمكن شراؤه؛ بل يُكتسب على مدى سنوات، وفي كثير من الأحيان على مدى عقود”.
الكتاب: بريانجانا بنغاني ونيكولاس باراسي وأليكس دولر ودينيش ناير وديميتريوس بوغكاس
المصدر: بلومبيرغ




