ليس الركام في غزّة أثرًا يُختزل في حدث القصف أو منتجًا إسرائيليًا لتدمير الحاضر، بل هو بنية استعمارية متعمّدة تستمر في فرض نفسها داخل الزمن المدني، حيث يحدد حياة الفلسطينيين اليومية، ويعيد تشكيل علاقتهم بالمكان والزمان والجسد. فلا يُفهم الركام كحالة مؤقتة بين الدمار والإعمار، بل كزمن معيش، وفضاء سياسي مقصود يُعاد إنتاجه باستمرار لتعليق المستقبل، بما يفرضه على الفلسطينيين من عيش في واقع مشبع بالخراب، بلا أفق واضح لإعادة البناء واستعادة طبيعيّة الحياة.
فما يبدو في الظاهر انهيارًا عمرانيًا، هو في الجوهر إنتاج لشكل جديد من استعمار الفضاء، تُدار فيه الحياة اليومية عبر الدمار، باستمرارية تتجاوز العجز التقني وفراغ إدارة ما بعد الحرب، لتشكّل سياسة واعية من الاحتلال لإبقاء غزة في حالة مادية وزمنية معلّقة، حيث تتجاور الحياة والموت داخل المشهد ذاته، وتتحول تجربة الدمار إلى ممارسة استعمارية يومية للسيطرة.
عرض هذا المنشور على Instagram
بهذا المعنى، تتحول الأنقاض من أثر حربي إلى أداة حكم مادي، ومن علامة موت إلى شكل جديد للحياة داخل دائرة المشهد المهدّم. وهذا ما يفرض قراءتها بوصفها بنية اجتماعية وسياسية مادية قائمة بذاتها، وأرشيف حيّ يوثّق القتل والتدمير من جهة، ويوظّف كأداة يومية لإدارة البقاء من جهة أخرى. إذ يؤكد الركام استمرارية السيطرة الإسرائيلية على المكان والفعل اليومي للفلسطينيين، حيث تُرغم فيه أجسادهم على التكيّف مع فضاء مدمر وحياة بين الخراب.
فلا يقتصر العنف على لحظة القصف، بل يستمر عبر الحيز المادي الذي يتحوّل إلى بيئة مميتة، تعيق الحركة والمعيش، وتعرقل الخدمات الأساسية، وتشكّل خطرًا مستمرًا على السكان المحاطين بعنف مستمر لا يتوقف عند حدود الجسد، بل يلاحقهم في الحيز الذي يأويهم، وفي المشهد الذي يُجبرون على العيش داخله مع تحول الركام إلى عنصر فاعل في تشكيل نمط حياتهم، إذ يستمر في إعادة إنتاج أطر التقييد والحرمان ويفرض نمطًا جديدًا من المعيش داخل مدن معلّقة بين الإعمار والدمار. وبذلك يشكّل الركام نوعًا من الهيمنة الرمزية ويتحول إلى سياسة في ذاته للإبقاء على القطاع في حالة رماد دائم وإدارة الفلسطينيين اجتماعيًا واقتصاديًا عبر أنقاضهم، من خلال القيود التي يفرضها على كلٍّ من الحاضر والمستقبل.
دمرت الحرب ملاعبهم وسرقت منهم حياتهم.. لم يجد هؤلاء الأطفال في غزة سوى ركام منزلهم ليعيشوا لحظات من اللعب والمرح. pic.twitter.com/78o3Izf6LI
— نون بوست (@NoonPost) October 29, 2025
في هذا السياق، يصبح الركام رمزًا مركزيًا لفهم العلاقة بين العنف الاستعماري والمكان، حيث يشتبك الاقتصاد السياسي للسيطرة مع الزمن المدني والفضاء الاجتماعي، ويشكل حياة الفلسطينيين في إطار الخراب الذي يعكس استمرار الهيمنة من خلال بنيته المادية نفسها.
أولاً: الركام كأرشيف استعماري حيّ
يتجاوز الركام الذي يزيد على 60 مليون طن من الأنقاض، وصفه بالبقايا المادية للدمار وآثار القصف التي قد تُختزل قيمتها بعملية إعادة الإعمار، ليشكّل أرشيفًا زمنيًّا-مكانيًّا حيًّا للسيطرة الاستعمارية على السكّان. حيث يتحول البيت والشارع والمدرسة والمستشفى، بما يحتويه هذا العمران من منظومات تفاعلية وذاكرة جماعية، إلى أداة استعمارية تعمل كسجل يومي للهيمنتين المادية والسياسية الّتين تُنتجان الهياكل القسرية للسيطرة. فلا يقتصر الرماد على كونه أثرًا بصريًا للخراب بقدر ما يعمل كأداة سياسية ورمزية تفرض على أهالي القطاع التعايش مع أنماط حياة يومية معلقة ما بين الخراب والإعمار؛ الذكرى والفقدان؛ الماضي والمستقبل.
رغم إعلان وقف إطلاق النار.. حروب خفية بدأت تظهر في غزة، 61 مليون طن من الركام والنفايات والسموم. pic.twitter.com/InsQKXZ9XY
— نون بوست (@NoonPost) November 10, 2025
كما يمكن قراءة الركام من منظور سوسيولوجي باعتباره فضاءً زمنيًا حيًّا لتجسيدات السلطة، يمتد تأثيره إلى ما بعد مرحلة وقف الحرب ليؤثر على التنظيم الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية ومختلف تفاصيل الحياة اليومية وتصورات الفلسطينيين لمستقبلهم. فلا يُفقد تركيم العمران الوظيفة المادية للعمران فقط، وإنما يُفرغه من المعنى والحمولة السوسيوثقافية ليفرض على السكان إعادة تعريف علاقتهم بالمكان، فتعمل البيئة المهدمة كأرشيف قسري يوثق الموت والإبادة من جهة، ويُستعمل كوسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية الممنهجة في إدارة الحاضر والسيطرة على المستقبل من جهة أخرى. إذ يعكس هذا الأرشيف المادي للدمار، عبر إبقاء الركام دون إزالة بمنع توفير آليات ذلك أو السماح بدخول المواد الأساسية للإعمار، إرادة سياسية متعمدة تهدف إلى تأبيد الهيمنة الإسرائيلية على الحياة الفلسطينية سياسيًا واجتماعيًا ورمزيًا، من خلال استخدام الدمار كأداة لإدارة الزمن الفلسطيني بهدف تثبيت النظام الاستعماري في الزمن المدني اليومي، حتى بعد وقف إطلاق النار، باستدامة العنف في الإجبار على العيش في زمن الركام، حيث تتداخل حياة الفرد اليومية مع مشاهد الخراب المستمر.
وعلى المستوى الاجتماعي، يشكّل الركام آلية قسرية لإعادة إنتاج العلاقات والممارسات داخل بيئة اجتماعية تُفرَض فيها التفاعلات ضمن شروط الخراب، لتصبح جزءًا من أرشفة السيطرة في فضاء مُنتج ليتداخل فيه الموت مع الحياة اليومية كتجربة جماعية مستمرة في ظل استمرار سياسات وأدوات الإبادة، والإجبار على إعادة تنظيم الحياة قسرًا وفق خرائط الخطر واحتمالات النجاة، بما أعاد ويعيد تشكيل ديناميات السكن والنزوح وأشكال الحركة والعمل خلال الحرب وما بعد وقفها بالاتفاقيات الهشة، في فضاء عام يحكمه الركام بلا أي تنظيم مدني أو سياسي مع غياب إرادة الإعمار.
ومنه يمكن القول إنّ الركام ليس بيئة مادية فقط، وإنما يمثل في مضمون التوظيف الاستعماري له مؤسسةً يومية غير مرئية لتشكيل السلوك الاجتماعي والتفاعلات الجماعية داخل القطاع المدمر، مع إفقاد السكان القدرة على إدارة حياتهم بشكل مستقل، حيث يجعل الاعتماد القسري على البنى الاستعمارية جزءًا مركزيًا من الروتين اليومي. وهكذا لا يعمل الركام كأثر لحرب انتهت، بل كبنية استعمارية مستمرة تواصل إدارة الحاضر والسيطرة على المستقبل.
ثانيًا: الركام كأداة إماتة زمنيّة ومدنيّة
يشكلّ الركام في غزّة أداةً مركبة تعمل كوسيط يومي للهيمنة، حيث تدير الحياة والموت وتعيد إنتاج سلطتهما، وفق إطار سياسات الإماتة (النيكروبوليتيك) كما صاغها أشيل مبيمبي. حيث يستمر القطاع بوصفه بيئة قاتلة حتى بعد انتهاء الحرب ووقف الغارات، من خلال استمرار السيطرة الإسرائيلية على الموت عن طريق إدارة ما بعد القصف بمنع وإعاقة رفع الأنقاض وإعادة الإعمار، وتفكيك وإزالة مخلفات الحرب القابلة للانفجار، وتوظيفها استعماريًا كأدوات تجعل من الموت عملية ممتدة زمنيًا ومكانيًا، وكحالة سياسية مميتة يفرضها الاحتلال على الحياة اليومية للفلسطينين.
وبهذا يتحوّل الركام إلى فضاء مستدام من العنف، كسياسة استعمارية واعية من قِبل إسرائيل، تجعل من كل تحرك داخل القطاع خاضعًا لخطر مستمر يهدد الجسد ويقيّد حرية الحركة، فاستمرار وجود الركام بما يحتويه من70 ألف من المتفجرات، ومبانٍ مهددة بالانهيار، ومواد سامة خلّفتها القذائف والاف الجثامين المتحللة تحت الردم، يشكّل أداة إسرائيلية لإنتاج الموت البطيء في مرحلة ما بعد القتل الجماعي المباشر والكثيف، ليعاد تشكيل الحياة ضمن نظام من”الموت الجزئي-اليومي”، إن صحّ هذا التوصيف.
من هذا المنظور، يفرض الركام ديناميات اجتماعية جديدة، حيث يضطر الفلسطينيون للتكيف مع بيئة تم إعادة إنتاجها بحرب إبادة لتكون غير مستقرة وقاتلة باستمرار، فالبيئة المدمرة تشكل إطارًا قسريًّا يعاد إنتاجه كل يوم، إذ يتحول التفاعل الاجتماعي إلى ممارسة للبقاء في مواجهة الموت المستمر، فيصبح الخراب وسيطًا للهيمنة على جميع أبعاد الحياة اليومية وأفق استعادة أي جانب من أنماطها وتفاعلاتها الاجتماعية قبل الحرب، من التنقل والسكن إلى إعادة التأهيل وغيره من الأحداث والتفاعلات المرتبطة قسرًا بوجود الركام ومخاطره اليومية.
بالتالي يصبح الحاضر نفسه أداة للسيطرة بينما تعلّق “إسرائيل” المستقبل بفعل استمرار الدمار، وهذا يعني أن الركام يشكّل أيضًا وسيلة للهيمنة الاستعمارية على الزمن المعيشي الفلسطيني، فلا يكتفي الاحتلال بالقتل الفوري وإنما يتحكم أيضًا في أفق الحياة بتحويل القطاع إلى زمن معلّق يبقي السكان محاصرين ما بين الموت والبقاء، مع نزع قدرتهم على إعادة إنتاج حياة طبيعية.
أطفال يجمعون الحطب والأخشاب من بين ركام المنازل في غزة لاستخدامها في إشعال النار بسبب أزمة الغاز التي خلفتها الحرب. pic.twitter.com/2nJ1lJcHWd
— نون بوست (@NoonPost) November 20, 2025
بذلك، يشكّل الركام أداة استعمارية مزدوجة الوظيفة؛ فهو يؤكد استمرار السيطرة والهيمنة، وفي الوقت نفسه يحوّل البيئة المادية إلى فضاء نيكروبوليتكي/مميت، يفرض الحياة والموت معًا، ويقيّد الحركة الاجتماعية للسكان ويجبرهم على العيش ضمن فضاء من الموت المستمر، ويحول حياتهم اليومية إلى تجربة مستمرة من التكيّف مع الدمار. فيتحول الركام إلى بنية استعمارية مستمرة، تثبّت الهيمنة الإسرائيلية بعد الحرب كما خلالها، وتعيد إنتاج العنف المادي والرمزي في كل لحظة من الحياة اليومية.
ثالثًا: الركام كأداة للتحكّم في الزمن الاقتصادي والمدني
تفرض “إسرائيل” سيطرة مُحكمة على الزمن المرتبط بالركام، كمتى يُزال؟ متى يُسمح بالوصول إليه؟ ومتى يمكن استثماره لإعادة الإعمار؟ وهو تحكّم لا يعكس إدارة مادية فقط، وإنما تحويل الركام إلى مورد يُعاد تشكيله بما يضمن استمرار هشاشة الاقتصاد والإنتاج المحلي، ويُعيد إنتاج الاعتماد القسري على الاحتلال، بحيث تصبح القدرة على التخطيط لأي نشاط مدني أو اقتصادي مؤجلة إلى أجل مجهول، فيصبح وسيطًا سياسيًا واقتصاديًا يتحكم في إيقاع الحياة اليومية وفي إدارة المستقبل الفلسطيني على هشاشة دائمة رهينة لقرارات الاحتلال. حيث يمثل كل يوم يُترك فيه الركام دون إزالة، تأجيلاً متعمدًا لإعادة إنتاج البنية الاقتصادية والاجتماعية.
وينتج هذا الشكل من التحكم ثلاثة مستويات من الاعتماد، تتمثل في الاعتماد اليومي الذي يُبقي قدرة السكان على الحركة أو الوصول للموارد مرهونة بفتح الطرق وإزالة الأنقاض؛ والاعتماد الاقتصادي المتمثل في ارتباط إعادة تدوير واستثمار الركام كمورد للبناء بالإذن الإسرائيلي؛ والاعتماد الرمزي-السياسي، حيث يصبح الإطار الزمني نفسه أداة سيطرة، فكل تأخير في رفع الأنقاض يعيد تكريس سلطة الهيمنة الاستعمارية.
وبهذا، تتحول الدورة المدنية إلى مسرح للقوة، وتصبح المادة المدمرة وسيلة لضبط الإيقاع اليومي للحياة وإبقائها في حالة تعليق دائم. إذ يتحول الركام إلى اقتصاد مؤجَّل تُدار عبره الحياة الفلسطينية ضمن زمن مُعطَّل ومفروض خارجيًا، تُعيد “إسرائيل” تشكيله وفق اعتبارات القوة العسكرية والإدارية والأهداف الاحتلالية. ما يعني أن الزمن هنا ليس حيّزًا محايدًا بل أداة حكم، ولا يختزل الدمار المادي بوصفه نتيجة لحرب، وإنما وسيلة للتحكم الاستعماري في المستقبل نفسه.
عرض هذا المنشور على Instagram
ومع استمرار تراكم الأنقاض وتعليق إزالتها، يتحول الركام إلى موقع لمأسسة الانتظار، وبنية تمنع تشكّل المستقبل. حيث أنّ إعادة الإعمار المؤجلة، والسماح بالوصول المحدود، والعمل في مناطق الخطر، وعملية الإزالة التي تحتاج إلى سنوات إن بدأت، كلّها تُنتج زمنًا استعماريًا مُصمَّمًا لإبقاء الفلسطينيين في حالة من التعليق المستمر. فالركام لا يجمّد الحاضر فقط، وإنما يمتد إلى المستقبل ويحوّله إلى احتمالات ضيقة خاضعة لقرارات الاحتلال.
بهذا المعنى، يتم “استعمار الزمن” المدني نفسه، بحيث تُعطَّل دورة الحياة الطبيعية، يُجمَّد الاقتصاد، ويُحصر المستقبل في إطار المجهول أكثر.
الخاتمة
يبين هذا المقال كيف يشكّل الركام في غزّة بنية استعمارية ممتدة تتخلّل تفاصيل الحياة اليومية وتعيد تشكيلها باستمرار، بما يضبط إيقاعها ويحدد إمكاناتها، ويحوّل كل لحظة معيشة داخل القطاع إلى مساحة تتحكم بها آثار الحرب بوصفها امتدادًا لسلطة استعمارية تُدار بعد وقف النار كما تُدار أثناءه، وهو ما يجعل الخراب نفسه جزءًا من البنية الاستعمارية وليس مجرد نتيجة لها.
كما يمثّل الركام أرشيفًا للموت والهيمنة وأداةً لسياسات الإماتة، ويعمل كوسيط لإعادة إنتاج الاعتماد القسري على الاحتلال، حيث يحمل قيمة سياسية واقتصادية يتحوّل معها الخراب نفسه إلى رأس مال للسيطرة وإدارة السكان، بينما تتحوّل المادة المدمّرة إلى فاعل سياسي، يرسّخ الهيمنة الرمزية والاجتماعية ويحوّل الخراب إلى اقتصاد للبقاء.
ومن منظور الاقتصاد السياسي، يخلق الركام اقتصادًا مؤجّلًا، حيث تُعَطَّل إمكانات الاستثمار وإعادة التنظيم المدني، ويُعاد رهنها بالكامل بشروط الاحتلال، فيصبح تعطيل النشاط المدني شكلًا دائمًا من الاعتماد البنيوي، حيث تُقيّد الحياة اليومية بمادة الدمار نفسها كأداة تقوّض الحركة، وتحدد الوصول، وتؤطر الزمن المدني والاقتصادي ضمن إرادة القوة الاستعمارية. بهذا الشكل، يتحول الركام إلى تقنية استعمارية لإدارة المستقبل، وإعادة إنتاج الهشاشة، وتشكيل البنى الاجتماعية والمكانية بالقسر.
وعليه، يمكن القول إنّ الركام في غزة يمثّل نموذجًا استعماريًا متكاملاً لإدارة المجتمع، تربط بين المادة والزمن والسياسة، ويستمر تأثيره ودوره الاستعماري حتى بعد توقف القصف، مما يجعل الدمار امتدادًا حيًّا للهيمنة وليس أثرًا ماضويًا يمكن تجاوزه.