شهد الجنوب اليمني خلال الأيام القليلة الماضية تحولات جيوسياسية لافتة أعادت رسم ملامح المشهد السياسي والعسكري، عقب بسط المجلس الانتقالي الجنوبي – بدعم وتمويل إماراتي واضح – نفوذه على محافظة حضرموت ومناطق واسعة في شرق البلاد، وصولًا إلى مدينة عدن الساحلية، التي ظلّت طوال عقد كامل المقر الرسمي للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والمدعومة من السعودية.
وبهذه التطورات، باتت عدن عمليًا خارج سيطرة الحكومة، بعد مغادرة معظم القيادات السياسية والعسكرية، بمن فيهم رئيس الوزراء ورئيس مجلس القيادة الرئاسي، الهيئة المكوّنة من ثمانية أعضاء والتي أُنشئت لتقاسم صلاحيات الرئاسة، وهكذا، تكرّس واقع سياسي جديد يهيمن عليه المجلس الانتقالي بصورة شبه كاملة، في ظل فراغ مؤسسي غير مسبوق.
وتزداد تعقيدات المشهد مع تصاعد الخطاب الانفصالي للمجلس الانتقالي، الذي لم يعد يخفي ميله نحو استعادة مشروع “دولة الجنوب”، ما ينذر بفتح فصل جديد من التوترات، ليس فقط داخل اليمن، بل على مستوى التوازنات الإقليمية ككل.
ورغم أن الصورة الظاهرة تعكس صراع نفوذ محتدمًا بين الرياض وأبوظبي على الجغرافيا الجنوبية، فإن ثمة طرفًا آخر يراقب التطورات بصمت وحذر، ويتمثل في الكيان الإسرائيلي، الذي يرى في ترجيح كفة الانفصال فرصة استراتيجية تخدم حساباته الأمنية، هذا الحضور غير المعلن يضع تل أبيب، بصورة غير مباشرة، في قلب معادلة الصراع كأحد الفاعلين المؤثرين في مستقبل الجنوب اليمني.
وتستمد “إسرائيل” اهتمامها المتزايد باليمن من الأهمية الاستراتيجية الفائقة لمضيق باب المندب، أحد أكثر الممرات البحرية حيوية في العالم، كونه حلقة الوصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، فتل أبيب تنظر إلى أي تهديد محتمل للملاحة في هذا المضيق على أنه خطر مباشر على حركة تجارتها البحرية، وأمن ميناء إيلات، فضلًا عن كونه ورقة ضغط استراتيجية قد تقع في يد خصومها، وعلى رأسهم إيران.
ومن هذا المنظور، لا تتعامل “إسرائيل” مع التطورات اليمنية باعتبارها أزمة داخلية معزولة، بل كجزء لا يتجزأ من معادلة أمن البحر الأحمر والصراع الإقليمي الأوسع، ومن هنا يأتي تعاظم نفوذها وتحولها من مراقب إلى لاعب رئيسي في الساحة.
الاستراتيجية الإسرائيلية في اليمن.. مواجهة الحوثيين في المقام الأول
منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، برزت الجبهة اليمنية كأحد أكثر مسارح الاشتباك تعقيدًا بالنسبة لإسرائيل، بعدما نفّذت جماعة الحوثي عشرات الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة استهدفت العمق الإسرائيلي، إلى جانب هجمات متكررة على سفن إسرائيلية أو مرتبطة بها في البحر الأحمر، ورغم نجاح تل أبيب في احتواء جبهات أخرى، بقيت الساحة اليمنية مفتوحة على التصعيد، تشكّل تحديًا أمنيًا لم يُحسم حتى الآن.
في هذا السياق، جاء الانخراط الإسرائيلي في الملف اليمني بوصفه جزءًا من المواجهة الشاملة مع إيران، إذ تنظر تل أبيب إلى جماعة الحوثي باعتبارها امتدادًا لمحور النفوذ الإيراني، وانطلاقًا من هذه المقاربة، تعاملت إسرائيل مع الجبهة اليمنية عبر مسارين متوازيين: الأول تمثل في الاستهداف العسكري المباشر للحوثيين عبر ضربات جوية بدأت في مايو/أيار 2025 ردًا على هجماتها الصاروخية.
أما المسار الثاني فتمثل في السعي إلى تحييد الحوثيين استراتيجيًا عبر دعم تقدم المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن، بما يفضي إلى تقليص نفوذ الحوثيين وتعزيز موقع “إسرائيل” في مواجهة إيران ضمن معادلة الصراع الإقليمي.
الانفصال مقابل التطبيع.. تغير جذري في الاستراتيجية
بدأ المجلس الانتقالي الجنوبي، منذ انخراطه رسميًا في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا بموجب اتفاق الرياض عام 2019، في التحرك بهامش واسع من النفوذ السياسي والعسكري، فقد منح الاتفاق المجلس حضورًا داخل مجلس القيادة الرئاسي وحقائب سيادية، ما أتاح له شنّ معارك متتالية لبسط السيطرة على معظم مناطق الجنوب والشرق، وهي مناطق تتمتع بثروات طبيعية كبيرة وموقع جغرافي بالغ الأهمية على مستوى الموانئ وخطوط الملاحة والإمداد.
ومع توقيع اتفاقيات أبراهام عام 2020، وتنامي التناغم الإماراتي–الإسرائيلي، دخلت تل أبيب على خط الأزمة اليمنية عبر البوابة الإماراتية، وباتت “إسرائيل” تُعدّ أحد الداعمين غير المعلنين للمجلس الانتقالي، تحت لافتة محاصرة الحوثيين لوجستيًا وتقليص نفوذهم، مع تركيز خاص على أمن البحر الأحمر وباب المندب، والموانئ اليمنية ذات القيمة الاستراتيجية العالية في معادلات التجارة والطاقة والملاحة الدولية.
الانتقالي يوسّع سيطرته في الجنوب وسط تحولات ميدانية متسارعة.. فما الذي ينتظر اليمن؟ pic.twitter.com/5fhnUbSTUu
— نون بوست (@NoonPost) December 11, 2025
وبعد ترسيخ سيطرته على معظم الجنوب، بدأت ملامح هذا التقاطع السياسي والأمني تخرج إلى العلن، فقد صرّح رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي، خلال زيارة له إلى الولايات المتحدة، بإمكانية التطبيع وإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، معتبرًا في تصريحات نقلتها صحيفة “معاريف” أن قيام دولة جنوبية مستقلة سيفتح الباب أمام الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام وصياغة سياسة خارجية مستقلة.
وفي هذا الإطار، كشفت صحيفة “التايمز” عن اتصالات مباشرة بين المجلس الانتقالي ومسؤولين إسرائيليين لبحث “قضايا مشتركة” في مقدمتها مواجهة الحوثيين، بالتوازي مع إبلاغ دبلوماسيين غربيين وأعضاء في مجلس الأمن بأن وحدة اليمن باتت من الماضي، وأن الاستعداد جارٍ لإعلان دولة جنوبية مستقلة.
ورغم سعي المجلس، الذي تأسس عام 2017، لإحياء دولة الجنوب السابقة قبل عام 1990 والحصول على اعتراف دولي، فإن هذا المسار لا يزال محفوفًا بعقبات جوهرية، أبرزها الرفض السعودي، والشكوك الغربية إزاء مشروع الانفصال وتداعياته على استقرار اليمن والمنطقة.
مكسب استراتيجي لـ “إسرائيل”
لا شك أن سيناريو انفصال الجنوب اليمني، إلى جانب ما يحمله من تداعيات داخلية، سيؤدي إلى عزل الحوثيين في الشمال وتحجيم قدرتهم على الوصول اللوجستي إلى البحر الأحمر، وهو ما يشكّل مكسبًا استراتيجيًا واضحًا لإسرائيل، فمثل هذا التحول يضع تل أبيب، بصورة غير مباشرة، في قلب معادلة أمن الملاحة في باب المندب وخليج عدن، أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في النظام التجاري العالمي.
وفوق ذلك، يفتح الانفصال المحتمل الباب أمام نشوء حليف استراتيجي جديد لـ”إسرائيل” يتمثل في المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، الشريك الإقليمي الأبرز لتل أبيب. هذا التحالف من شأنه أن يحدّ من تمدد النفوذ الإيراني في البحر الأحمر، ويقلّص هامش حركة الحوثيين، بما يعزز ميزان الردع الإسرائيلي في واحدة من أكثر الساحات الإقليمية توترًا.
وفي هذا السياق، يذهب الإعلام العبري إلى أن “إسرائيل” ستكون قادرة على تعزيز موقعها الجيوسياسي في خليج عدن، ليس فقط عبر مواجهة الحوثيين وتقليص نفوذ إيران، بل أيضًا من خلال توسيع شبكة علاقاتها الاقتصادية مع شركاء عرب جدد.
ماذا عن الحوثيين؟ ومن خلفهم طهران؟
يرى متابعون أن حالة الانقسام المتصاعدة داخل الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، واحتمالات تفجّر صراعات نفوذ بين القوى المنخرطة في المشهد—لا سيما الإمارات والسعودية وإسرائيل—قد تصب في نهاية المطاف في مصلحة جماعة الحوثي، وفق منطق “فرّق تسُد”، فالتنازع داخل معسكر الخصوم يمنح الحوثيين مساحة للمناورة السياسية والعسكرية، ويخفف عنهم ضغط المواجهة المباشرة.
وعلى أقل تقدير، تضمن الجماعة أن هذه الانقسامات لن تنعكس سلبًا على وضعها العسكري في المدى المنظور، بما يسمح لها بالحفاظ على نفوذها في المناطق الشمالية التي تشكّل حاضنتها الأساسية، وحتى في حال خسارة الحوثيين للنفوذ أو الموارد أو الموقع اللوجستي في الجنوب، فإن ذلك لا يهدد جوهر سيطرتهم، بقدر ما يعيد ترتيب خطوط الاشتباك وفق أولويات جديدة.
غير أن هذا السجال، إذا انتهى فعليًا إلى انفصال الجنوب، قد يحمل تداعيات معاكسة للحسابات الإيرانية بعيدة المدى، إذ من شأن قيام كيان جنوبي مستقل أن يحدّ من نفوذ طهران على البحر الأحمر، ويقوّض حضورها في واحدة من أهم عقد الملاحة العالمية، ما يجعل مكاسب الحوثيين الآنية مرهونة بتراجع الدور الإيراني في هذه البقعة الجيوسياسية الحساسة.
السعودية ومصر تحديدًا.. ماذا عن دول الطوق اليمني؟
يمثّل الحراك المتصاعد في جنوب اليمن، وما يرافقه من حديث جاد عن الانفصال، زلزالًا جيوسياسيًا محتملًا قد يعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة بأسرها، فالطرف الذي يفرض سيطرته على الجنوب سيملك مفاتيح أحد أهم الممرات المائية الدولية، حيث يمر عبر باب المندب والبحر الأحمر أكثر من خُمس حركة التجارة العالمية، ما يجعل هذه الجغرافيا نقطة ارتكاز حاسمة في معادلات الأمن الإقليمي والدولي.
وفي حال تمدد النفوذ الإسرائيلي إلى هذه الممرات الحيوية، فإن الأمن القومي العربي برمّته سيكون أمام تهديد غير مسبوق، لا سيما في ظل ما تكشفه تل أبيب من طموحات توسعية تتجاوز حدود الصراع التقليدي، وصولًا إلى رؤى أيديولوجية تسعى لفرض الهيمنة “من النهر إلى البحر”، مثل هذا السيناريو من شأنه أن يضع مفاصل الأمن العربي في قبضة إسرائيل، ويحوّل البحر الأحمر من فضاء عربي–دولي إلى ساحة نفوذ إسرائيلي مباشر.
ومن هذا المنطلق، سعت السعودية على مدى سنوات إلى عرقلة مشروع انفصال الجنوب عبر احتواء المجلس الانتقالي ودمجه في إطار الحكومة المعترف بها دوليًا، بوصفه جزءًا من جبهة مناهضة للحوثيين، غير أن هذا المسار يبدو اليوم مهددًا بالانهيار، بعدما تجاوزت طموحات قيادة المجلس منطق الشراكة في السلطة إلى السعي لاحتكار الجنوب ككيان مستقل، ولو عبر بوابة التطبيع مع إسرائيل.
وفي هذا السياق، يتعاظم القلق المصري على نحو خاص، إذ يشكّل تمدد النفوذ الإسرائيلي في البحر الأحمر من الخاصرة اليمنية كابوسًا لأمن القاهرة القومي، ما ينذر بأن استمرار سيناريو الانفصال قد يقلب الطاولة ويجبر مختلف الأطراف على إعادة صياغة تحالفاتها وحساباتها الاستراتيجية.