في 8 ديسمبر 2024، شهدت سوريا نقطة تحول تاريخية بسقوط نظام الأسد الذي حكم البلاد لعقود قائمة على الرقابة الصارمة وتكميم الأصوات، لم يكن هذا الحدث مجرد تغير سياسي، بل فتح الباب أمام ولادة مشهد إعلامي جديد لم يعرفه السوريون منذ نصف قرن.
مع انهيار منظومة الرقابة القديمة، انطلق فورًا انفجار إعلامي واسع أكثر تنوعًا وجرأة وقدرة على التعبير عن المجتمع، إذ ظهرت منصات رقمية جديدة، وعمل صحفيون محترفون وناشطون شباب على تأسيس شبكات إعلامية متنوعة، ركز بعضها على الحياة اليومية، بينما تابعت منصات أخرى الشأن السياسي والاقتصادي محليًا وإقليميًا ودوليًا.
أتاح هذا الانفتاح السريع للإعلام السوري إنتاج محتوى غير مسبوق يجمع بين الأخبار الفورية، التحقيقات الاستقصائية، التقارير الرقمية، المواد الوثائقية، والبودكاست، وتزامن ذلك مع طفرة في الإعلام التفاعلي وصحافة المواطن، حيث وجد السوريون مساحة للتعبير والمشاركة في النقاش العام.
وبعد مرور عام على التحرير، تعيش سوريا لحظة تأسيسية جديدة، فقد ارتفع عدد المنصات الإعلامية من نحو 50 قبل 2024 إلى أكثر من 500 اليوم، وتطورت جميع أشكال العمل الإعلامي، عادت الصحف الورقية بتغطيات معمقة، واستأنفت القنوات التلفزيونية بثها بهياكل جديدة، في حين أصبحت المنصات الرقمية العمود الفقري للمشهد الإعلامي الجديد.
في هذا التقرير نسلط الضوء على التحول العميق الذي شهده الإعلام السوري بعد سقوط النظام، ونتتبع مساره الجديد، وكيف غدا اليوم أحد الأعمدة الأساسية لتشكيل الوعي العام والمساهمة في إعادة بناء سوريا في مرحلة ما بعد الأسد.
الإعلام قبل سقوط النظام
تمتلك الصحافة السورية تاريخًا عريقًا يمتد من العهد العثماني، مرورًا بفترة الانتداب الفرنسي، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، خلال تلك المراحل، شهدت سوريا حركة صحفية نشطة صدرت خلالها عشرات الصحف والمجلات التي عكست الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية في البلاد.
غير أن هذا المشهد تبدل جذريًا مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة، إذ فُرضت رقابة على جميع وسائل الإعلام، وأُغلقت الصحف المستقلة والمعارضة، وتحولت الصحف الرسمية والإذاعات والقنوات التلفزيونية إلى أدوات دعائية بيد النظام.
أصبحت المؤسسات الحكومية المصدر الوحيد للمعلومة، فيما خضعت بيئة العمل الإعلامي لرقابة أمنية، وبعبارة “أحمد فاخوري”: “تم القضاء على المهنة وأصبحت خطرًا على الحياة”.
ورغم هذه القبضة المحكمة، شهد العقدان الأخيران قبل ثورة 2011 محاولات محدودة لظهور منصات رقمية وإعلام بديل عبر الإنترنت، إلا أن هذه المبادرات بقيت محاصرة ضمن هوامش ضيقة، واضطر كثير من الصحفيين إلى العمل بأسماء مستعارة أو من خارج البلاد تفاديًا للملاحقة الأمنية.
مع انطلاق الثورة عام 2011، بدأ جيل جديد من الصحفيين والناشطين بتأسيس منصات رقمية محلية لتوثيق المظاهرات والانتهاكات، ونشأت شبكات إعلامية صغيرة داخل المدن المحاصرة وفي مناطق النزوح والشمال السوري، رغم التعرض لقمع شديد تمثل في الاعتقال والإخفاء القسري والتهجير والاغتيالات، وكانت سوريا في ذلك الوقت تصنف من أخطر البيئات للعمل الإعلامي في العالم.
في الوقت ذاته، أصبح الإعلام أبشع سلاح بيد النظام ضد الشعب السوري، حيث برزت مجموعة من الإعلاميين الذين ساهموا بشكل فعال في تبرير المجازر والانتهاكات بحق المدنيين وترويج خطاب النظام.
ومع ذلك، تراجعت قدرة النظام على التحكم الكامل بالإعلام كما كان في السابق، وفي المقابل، واصل الإعلام الذي نشأ من رحم الثورة أداء دوره المحوري، مقدمًا آلاف التقارير والتحقيقات والمواد المصورة التي وثقت التحولات الكبرى في المجتمع السوري، من بدايات الاحتجاجات السلمية إلى الحصار والتهجير والقصف والانتهاكات الواسعة، ليغدو هذا الإعلام ذاكرة حية للسوريين في مواجهة محاولات الطمس والتضليل.
إعادة تنظيم البنية الإعلامية بعد التحرير
عقب سقوط النظام، شرعت السلطات الجديدة في تفكيك البنية الرقابية التي حكمت الإعلام لعقود، فألغت بعض القوانين القديمة التي استُخدمت لتقييد النشر، وأعادت تعريف دور وزارة الإعلام، ووفق التصريحات الرسمية، تحولت الوزارة من جهة رقابية إلى مؤسسة معنية بتوفير بيئة إعلامية أكثر انفتاحًا وتعددية.
في هذا الإطار، أعلن مدير عام الشؤون الصحفية عمر حاج أحمد أن الوزارة بدأت بإعداد قانون إعلامي حديث يوازن بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية، بالتوازي مع تنظيم أكثر من 16 ورشة حول أخلاقيات العمل الإعلامي. كما أكدت وزارة الإعلام التزامها بإنتاج محتوى إعلامي بلغات الأقليات بما فيها الكردية، وإشراك الصحفيين المحليين في كتابة المحتوى بروح النص وليس مجرد الترجمة.
ويتكامل ذلك مع مبادرة وزير الإعلام الذي أطلق مدونة سلوك إعلامية يشارك فيها حاليًا نحو 500 صحفي، وتهدف إلى وضع ما يشبه “دستورًا إعلاميًا” لتنظيم المعايير الإعلامية، وبحسب وزير الإعلام فهذه المدونة سوف يخرج عنها قوانين لتنظيم الإعلام والجرائم الإلكترونية. وهذا بجانب إنشاء أكاديمية متخصصة لتأهيل الكوادر الإعلامية في الوزارات والجهات الحكومية، وإعداد تشريعات لمعالجة المعلومات المضللة.
وقد صاحب هذه الإصلاحات توسع غير مسبوق في عدد وسائل الإعلام، حيث تجاوز عدد المؤسسات الحاصلة على تراخيص مؤقتة 500 وسيلة، إلى جانب آلاف الطلبات الفردية للحصول على بطاقات صحفية، وأكد صحفيون في الميدان تحسن بيئة العمل بشكل ملحوظ، شمل حرية الحركة، والسفر، والتغطية، وتقديم نقد مباشر لأداء الحكومة، دون التعرض للحجب أو الإغلاق.
ولتأطير هذا الانفتاح، اتخذت الحكومة خطوات تنظيمية شملت تعديل النظام الداخلي لاتحاد الصحفيين السوريين، وإعادة هيكلة المكاتب الإعلامية في الوزارات، وإصلاح إجراءات الترخيص لتكون أكثر سهولة وشفافية، بما في ذلك تجاوز شروط الإيداع البنكي السابقة، بهدف تشجيع المؤسسات الإعلامية المحلية والأجنبية على العمل داخل سوريا، وهو ما انعكس في اهتمام قناة مونت كارلو الفرنسية بالبث من دمشق.
في موازاة ذلك، أُقِر مبدأ المحاسبة الفردية للصحفيين المتورطين في انتهاكات الحقبة السابقة ضمن إطار العدالة الانتقالية، مع وضع آليات لمساءلة الأفراد والمؤسسات عن أي محتوى يحرض على الكراهية أو التمييز.
ورغم هذا الانفتاح، أقر وزير الإعلام الدكتور مصطفى بوجود أوجه قصور، لا سيما في التغطية الإعلامية خارج دمشق، نتيجة تحديات لوجستية وأمنية، خاصة في مناطق غير مستقرة.
وردًا على هذه التحديات، أعلنت الوزارة عن خطط لتعزيز الإعلام في المناطق المهمشة عبر تأسيس 12 مديرية فرعية للإعلام، بجانب تعيين متحدثين رسميين باسم الحكومة في مختلف الوزارات، إضافة إلى إعادة إحياء مؤسسات إعلامية تقليدية مثل إذاعة دمشق.
على المستوى النقابي، تشهد نقابة الصحفيين السوريين عملية إعادة بناء شاملة لإنهاء إرث هيمنة حزب البعث وإرساء نظام داخلي جديد يحمي استقلالية وأخلاقيات المهنة، وحسب براء عثمان عضو المجلس التنفيذي لنقابة الصحفيين السوريين، تسعى النقابة إلى لعب دور فاعل في حماية الصحفيين داخل البلاد وخارجها، والدفاع عن حقوقهم، وتطوير المعايير المهنية بما ينسجم مع متطلبات المرحلة الحالية.
ويرى خبراء الإعلام من بينهم الدكتور أيمن خالد، أن ما يشهده الإعلام السوري هو تحول جذري وشامل، لا يقتصر على القوانين والهياكل، بل يشمل العقلية المؤسسية، والخطاب التحريري، وأساليب الإدارة، ويؤكد أن سقوط النظام مثل نهاية كاملة للنظام الإعلامي القديم، وبداية تشكل فضاء إعلامي جديدة يتماشى مع واقع ما بعد الثورة، مدعومًا بتبني التكنولوجيا الحديثة والانفتاح على النقد.
وفي هذا السياق، طرحت وزارة الإعلام استراتيجية إعلامية تقوم على الانتقال من منطق “الدعاية” إلى مفهوم يطلق عليه وزير الإعلام حمزة المصطفى “الإعلام العام”، مع هيكل ثلاثي المستويات يضم مكاتب إعلامية حكومية، ووسائل إعلام رسمية، وفضاء أوسع للإعلام العام المستقل القادر على النقد.
كما أعلنت الوزارة عن مشاريع مستقبلية طموحة، من بينها إطلاق مدينة “بوابة دمشق” الإعلامية والسينمائية لاستقطاب الكفاءات السورية في الداخل والمهجر، وكذلك إنشاء متحف يوثق تاريخ الدعاية الإعلامية والجرائم الإعلامية التي رافقت حكم عائلة الأسد. وشملت الجهود تعزيز التعليم الإعلامي، حيث زار وزير الإعلام حمزة المصطفى كلية الإعلام لتعزيز التواصل مع الكوادر الشابة ورفع مستوى التدريب المهني في قطاع الإعلام.
في المحصلة، يتشكل المشهد الإعلامي السوري بعد عام على التحرير ضمن مسار انتقالي معقد يجمع بين الانفتاح وإعادة البناء المؤسسي، ويهدف إلى ترسيخ إعلام مهني ومسؤول، يكون شريكًا في بناء الدولة الجديدة، لا أداة للسلطة ولا رهينة للفوضى.
المشهد الإعلامي السوري الجديد بعد سقوط نظام الأسد
مع سقوط نظام الأسد وانهيار المنظومة الرقابية التي حكمت العمل الإعلامي في سوريا لعقود، بدأ الصحفيون السوريون في الكشف عن هوياتهم الحقيقية والعمل علنًا للمرة الأولى دون خوف أو ملاحقة.
في الأسابيع الأولى التي تلت التحرير، شهدت البلاد انفجارًا غير مسبوق في عدد المنصات الإعلامية، أُعيد إطلاق بعض الصحف القديمة من داخل سوريا، وظهرت منصات رقمية جديدة بوتيرة متسارعة، فيما عاد صحفيون مهجرون لتأسيس مؤسسات إعلامية في دمشق ومدن كبرى أخرى. واتسعت التغطيات لتشمل الأخبار اليومية، التقارير الميدانية، التحقيقات الاستقصائية، المواد الوثائقية، والبودكاست، في مشهد إعلامي لم تعرفه البلاد من قبل.
أفضى هذا التحول إلى تغيير جذري في وظيفة الإعلام نفسه، فلم يعد مجرد ناقل للخبر، بل أصبح مساحة للنقاش العام، وصوتًا للمناطق المهمشة، ومرآة تعكس نبض المجتمع، وبفعل هذا الانفتاح، ظهرت تعددية حقيقية في الأصوات.
فامتلأت الساحة بوسائل إعلام مؤسسية، ومنصات مستقلة، وصحافة المواطن، ولعب الإعلام التفاعلي دورًا مهمًا في إشراك الجمهور في إنتاج المحتوى، ما حول المواطن من متلقٍ إلى شريك مباشر في صناعة المشهد الإعلامي.
وبالتوازي مع ذلك، توسع الإنتاج الإعلامي ليشمل المحتوى الثقافي والمعرفي، مع ازدهار البودكاست، البرامج التحليلية، الفيديوهات الوثائقية، والتقارير المتخصصة، في الواقع، بات المشهد الإعلامي السوري بعد ديسمبر 2024 متعدد الطبقات والأشكال، يجمع بين الإعلام الرسمي، والصحافة المستقلة، والمنصات الرقمية المحلية والدولية.
وضمن هذا السياق، استقبلت وزارة الإعلام السورية أكثر من 3500 وفد إعلامي أجنبي، وتفاعلت منذ التحرير وحتى مارس الماضي مع 3605 طلبات للحصول على بطاقات صحفية للأفراد، وأصدرت أكثر من 450 ترخيصًا لمؤسسات إعلامية من أصل نحو 700 طلب، ما يعكس حجم الحراك الإعلامي غير المسبوق الذي تشهده سوريا في هذه المرحلة.
تطور الإعلام التقليدي وعودة الصحافة الورقية
في أعقاب سقوط النظام، بدأت المؤسسات الإعلامية الرسمية، مثل وكالة سانا، والتلفزيون السوري، عملية إعادة تنظيم شاملة هدفت إلى الانتقال من نموذج إعلام السلطة إلى إعلام الدولة، مع تطوير القوالب البرامجية والخطاب التحريري بما يتلاءم مع المرحلة الجديدة.
وتزامن ذلك مع عودة عدد من المنصات الإعلامية التي كانت تعمل في مناطق المعارضة أو من الخارج، حيث أعادت ترتيب بنيتها المؤسسية واستعادت مكاتبها داخل دمشق ومدن أخرى.
في هذا السياق، شهدت الصحافة الورقية عودة تدريجية بعد أن كانت شبه غائبة قبل عام 2024، صدرت صحف جديدة، مثل الثورة السورية، كما استأنفت صحف مستقلة بارزة، من بينها عنب بلدي إصدار نسختها الورقية، وتمكنت من إعادة افتتاح مقرها في دمشق واستئناف التوزيع، رغم ما رافق ذلك من تحديات تتعلق بالطباعة والتوزيع.

وعلى مستوى البث المرئي، استأنفت القنوات التلفزيونية الرسمية بثها بقوالب جديدة، كقناة الإخبارية السورية التي تعكس السياسة العامة للدولة، مع إتاحة مساحات محدودة للنقد الداخلي، بالتوازي مع إعادة هيكلة وكالة سانا وإذاعة دمشق وفق رؤية أكثر مهنية وانفتاحًا.
وفي هذا الإطار، أكد وزير الإعلام حمزة المصطفى أن التغيير الجاري يهدف إلى بناء إعلام يعبر عن حياة السوريين اليومية ويعكس آلامهم وتطلعاتهم، مشددًا على أن الصحافة ولا سيما المطبوعة، ينبغي أن تكون منصة للنقاش الحر وليست مجرد أداة لنقل الأخبار.
كما أعلن عن خطط لإعادة تفعيل صحف متوقفة، مثل الحرية المتخصصة في الاقتصاد والسياسة، والموقف الرياضي، في مسعى لاستعادة دور الصحافة الورقية. وأشار الوزير أيضًا إلى توجه الوزارة لتعزيز الإعلام المحلي خارج مركزية العاصمة، عبر إنشاء منصات إعلامية في مختلف المحافظات.
وبالتوازي مع التحولات الداخلية التي تشهدها منظومة الإعلام الرسمي، اتجهت منصات إقليمية ودولية إلى تعزيز حضورها في سوريا، سواء عبر إنشاء أقسام تحريرية متخصصة أو إطلاق منصات جديدة بالكامل لتقديم تغطيات وتحليلات مستمرة حول التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا.
وفي الواقع، لم يعد الإعلام السوري الجديد محصورًا في الداخل، بل بات جزءًا من الفضاء الإعلامي الدولي، مع حضور متزايد للإعلام الرسمي السوري على المستوى الدولي.
طفرة الإعلام الرقمي
مع انفتاح الفضاء الإعلامي للمرة الأولى منذ عقود، شهدت سوريا تحولًا متسارعًا في بنية الإعلام ووظيفته، فقد أصبح المواطن السوري نفسه فاعلًا مباشرًا في صناعة الخبر، مستفيدًا من منصات التواصل الاجتماعي لنقل الأحداث لحظة بلحظة، ما جعل صحافة المواطن إحدى أبرز سمات المرحلة الجديدة، حيث لم يعد النشر حكرًا على الصحفيين، بل بات المواطن قادرًا على التوثيق والتأثير في النقاش العام.
وفي هذا المناخ، تصدرت المنصات الرقمية المشهد الإعلامي بوصفها الأسرع انتشارًا والأكثر مرونة، وبرزت منصات مستقلة مثل عنب بلدي وسوريا 24 ومنصة سوريا الآن بوصفها ركائز أساسية للإعلام الجديد، مع اعتمادها على التحقيقات الميدانية وتفاعل الجمهور وإشراكه المباشر في إنتاج المحتوى.
ومع تحرر المجال العام، اتسعت التغطيات لتشمل تفاصيل الحياة اليومية، ومشاكل إعادة الإعمار، وحركة الأسواق، والتعليم، والقصص الإنسانية، عبر فيديوهات ومواد بصرية وصلت بسهولة إلى جمهور واسع داخل سوريا وخارجها، وأسهم الإعلام التفاعلي في توسيع دائرة المشاركة من خلال التعليقات والنقاشات.
بالتوازي مع ذلك، برز جيل من الإعلاميين المستقلين العاملين خارج الأطر المؤسسية التقليدية، من مراسلين ومصورين وصناع فيديو وبودكاست، شكلوا القوة الميدانية الأبرز في نقل الواقع كما يُعاش، عبر جولات ميدانية لمناطق التوتر، وتغطية مباشرة لعملية الانتخابات، جهود الإغاثة، مشاكل المدارس، والفعاليات الاقتصادية، أزمة ارتفاع إيجارات المنازل، وقد اعتمد هؤلاء على وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات رئيسية للنشر.
وفي قلب هذا التحول، تشهد سوريا انفجارًا لافتًا في إنتاج البودكاست، الذي تحول إلى منصة مفضلة لدى الإعلاميين الشباب وصناع المحتوى، منح البودكاست مساحة للسرد والتحليل بعيدًا عن ضغط الأخبار العاجلة، وفتح بابًا لاستضافة خبراء وفاعلين محليين، وتناول قضايا السياسة والاقتصاد والقصص الإنسانية وشهادات شخصية.
وقد وصل البودكاست إلى جمهور واسع، بما في ذلك السوريون في الشتات، ما عزز دور البودكاست كأداة مؤثرة للإعلام الجديد اليوم، وصار مجال للحوار المفتوح والنقاش العميق حول مستقبل سوريا ورافعة لخطاب أكثر نضجًا ومهنية وانفتاحًا.
وبذلك، تشكل بعد سقوط النظام مشهد إعلامي متعدد الطبقات، يجمع بين الإعلام التقليدي وصحافة المواطن، والمنصات الرقمية المستقلة، والإعلاميين الميدانيين، والبودكاستات التحليلية، في تحول غير مسبوق أعاد للإعلام السوري دوره بوصفه مرآة للواقع ومنبرًا للرأي العام، وبدأ الجمهور السوري يتفاعل مع هذا الفضاء المفتوح.
واللافت كذلك أنه عقب انهيار النظام برزت عشرات المنصات الإعلامية الجديدة، من بينها شبكة “نبض سوريا” التي تأسست لتقديم خطاب نقدي حاد تجاه السلطة الجديدة، وصل في بعض الأحيان إلى التحريض، ورغم أن عددًا من هذه المنصات يعلن معارضته الصريحة للنظام القائم ويتبنى لهجة تصادمية، فإنها ما تزال تعمل بحرية دون حجب.
الإعلام الحقوقي والاستقصائي: صوت الضحايا وأداة للعدالة الانتقالية
تشهد سوريا اليوم توسعًا غير مسبوق في الإعلام الحقوقي والاستقصائي، إذ أصبح بالإمكان توثيق الانتهاكات وجمع الشهادات وكشف الحقائق التي طُمست لعقود طويلة داخل دمشق وبقية المدن.
وقد برزت في هذه المرحلة منصات حقوقية تعمل داخل البلاد لدعم العدالة الانتقالية، على رأسها الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي أعادت افتتاح مكتبها في العاصمة للتركيز على تسجيل شهادات الضحايا، وتوثيق ملفات المعتقلين والمفقودين، والتحقيق في الجرائم التي ارتكبت خلال فترة النظام السابق، إلى جانب إصدار تقارير دورية.
ومع اتساع هامش الحرية، تمكن العديد من الصحفيون المستقلون من إعطاء صوت للمجموعات المظلومة، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو من مناطق مهمشة، ما أتاح لهذه الفئات التعبير بحرية عن تجاربها وآلامها وآمالها، وأسهم في إعادة الاعتبار للضحايا وتثبيت دور الإعلام كأداة للإصلاح والعدالة الانتقالية.
وقد تطور الإعلام الحقوقي ليشمل الإنتاج الصوتي، حيث أصبحت البودكاستات الحقوقية منصات أساسية للنقاش والتحليل، وظهرت برامج شارك فيها صحفيون وناشطون وخبراء وشهود لتناول قضايا مثل أوضاع المعتقلين السابقين.
في الواقع، لعب الإعلام الحقوقي دورًا محوريًا في تعزيز الشفافية والمساءلة، مانحًا مبادرات العدالة الانتقالية أدوات مهمة لتثبيت الحقائق وحماية الذاكرة الجماعية للسوريين بعد عقود من القمع والتضليل.
ومن التجارب اللافتة في هذا السياق، ما قدمته منصة نون سوريا في توثيق الانتهاكات التي شهدتها مدينة بانياس، إذ شكلت نموذجًا جديدًا لإعلام محلي حقوقي ينهض من قلب المجتمعات المتضررة، ويوثق جرائم كانت لعقد كامل بلا صوت ولا أرشيف.
وبالتالي يمكن القول إن الإعلام الحقوقي والاستقصائي بعد 2024 صار جزءًا أساسيًا من عملية إعادة بناء الدولة والوعي العام، ورافعة مهمة في مسار العدالة الانتقالية، بوصفه صوت الضحايا ومصدرًا للحقائق.
تحديات الإعلام السوري بعد التحرير: بين الحرية وغياب الإطار القانوني
اليوم يشهد الإعلام السوري انفتاحًا بعد عقود من الرقابة الأمنية الصارمة، وقد عبر كثير من الإعلاميين عن شعورهم بالتحرر، من بينهم “علي عيد” رئيس تحرير عنب بلدي الذي أكد أن الرقابة الحكومية توقفت، ولم تعد هناك خطوط حمراء. بينما أشار صحفيون ميدانيون بينهم مراسل نون بوست حمزة عباس، إلى أن حرية الحركة هي الفارق الأهم بعد التحرير.
ورغم هذا الانفتاح، يواجه الإعلام السوري تحديات متعددة، أبرزها غياب إطار قانوني حديث يحمي الصحفيين، مع استمرار العمل جزئيًا بقوانين قديمة مثل قانون المطبوعات لعام 2001 وبعض مواد قانون العقوبات، وهي تشريعات حسب خبراء صُممت للسيطرة على الإعلام.
كما يرى البعض أن الإعلام السوري الجديد يواجه تحديات تتعلق بإرث النظام السابق، وضعف المهنية، والانقسامات السياسية، والثقافة المؤسسية المتأثرة بالسلطة، في حين يرى البعض الأخر بأن كثيرًا من الإعلاميين اليوم لم يدركوا بعد الحدود المهنية والأخلاقية التي تحكم المهنة، وأن المحطات العربية والأجنبية هي التي تملأ الفراغ.
أيضًا لا تزال بيئة الإعلام في سوريا تواجه تحديات معقدة، أبرزها انتشار الشائعات والمعلومات المضللة بشكل كبير، وتصاعد خطاب الكراهية عبر الفضاء الرقمي، فضلًا عن استمرار تأثير منصات وشخصيات إعلامية موالية للنظام السابق في المشهد العام بالفضاء الإلكتروني. وتتقاطع هذه الإشكالات مع تحديات بنيوية أعمق، كتدهور البنية التحتية الإعلامية، والأزمات المالية.
ويرى خبراء مثل أيمن خالد أن الإعلام السوري اليوم يعمل في فضاء متقلب بين الحرية المقيدة والضرورة السياسية، مشيرًا إلى أن عودة الصحفيين السوريين من المنفى إلى بلادهم جلبت أساليب متنوعة من الإعلام العربي والدولي، الأمر الذي يتطلب بحسب خالد إدارة دقيقة لتنسيق هذه التأثيرات في نهج إعلامي يلبي احتياجات البلاد.
في المقابل، يؤكد مسؤولون أن الحكومة الحالية تعمل على صياغة تشريعات جديدة تسهل عمل الإعلاميين المحليين والدوليين. وبرزت رؤية أحمد الشرع للإعلام السوري على أنه حر، مؤكدًا أن النقد البناء والأصوات المستقلة يعززان وعي السلطة والمجتمع، لكنه شدد على ضرورة وجود ضوابط قانونية لحماية حقوق الجمهور والمؤسسات الإعلامية.
ويؤكد وزير الإعلام حمزة المصطفى أن الإعلام الجديد لن يعود إلى نموذج الدعاية الموجهة من الدولة، بل سيعمل ضمن بيئة تيسيرية، مع التأكيد على تجريم تمجيد الأسد وفق الإعلان الدستوري الحالي، وكذلك السماح للأفراد المرتبطين بالنظام السابق بممارسة عملهم ضمن الأطر القانونية.
ورغم أن سوريا لم تصل بعد إلى مرحلة الاستقرار الكامل في هيكلة منظومتها الإعلامية، إلا أن مرور عام على سقوط نظام الأسد كشف عن ولادة مشهد إعلامي جديد، اتسم بازدهار المنصات الرقمية وصحافة المواطن، وفتح فضاءً واسعًا أمام المجتمع للتعبير عن ذاته. وبفضل هذا التحول، بات الإعلام السوري الجديد أحد الركائز الأساسية لإعادة بناء الدولة والمجتمع بعد سنوات طويلة من الظلام والسيطرة الإعلامية.