في لحظة سياسية بالغة التعقيد، تتقاطع فيها ترتيبات “اليوم التالي” في قطاع غزة مع حسابات إقليمية ودولية متشابكة، كشفت مصادر لموقع “أكسيوس” عن بروز اسم نيكولاي ملادينوف بوصفه أحد أقوى المرشحين لتولي موقع ممثل “مجلس السلام” على الأرض في غزة، للعمل مع لجنة تكنوقراط فلسطينية مستقبلية، ضمن ما يُروَّج له كمسار لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.
لا يأتي هذا الترشيح بوصفه تفصيلًا إداريًا أو خيارًا تقنيًا معزولًا، بل باعتباره انعكاسًا مباشرًا لأزمة الخيارات التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها في إدارة مرحلة ما بعد الحرب، وفشل محاولات فرض شخصيات أكثر إثارة للجدل، وفي مقدمتها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. كما يعكس في جوهره إصرارًا دوليًا على إعادة إنتاج مقاربة تقوم على إدارة الصراع لا تفكيكه، عبر أدوات جديدة ووجوه مجرَّبة.
يعيد طرح اسم ملادينوف إلى الواجهة أسئلة أعمق من مجرد السيرة والمسار المهني: لماذا يُعاد تدوير شخصية ارتبطت بإدارة التهدئة في غزة؟ وما الذي يجعلها اليوم مرشحة للعب دور مركزي في واحدة من أعقد مراحل القضية الفلسطينية؟ وهل نحن أمام محاولة لتكييف الوقائع التي فرضتها الحرب ضمن أطر دولية جديدة، أم أمام إعادة إنتاج لنموذج قديم بثوب مختلف؟
النشأة والتعليم
وُلد نيكولاي ملادينوف في 5 أيار/مايو 1972 في مدينة صوفيا، عاصمة بلغاريا، ونشأ في بيئة حضرية مركزية، داخل دولة كانت آنذاك لا تزال جزءًا من المنظومة الاشتراكية، قبل أن تدخل مرحلة التحول السياسي والاقتصادي مع انهيار المعسكر الشرقي مطلع التسعينيات.
تعليميًا، تلقّى ملادينوف تكوينه الأكاديمي الأساسي في بلغاريا، حيث تخرّج عام 1995 من جامعة الاقتصاد الوطني والعالمي، وتخصص في العلاقات الدولية. وفي عام 1996، استكمل دراساته العليا في المملكة المتحدة، وحصل على درجة الماجستير في دراسات الحرب من جامعة كينكز كولدج بلندن، إحدى أبرز المؤسسات الأكاديمية المتخصصة في الدراسات الأمنية والعسكرية.
ويعكس هذا المسار الأكاديمي مزيجًا واضحًا بين الدراسة الدبلوماسية–السياسية الكلاسيكية من جهة، والمقاربة الأمنية–العسكرية للصراعات من جهة أخرى، وهو مزيج سيظهر لاحقًا بوضوح في مسيرته المهنية، خاصة في تعامله مع مناطق النزاع.
أما على مستوى التوجهات السياسية، فقد انتمى ملادينوف إلى التيار السائد في بلغاريا ما بعد الحرب الباردة، وهو تيار ليبرالي محافظ يدعم الاندماج الكامل في المنظومة الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
ولم يُعرف عنه انخراط أيديولوجي حاد أو خطاب سياسي تعبوي، بل اتسم حضوره العام بالتركيز على قضايا الأمن، الاستقرار، وبناء المؤسسات، وهي أولويات ستلازمه في مسيرته السياسية والدبلوماسية اللاحقة.
الانخراط السياسي في بلغاريا والمسار الأوروبي
بدأ نيكولاي ملادينوف انخراطه السياسي الفعلي في بلغاريا في سياق التحولات التي شهدتها البلاد بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا عبر حزب المواطنين من أجل التنمية الأوروبية في بلغاريا (GERB)، وهو حزب يمين-وسط ليبرالي محافظ قاد عملية إدماج بلغاريا سياسيًا وأمنيًا في المنظومة الأوروبية-الأطلسية.
في عام 2007، انتُخب ملادينوف عضوًا في البرلمان الأوروبي، وهو أول موقع سياسي بارز له على المستوى فوق الوطني. خلال ولايته (2007–2009)، عمل ضمن اللجان المعنية بالسياسة الخارجية والأمنية، وركّز نشاطه على ملفات أمن الاتحاد الأوروبي، الجوار الشرقي، والسياسة الدفاعية المشتركة، وقد وفّرت هذه التجربة له تماسًا مباشرًا مع آليات صنع القرار الأوروبي، ورسّخت موقعه ضمن شبكة العلاقات السياسية والدبلوماسية في بروكسل.
بعد عودته إلى بلغاريا، انتُخب عام 2009 عضوًا في البرلمان البلغاري، حيث تولّى رئاسة لجنة الشؤون الخارجية، ولعب في هذا الموقع دورًا في صياغة توجهات السياسة الخارجية البلغارية، خصوصًا في ما يتصل بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، حلف شمال الأطلسي، وملفات الأمن الإقليمي. وخلال هذه المرحلة، عُرف عنه التزامه الواضح بخطاب يدعم تعزيز الشراكة مع الغرب، والانخراط النشط في السياسات الأوروبية المشتركة.
في عام 2013، عُيّن وزيرًا للدفاع في بلغاريا، في مرحلة اتسمت بحساسية داخلية وإقليمية، على خلفية التوترات في شرق أوروبا وتداعيات الأزمة الأوكرانية. وخلال توليه هذا المنصب، جاءت السياسة الدفاعية للحكومة البلغارية مركّزة على تعزيز التعاون الدفاعي مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والعمل على تحديث القدرات العسكرية، إلى جانب مواءمة السياسات الدفاعية البلغارية مع المعايير الأطلسية، في انسجام مع التزامات بلغاريا داخل الحلف.
وفي عام 2014، انتقل ملادينوف إلى موقع وزير الخارجية، وهو المنصب الذي أتاح له حضورًا أوسع على الساحة الدولية. خلال هذه المرحلة، اتسمت السياسة الخارجية البلغارية بعدد من الملامح الرئيسية، أبرزها تثبيت موقع بلغاريا داخل الاتحاد الأوروبي، ودعم سياسة التوسع الأوروبي في منطقة البلقان، إلى جانب تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة، والالتزام بالخط العام للاتحاد الأوروبي في السياسات الموحدة المتعلقة بملفات الأمن الدولي.
يمكن القول إن مسيرته السياسية في بلغاريا، سواء على المستوى البرلماني أو التنفيذي، اتسمت بالوضوح في اتجاهات دعم الاندماج الأوروبي-الأطلسي، التركيز على الأمن والاستقرار، والعمل من داخل المؤسسات لا خارجها، وقد مهدت هذه السمات، إلى جانب تجربته الأوروبية المبكرة، لاحقًا لانتقاله إلى العمل الدولي ضمن منظومة الأمم المتحدة، بوصفه شخصية سياسية ذات خبرة في الملفات الأمنية والدبلوماسية المعقّدة.
المناصب الدولية والانخراط في الشرق الأوسط
بعد خروجه من الحكومة البلغارية عام 2014، انتقل نيكولاي ملادينوف إلى العمل الدولي عبر بوابة الأمم المتحدة، في مسار عكس انتقاله من السياسة الوطنية إلى إدارة الملفات الدولية المعقّدة. ففي العام نفسه، عُيّن منسقًا خاصًا للأمم المتحدة في العراق، ورئيسًا لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (UNAMI)، في مرحلة اتسمت باضطرابات أمنية وسياسية واسعة، بالتزامن مع تمدد تنظيم “داعش” وتراجع سلطة الدولة في عدد من المناطق.
في هذا الموقع، اضطلع ملادينوف بمهام تنسيقية وسياسية ضمن التفويض الأممي، شملت دعم العملية السياسية، والتواصل مع الحكومة العراقية والقوى الدولية، والإشراف على عمل البعثة الأممية في بيئة نزاع مفتوحة. وقد شكّلت هذه التجربة محطة مهمة في مسيرته الدولية، إذ رسّخت حضوره كدبلوماسي يتعامل مع أزمات مركّبة تجمع بين البعدين الأمني والسياسي.
وفي عام 2015، عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة منسقًا خاصًا لعملية السلام في الشرق الأوسط ورئيسًا لمكتب الأمم المتحدة المعني بهذا الملف، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2020. وبموجب هذا التكليف، أصبح الممثل الرسمي للأمم المتحدة في ملف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والمسؤول عن تقديم الإحاطات الدورية لمجلس الأمن، والعمل ضمن التفويض الأممي المعتمد لإدارة هذا الملف.
شمل موقعه الجديد الإشراف على فريق أممي يعمل بين القدس ورام الله وغزة، والتنسيق مع الأطراف الدولية والإقليمية ذات الصلة، في إطار الدور التقليدي للأمم المتحدة في عملية السلام، دون امتلاك صلاحيات تنفيذية أو أدوات ضغط مستقلة. وقد جاءت ولايته في مرحلة اتسمت بجمود سياسي كامل، وتراجع فعلي لدور العملية السياسية، مقابل تصاعد التحديات الميدانية والإنسانية.
وجدير بالذكر أن انخراط ملادينوف في قضايا الشرق الأوسط لم يكن طارئًا أو وليد التعيينات الأممية، بل يعود إلى فترة عضويته في البرلمان الأوروبي بين عامي 2007 و2009، حيث كان ضمن الوفود البرلمانية الأوروبية التي زارت العراق وأفغانستان والأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد أتاح له هذا الدور الاحتكاك المباشر ببيئات نزاع مختلفة، والتعرّف ميدانيًا على تعقيدات الملفات الأمنية والسياسية في المنطقة، ما وفّر له أرضية مبكرة في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط من منظور أوروبي–دولي.
إلى جانب ذلك، شغل ملادينوف مهامًا دولية أخرى خارج الإطار الحكومي والبرلماني، من بينها العمل مع البنك الدولي في سياقات مرتبطة بالتنمية وبناء المؤسسات في الدول الخارجة من النزاعات.
دوره في الملف الفلسطيني: “إدارة الحافة” وحدود الدور الأممي
شكّلت ولاية نيكولاي ملادينوف كمبعوث خاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط (2015–2020) نموذجًا واضحًا لما يمكن توصيفه بـ إدارة الحافة في التعاطي مع الملف الفلسطيني، أي العمل المستمر على منع الانفجار الكبير دون الاقتراب من معالجة جذوره السياسية. فمنذ اللحظة الأولى لتكليفه، وجد ملادينوف نفسه أمام مشهد سياسي مغلق: مفاوضات متوقفة، انقسام فلسطيني عميق، حكومة إسرائيلية غير معنية بأي مسار سياسي، ومجتمع دولي يتراجع عمليًا عن الاستثمار في فكرة التسوية.
غير أن هذا الواقع لم يكن وحده ما قيّد دوره، إذ جاء تعيينه في بيئة فلسطينية لم تنظر بعين الثقة أصلًا إلى المبعوثين الدوليين، نتيجة تراكم خبرات سابقة عززت القناعة بانحياز هذه الأدوار، بدرجات متفاوتة، لصالح الاحتلال الإسرائيلي. وفي هذا السياق، عبّرت الفصائل الفلسطينية مبكرًا عن رفضها لتعيينه، معتبرة أن توليه منصب منسق عملية التسوية “يشكّل نقيضًا لأي مسعى حقيقي لسلام عادل”، واتهمته بالتقاطع مع دولة الاحتلال وتبرير جرائمها، استنادًا إلى مواقفه السابقة عندما كان وزيرًا للخارجية في بلغاريا.
لم يكن هذا الموقف استثنائيًا أو معزولًا، بل عكس شكًّا فلسطينيًا بنيويًا في طبيعة الدور الأممي ذاته، الذي غالبًا ما بدا عاجزًا عن لعب دور متوازن، أو راغبًا في ممارسة ضغط سياسي فعلي على الاحتلال. وعليه، لم يُنظر إلى ملادينوف باعتباره حالة مختلفة، بل امتدادًا لمسار دولي قائم على إدارة تداعيات الاحتلال بدل مواجهته.
عمليًا، تركز حضور ملادينوف الميداني في قطاع غزة، بوصفه الساحة الأكثر هشاشة وقابلية للانفجار. وهناك، انخرط في هندسة تفاهمات تهدئة غير مكتوبة، بوساطة مصرية–قطرية وبغطاء أممي، هدفت إلى وقف جولات التصعيد ومنع الانزلاق إلى حرب شاملة، واعتمدت هذه المقاربة على أدوات محددة، أبرزها التسهيلات الاقتصادية الجزئية، وإدخال المنح المالية، وتحسينات إنسانية محدودة، جرى تقديمها بوصفها بدائل عملية عن غياب الأفق السياسي.
غير أن هذه المقاربة، وإن نجحت مرحليًا في ضبط الإيقاع الأمني، أسهمت في تكريس معادلة “الهدوء مقابل التسهيلات”، دون أي معالجة فعلية لأسباب الانفجار الأساسية، وفي مقدمتها الحصار والاحتلال وغياب الحقوق السياسية. وهو ما جعل التهدئة غاية بحد ذاتها، لا مدخلًا لمسار سياسي، وحوّل غزة إلى ملف إنساني–أمني يُدار بمعزل عن السياق الوطني الفلسطيني الأشمل.
هذا النموذج انسجم إلى حدّ كبير مع الرؤية التي تبنّتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبشكل خاص مقاربة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، القائمـة على إدارة الصراع لا حلّه، وفرض الوقائع على الأرض، مع الحرص المستمر على استدامة الانقسام داخل النظام السياسي الفلسطيني. فمن منظور الاحتلال، لم تكن التهدئة وسيلة لإنهاء الصراع، بل أداة لضبط غزة أمنيًا، وتحييدها سياسيًا، فيما جرى توظيف الاقتصاد والتسهيلات كبديل وظيفي عن الحقوق.
في هذا الإطار، لم تصطدم مقاربة ملادينوف مع هذه الرؤية الإسرائيلية، بل تقاطعت معها في الجوهر، حتى وإن اختلفت في الخطاب. فالدور الأممي، كما مارسه، انحصر في احتواء النتائج لا تفكيك الأسباب، وفي إدارة الأزمة بدل تغيير قواعدها، وهو ما عكس حدود التفويض الدولي، وقيود المنظومة الأممية نفسها، التي تفتقر إلى أدوات ضغط حقيقية، وتعمل ضمن سقف سياسي منخفض تفرضه موازين القوى الدولية.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن ملادينوف مثّل بالنسبة للأمم المتحدة قناة اتصال أساسية في لحظات الخطر، وشخصية قادرة على التحرك السريع بين العواصم والفاعلين، وتنسيق تدخلات عاجلة لتفادي الانفجار. غير أن هذه الفاعلية الميدانية جاءت على حساب البعد السياسي، وأسهمت في إطالة عمر إدارة الأزمة، لا الاقتراب من حلّها.
بهذا المعنى، لا تُختزل تجربة ملادينوف في كونه مبعوثًا “فشل” أو “نجح”، بل في كونه تجسيدًا لنهج دولي أوسع في التعاطي مع القضية الفلسطينية يُقدّم الاستقرار الأمني المؤقت على المسارات السياسية الجدية، ويُدير الصراع بدل أن يسعى لتفكيكه.
لماذا يُعاد تدوير ملادينوف الآن؟
لم يأتِ اسم نيكولاي ملادينوف إلى واجهة التداول فجأة، بل برز بوصفه الخيار البديل بعد تعثّر خيارٍ كان مطروحًا بقوة في الكواليس الدولية، تمثّل في رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، فقد طُرح بلير في مرحلة مبكرة بوصفه المرشح الأوفر حظًا لتولي الموقع المحوري في “مجلس السلام”، غير أن هذا الطرح اصطدم سريعًا برفض فلسطيني واسع، وبتحفظات عربية وإقليمية واضحة، بالنظر إلى سجله السياسي ودوره في حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وما ارتبط بها من كلفة بشرية هائلة.
لم يقتصر الاعتراض على ماضي بلير في دعم والتورط السياسي المباشر في حروب العراق وأفغانستان، بل امتد إلى دوره اللاحق كمبعوث للجنة الرباعية الدولية، حيث نُظر إليه بوصفه شريكًا في هندسة مقاربة أمنية–اقتصادية استهدفت تفكيك بنية الانتفاضة الفلسطينية، وتحجيم المقاومة، والانحياز الكامل للرواية الإسرائيلية، فضلًا عن دوره في إجهاض نتائج الانتخابات الفلسطينية، والتعامل مع الاستحقاق الديمقراطي الفلسطيني من منظور أمني لا سياسي. هذه الخلفية جعلت اسمه غير قابل للتسويق، لا شعبيًا ولا سياسيًا، في أي مشهد فلسطيني أو إقليمي حساس.
أمام هذا الرفض، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للبحث عن بديل أكثر قابلية للقبول النسبي من حيث القدرة على العمل داخل المشهد الفلسطيني المعقّد دون استفزاز مباشر. هنا عاد اسم ملادينوف إلى الواجهة، بوصفه شخصية أقل تصادمية رمزيًا، وأكثر احتكاكًا عمليًا بتفاصيل المشهد الفلسطيني في سنواته الأخيرة، وذات خبرة ميدانية مباشرة في إدارة الملفات الحساسة، خصوصًا في قطاع غزة.
تميّز ملادينوف، خلال ولايته السابقة، بقدرته على التعامل مع حركة حماس عبر قنوات غير مباشرة، وضمن مقاربات دقيقة هدفت إلى التحييد لا الاشتباك، وبالانسجام مع الوسطاء الإقليميين، لا سيما مصر وقطر، مما جعله من وجهة النظر الأميركية، مرشحًا مناسبًا للعب دور تنفيذي في مرحلة معقّدة، تتطلب إدارة التناقضات أكثر من طرح الحلول.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى ملادينوف باعتباره صاحب رؤية سياسية مستقلة، بل باعتباره أداة تشغيلية قادرة على تحويل نصوص مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذات البنود العشرين، وقرار مجلس الأمن الدولي 2803، إلى برامج تنفيذية على الأرض. وهي مهمة شديدة التعقيد، في ظل الفجوات الواسعة في التفسير بين الأطراف المختلفة:
الفلسطينيون، الوسطاء الثلاث (مصر وقطر وتركيا)، مجموعة الدول الثماني العربية والإسلامية الأكثر انخراطًا في الملف، في مقابل الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى تثبيت نتائج الحرب، وإعادة إنتاجها بأدوات سياسية وأمنية، والرؤية الأميركية التي تنسجم استراتيجيًا مع إسرائيل، لكنها تحتاج في الوقت نفسه إلى هدوء نسبي يُسوّق كنجاح لإدارة ترامب في تفكيك واحدة من أكثر بؤر التوتر اشتعالًا في المنطقة.
ضمن هذا المشهد المركّب، يُعاد تقديم ملادينوف بوصفه المايسترو القادر على إدارة هذه التناقضات دون أن ينحاز علنًا لأي طرف، وعلى منع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، مع ضمان الحد الأدنى من المصالح الأمنية الإسرائيلية، وتلبية الحاجة الأميركية إلى نقل “مجلس السلام” و”القوة الدولية” من مستوى التصورات إلى حيّز التنفيذ العملي. كما يُعوَّل عليه في إدارة العلاقة المعقّدة بين الهيئة الدولية المفترضة، وأي إدارة فلسطينية محلية في قطاع غزة، ضمن نموذج يقوم على الضبط، لا السيادة.
بهذا المعنى، لا تعكس إعادة تدوير ملادينوف قناعة بقدرته على إنتاج حل سياسي، بقدر ما تعبّر عن أزمة خيارات لدى الولايات المتحدة وحلفائها، وعن بحثٍ متجدد عن شخصية تستطيع إدارة مرحلة شديدة الهشاشة، ومنع انهيار الترتيبات الانتقالية، حتى وإن كان ذلك على حساب الأسئلة الكبرى المرتبطة بالعدالة، والحقوق، وجذور الصراع والمسار السياسي الجدي للوصول لدولة فلسطينية.