بعد ضغوط قطرية أمريكية استمرت عدة أشهر، أُجبر الاتحاد الأوروبي على التوصل إلى اتفاق في 9 ديسمبر 2025 للحد من قانون الاستدامة الجديد الذي كان يهدد بفرض غرامات تصل إلى 5% من الإيرادات العالمية على الشركات.
ففي بداية عام 2025، كان الاتحاد الأوروبي على وشك إقرار هذا القانون الجديد بهدف تحميل الشركات العاملة في أوروبا مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان والضرر البيئي عبر سلاسل التوريد العالمية، وإلزامها بوضع خطط انتقالية للحد من الانبعاثات والتحقق من الموردين.
فما قصة قانون استدامة الشركات وكيف أجبرت قطر وأمريكا الاتحاد الأوروبي على التراجع عن بعض بنوده، وهل يعد هذا الاتفاق نهائيا أم مؤقتا لسد حاجة كتلة بروكسل من الغاز خلال الشتاء؟
ما قانون الاستدامة؟
أطلق الاتحاد الأوروبي خلال 2020–2024 حزمة تشريعات لتحويل الاستدامة من تعهد أخلاقي إلى التزام قانوني أهمها توجيه العناية الواجبة (CSDDD).
هذا القانون الأخير كان من المقرر أن يفرض على الشركات التي تعمل أو تبيع في السوق الأوروبية – سواء كانت أوروبية أو أجنبية – الالتزام بمتابعة سلاسل توريدها العالمية للكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان والبيئة، وإعداد خطط انتقال مناخية متوافقة مع اتفاق باريس، وتحمّل المسؤولية المدنية إذا فشل الموردون في الامتثال.
مصير عدم الامتثال كان غرامات تصل إلى 5 % من إيرادات الشركة العالمية. بجانب ذلك، يتضمن إطار الإفصاح المستدام (CSRD) متطلبات مالية ومعلوماتية تشمل عدد الشركات الأكبر، وتلزمها بنشر معلومات حول المخاطر البيئية والاجتماعية والحكامة.
هذه القوانين صُممت في بيئة سياسية ترى أن تدابير الاستدامة، خطوة ضرورية لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050 وضمان انتقال اقتصادي عادل.
لكنها أثارت اعتراضات من الشركات التي تعتمد على سلاسل توريد عالمية معقدة ومن الدول المصدرة للطاقة، خصوصاً حين أصبحت شروط العناية الواجبة تطالب الشركات الأوروبية بالتحقق من عمليات الموردين مثل شركات النفط الوطنية في الخارج.
أسباب اعتراض قطر وأمريكا
تعتمد قطر على صادرات الغاز المسال كمصدر رئيسي للإيرادات وتُعد مورداً مهماً لأوروبا بعد حرب أوكرانيا، لكن الدوحة اعتبرت أن CSDDD يستهدف موردي الطاقة بشكل غير عادل؛ إذ يطالب الشركات بالتحقق من انتهاكات حقوق الإنسان والبيئة عبر سلاسل التوريد، بما في ذلك مشتري الغاز.
قطر رأت في ذلك محاولة لفرض معايير خارجية على شركاتها الوطنية، وتحويل الشركات الأوروبية إلى شرطي عالمي يراقب عمليات الحفر والنقل والإنتاج في دول ذات سيادة.
لم تكن قطر وحدها في المواجهة، فالولايات المتحدة – أكبر مصدر للغاز المسال إلى أوروبا – انضمت إلى الدوحة في رسالة رسمية مشتركة بتاريخ 22 أكتوبر 2025.
الرسالة، التي وقعها وزيري الطاقة الأميركي والقطري، تحدثت عن “مخاطر كبيرة على القدرة على تأمين طاقة موثوقة وبأسعار معقولة” بسبب CSDDD واعتبرت البنود المتعلقة بالمسؤولية المدنية والغرامات ذات تأثير مدمر.
وقالت الرسالة إن تطبيق هذه القوانين خارج حدود أوروبا يشكل “تهديداً خطيراً على أمن الطاقة الأوروبي” ويُعتبر “تهديداً وجودياً لصناعة الطاقة العالمية”.
كما هددت الدوحة صراحة بأنها ستنظر في “أسواق بديلة” وستوقف الغاز عن أوروبا إذا لم تتم إزالة البنود المتعلقة بالتطبيق خارج حدود الاتحاد الأوروبي وفرض الخطط الانتقالية، معربة عن مخاوف من أن القانون قد يفتح الباب لإجراءات قضائية تطالبها بدفع تعويضات عن انبعاثات في دول أخرى.
إلى جانب الدول، لعبت الشركات دوراً محورياً. فقد صرح مسؤولون في شركتي Exxon Mobil وQatarEnergy أنهم قد يوقفون التعامل مع أوروبا إذا جرى تطبيق القانون بصيغته الأصلية.

كيف أُجبرت أوروبا على التراجع؟
- يتزامن التصعيد مع حاجة الاتحاد الأوروبي لضمان إمدادات الطاقة خلال شتاء 2025 – 2026، في ظل تقليص الاعتماد على الغاز الروسي.
- عام 2024 – 2025 أصبحت الدوحة ثاني أكبر مورد للغاز المسال لأوروبا، إذ تسهم بـ12–14% من الإمدادات، بينما تقدم واشنطن حوالي 50%.
- هذا الاعتماد أعطى الدوحة وواشنطن ورقة تفاوض ثقيلة أجبرت الاتحاد الأوروبي على التراجع.
نتيجة لذلك، وافق البرلمان الأوروبي في أكتوبر 2025 على إعادة فتح النقاش وتخفيف القواعد، في تراجع فتح الباب لصفقات خلفية بين بروكسل والشركات/الدول حول شروط التخفيف.
وفي 9 ديسمبر 2025، توصل مفاوضو البرلمان والمجلس الأوروبي إلى اتفاق لخفض نطاق قانون الاستدامة، بعد أشهر من المفاوضات.
هذا الاتفاق وصفه محللون بأنه تنازل كبير أمام ضغوط الشركات والدول. المتحدث باسم إكسون موبيل الأمريكية للطقاة قال إن التعديلات “خطوة في الاتجاه الصحيح لكنها لا تذهب بعيداً بما فيه الكفاية” لأن القانون ما زال يُطبق على الشركات غير الأوروبية.
ولم تصدر قطر أي تعليق رسمي بعد على الاتفاق، لكن مراقبين يرون أن الدوحة حصلت على ما كانت تريده: تقليص الغرامة وتخفيف تطبيق القانون.
التغييرات الأوروبية الجوهرية تشمل:
تقليص عدد الشركات الخاضعة للتوجيه: سيطبق CSDDD فقط على الشركات التي يزيد عدد موظفيها عن 5000 وتحقق إيرادات 1.5 مليار يورو (أو الشركات غير الأوروبية التي تحقق نفس الإيرادات في السوق الأوروبية)، بعدما كان المقترح يشمل شركات بحد أدنى أقل.
خفض الغرامات وتأجيل التطبيق: حددت العقوبات بما لا يزيد عن 3 % من صافي الأرباح العالمية للشركة، مع تأجيل بدء التطبيق إلى منتصف عام 2029، ما يمنح الشركات وقتاً أطول للتكيف.
إلغاء إلزامية خطط الانتقال المناخي: جرى حذف بند إلزام الشركات بوضع خطة انتقالية للحد من الانبعاثات، وهو أحد البنود التي أغضبت قطر والولايات المتحدة.
تعديل قانون الإفصاح (CSRD): أصبح ينطبق على الشركات التي لديها أكثر من 1000 موظف وإيرادات 450 مليون يورو فقط، مما يستثني آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة.

سيناريوهات 2026 وما بعدها
1- تثبيت صفقة شتوية بعقود طويلة الأجل
إذا اعتبرت الدوحة أن تسوية الاتحاد الأوروبي خفّفت فعلاً مخاطر الغرامات ومسؤولية سلاسل التوريد بما يبدّد شكوكها، فقد تنتقل العلاقة من “حافة التهديد” إلى مرحلة تثبيت عبر عقود غاز أطول أجلًا.
وفي هذا السيناريو، تصبح “صفقة ديسمبر” نقطة انطلاق لتسويات متدرجة كلما ظهرت معايير تنظيمية جديدة، بدل أن تتحول كل موجة تشريعات إلى أزمة سياسية في سوق الطاقة.
2- تهدئة مؤقتة ثم عودة التوتر
لكن هناك احتمال أن يكون الاتفاق تهدئة مؤقتة؛ إذ ما زالت هناك بنود غير محذوفة تتعلق بالمسؤولية المدنية للشركات التي تتسبب في انتهاكات حقوق الإنسان، وتطبيق إجراءات العناية الواجبة على الموردين خارج الاتحاد.
شركات الطاقة ترى أن هذا يبقي الباب مفتوحاً لمطالب إضافية. لذلك قد تعود قطر والولايات المتحدة للضغط إذا حاول الاتحاد الأوروبي مستقبلاً تشديد معاييره.
3- التحول إلى أسواق بديلة وتنويع الإمدادات
إذا تدهورت العلاقات، قد تبدأ الشركات القطرية والأمريكية إعادة تخصيص الشحنات لآسيا، خاصة مع توقع نمو الطلب في الصين والهند. وقد وقعت قطر بالفعل عقوداً ضخمة مع الصين لتوريد غاز لمدة 27 عاماً.
في المقابل، قد تواصل أوروبا تنويع مصادرها نحو النرويج والجزائر والولايات المتحدة، وتعزيز الاستثمار في الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة.
وفي هذا السيناريو يتحول الضغط إلى حرب عقود طويلة الأجل؛ وقد يدفع الاتحاد الأوروبي ثمنا أعلى للطاقة لفترة، بينما تخسر الشركات القطرية حصتها السوقية الأوروبية.