تصاعدت المخاوف التركية على أمن الملاحة في البحر الأسود مع انتقال تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية إلى تخوم المجال البحري لأنقرة، عقب حادث جديد وقع مساء الجمعة الماضية، حين تعرّض ميناءا تشورنومورسك وأوديسا الأوكرانيان لهجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ روسية، أسفرت عن أضرار لحقت بثلاث سفن تجارية مملوكة لشركات تركية، من بينها سفينة شحن تحمل مواد غذائية.
جاء هذا التطور بعد أسابيع قليلة من إدانة أنقرة هجومًا بمسيّرة بحرية استهدف ناقلة النفط الروسية «فيرات» قرب سواحلها الشمالية، واصفًا الرئيس رجب طيب أردوغان ذلك الهجوم بأنه تصعيد مقلق يهدد سلامة الملاحة في البحر الأسود. وبينما أكدت تركيا أن الهجوم نُفّذ بواسطة زورق غير مأهول، أعلنت أوكرانيا مسؤوليتها عن استهداف ناقلتين خاضعتين للعقوبات في إطار سعيها للضغط على قطاع النفط الروسي.
وتعتبر أنقرة أن استهداف السفن ضمن نطاق منطقتها الاقتصادية الخالصة يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها البحري ولمصالحها الحيوية في مجالات التجارة والطاقة، في وقت باتت فيه الهجمات البحرية تعكس اقتراب الحرب من المجال البحري التركي لأول مرة منذ اندلاعها، وما يحمله ذلك من تداعيات استراتيجية متسارعة.
التأثير على التجارة والطاقة وإمدادات الحبوب
يمثل البحر الأسود شريانًا حيويًا للتجارة والطاقة وتدفقات الحبوب بالنسبة لتركيا ومحيطها الإقليمي، ما يجعل أي اهتزاز أمني فيه ذا تداعيات اقتصادية واستراتيجية واسعة. ومع تصاعد الهجمات البحرية، بدأت ملامح هذه التداعيات تظهر بوضوح على عدة قطاعات حيوية، فعلى صعيد التجارة والملاحة، يُعد البحر الأسود ممرًا رئيسيًا لخطوط الشحن التي تربط أوروبا بآسيا، وهو ما يفسر تحذيرات خبراء الملاحة من أن تنامي المخاطر الأمنية فيه يهدد سلاسل الإمداد العالمية.
دفع التصعيد الأخير شركات الشحن إلى دق ناقوس الخطر، إذ ارتفعت أقساط التأمين البحري بشكل ملحوظ، فيما أعلنت مجموعة «بيشيكطاش» التركية للشحن تعليق عملياتها المرتبطة بالموانئ الروسية لأسباب أمنية. ويعكس ذلك حالة متزايدة من عدم اليقين في قطاع النقل البحري، قد تنعكس مباشرة على حركة الاستيراد والتصدير التركية إذا استمر التصعيد، مع احتمال لجوء شركات أخرى إلى تغيير مساراتها أو تقليص نشاطها في مناطق التوتر، بما يرفع كلفة الشحن ويطيل زمن وصول البضائع إلى الموانئ التركية والإقليمية.
أما قطاع الطاقة والنفط، فيواجه بدوره مخاطر متصاعدة، إذ يشكل البحر الأسود ممرًا أساسيًا لصادرات النفط والغاز الروسي إلى الأسواق العالمية عبر ناقلات تمر بمحاذاة السواحل التركية. وفي ظل العقوبات الغربية، اعتمدت موسكو على ما يُعرف بـ«أسطول الظل» لنقل نفطها بعيدًا عن الرقابة، وهو ما جعل هذه الناقلات هدفًا لهجمات أوكرانية تهدف إلى تقليص عائدات روسيا النفطية وتجفيف مصادر تمويل الحرب.
رست سفينتا التنقيب الخامسة والسادسة اللتان انضمتا حديثًا إلى أسطول الطاقة التركي، في رصيف “آغالر” البحري بولاية مرسين جنوبي البلاد، عقب تسليمهما لشركة النفط التركية.
وصلت إحدى السفينتين المخصصتين للعمل في البحر الأسود إلى مرسين نهاية سبتمبر، قبل سحبها إلى الرصيف ووضعها بجانب… pic.twitter.com/ZhOC2bhmLE
— نون بوست (@NoonPost) December 5, 2025
غير أن هذا التصعيد يثير قلق أنقرة، التي حذّر وزير طاقتها ألب أرسلان بيرقدار من أن ضربات المسيّرات قد تمتد لتطال مسارات حيوية لنقل النفط والغاز تحت البحر الأسود، بما في ذلك خطوط الأنابيب التي تزود تركيا وأوروبا بالغاز الروسي. وتخشى أنقرة من أن يؤدي أي مساس بهذه البنية التحتية إلى تهديد مباشر لأمن الطاقة التركي والإقليمي، فضلًا عن انعكاساته المحتملة على أسواق الطاقة العالمية عبر ارتفاع الأسعار أو تعقيد مسارات الإمداد البديلة، ما دفعها إلى التشديد على أن منشآت الطاقة تمثل «خطًا أحمر» يجب إبقاؤه خارج دائرة الصراع.
وبالتوازي، تتصاعد المخاطر على إمدادات الحبوب والأمن الغذائي، إذ يُعد البحر الأسود منفذًا رئيسيًا لصادرات الحبوب الأوكرانية والروسية التي تعتمد عليها دول كثيرة، خصوصًا في الشرق الأوسط وأفريقيا.
ورغم أن مبادرة حبوب البحر الأسود، بوساطة تركية وأممية، نجحت خلال العام الأول للحرب في تجنب أزمة غذاء عالمية، فإن انسحاب روسيا من الاتفاق في يوليو 2023 أعاد الموانئ الأوكرانية إلى دائرة الاستهداف، وأصاب حركة تصدير الحبوب بالشلل.
الانعكاسات الأمنية والبحرية على تركيا
مع اقتراب تداعيات الحرب من حدودها البحرية، سارعت تركيا إلى تشديد إجراءاتها الأمنية والدفاعية في البحر الأسود، في محاولة لاحتواء المخاطر وحماية مصالحها الحيوية من أي تهديد مباشر.
وأعلنت وزارة الدفاع التركية أنها كثّفت الدوريات البحرية والجوية عقب سلسلة الهجمات الأخيرة التي طالت ناقلات قرب سواحلها، مؤكدة أن هذه الخطوات تأتي في إطار مقاربة وقائية تهدف إلى رفع مستوى الجاهزية ورصد أي تحركات مريبة في المجال البحري.
وبالتوازي، كثفت أنقرة تعاونها المعلوماتي مع حلف شمال الأطلسي بشأن تطورات الوضع في البحر الأسود، حيث بحث وزير الخارجية هاكان فيدان مع الأمين العام للحلف مارك روته ومسؤولين من دول الجوار ملف سلامة الملاحة خلال اجتماعات عقدت في بروكسل.
كما دخلت تركيا في مشاورات ثلاثية مع رومانيا وبلغاريا لتعزيز التنسيق الأمني المشترك، وسط تأكيدات رسمية بأن الدول الثلاث تبحث اتخاذ تدابير إضافية لرفع مستوى الأمن البحري، بما في ذلك مواجهة الألغام والتهديدات غير التقليدية.
وفي الوقت نفسه، وسّعت تركيا نطاق يقظتها الأمنية ليشمل حماية منشآتها الحيوية، وفي مقدمتها البنية التحتية للطاقة تحت سطح البحر، مثل خطوط أنابيب النفط والغاز التي تمر عبر قاع البحر الأسود. وقد دفعت التحذيرات من احتمال استهداف هذه المنشآت إلى زيادة الدوريات البحرية قرب مساراتها، مع توظيف قدرات سلاح الجو في أعمال المراقبة والاستطلاع لرصد أي نشاط غير اعتيادي. كما رفعت أنقرة مستوى التأهب على صعيد الأمن الساحلي، ووضعت الموانئ التركية المطلة على البحر الأسود، مثل صامسون وزونغولداق، في حالة يقظة مشددة، مع تعزيز الرقابة على حركة السفن الداخلة والخارجة.
خطوات تركية متوقعة
في ضوء التحديات الأمنية المتصاعدة، يُرجّح أن تتجه أنقرة إلى تبنّي مقاربة متعددة المسارات لتأمين البحر الأسود وحماية مصالحها الاستراتيجية خلال المرحلة المقبلة، تجمع بين التشديد الأمني والتحرك الدبلوماسي وإعادة ضبط توازناتها الإقليمية والدولية.
على المستوى الأمني والعسكري، يُتوقع أن تواصل تركيا تعزيز وجودها البحري والجوي على امتداد سواحلها المطلة على البحر الأسود، مع تكثيف أنشطة المراقبة والاستطلاع لرصد أي تحركات معادية، ولا سيما المسيّرات البحرية، قبل اقترابها من مياهها.
وتشير التقديرات إلى احتمال تطوير منظومات رقابة تقنية أكثر تطورًا، في إطار التزام أنقرة بمبدأ «الملكية الإقليمية للأمن البحري»، القائم على اعتماد الدول المشاطئة على قدراتها الذاتية وتنسيقها المباشر في حفظ الاستقرار.
وبالتوازي، يُنتظر أن تكثف تركيا جهودها الدبلوماسية لاحتواء التصعيد ومنع انزلاقه إلى مواجهة أوسع. فبعد طرح الرئيس رجب طيب أردوغان فكرة هدنة محدودة تشمل الموانئ ومنشآت الطاقة، قد تسعى أنقرة إلى حشد دعم دولي وإقليمي لهذه المبادرة، بهدف الضغط على موسكو وكييف للالتزام بترتيبات تحدّ من استهداف الملاحة والبنى التحتية.
وفي هذا الإطار، يُتوقع تصاعد وتيرة الاتصالات التركية مع موسكو وكييف، وربما عقد لقاءات على مستويات أمنية واستخباراتية لضبط قواعد الاشتباك في البحر الأسود ومنع الحوادث، إلى جانب الاستعانة بأطراف دولية كالأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون الأوروبي لدعم جهود تحييد الملاحة التجارية.
بعد سنوات من الشراكة الحصرية مع روسيا، تتجه #تركيا لتغيير قواعد اللعبة النووية عبر اتفاق إستراتيجي مع #أمريكا يُعيد توزيع أوراق النفوذ في قطاع الطاقة ويفتح الباب أمام استقلالية أكبر في قراراتها السيادية
📍مذكرة نووية مع أمريكا.. هل تفك أنقرة ارتهانها لروسيا؟… pic.twitter.com/aPEXRC4144
— نون بوست (@NoonPost) September 27, 2025
أما على صعيد حماية البنية التحتية الاستراتيجية، فمن المرجح أن تولي أنقرة أولوية قصوى لتأمين خطوط أنابيب النفط والغاز الممتدة تحت البحر الأسود، عبر تنسيق أوثق بين القوات البحرية وشركة خطوط الأنابيب التركية «بوتاش» لرصد أي محاولات تخريب أو تسلل قرب المسارات الحساسة.
وقد تسعى تركيا للحصول على دعم تقني من حلف شمال الأطلسي، يشمل تقنيات استشعار تحت بحرية متقدمة أو استخدام طائرات مسيّرة لمراقبة سطح البحر.
وفي موازاة ذلك، قد تدفع أنقرة باتجاه تفاهمات سياسية مع موسكو وكييف تكرّس مبدأ عدم استهداف البنى التحتية الحيوية، بما في ذلك خطوط الطاقة وكابلات الاتصالات، تفاديًا لانزلاق الصراع إلى مستويات يصعب احتواؤها.
وفي إطار موازنة علاقاتها داخل التحالفات الدولية، يُتوقع أن تواصل تركيا السير على خط دقيق بين تعزيز دورها الأمني في البحر الأسود والحفاظ على حساسياتها مع روسيا. فمن جهة، سيشجع حلف شمال الأطلسي أنقرة على لعب دور أكبر في تأمين الملاحة، بوصفها القوة البحرية الأبرز في البحر الأسود داخل الحلف، وقد يقدّم لها دعمًا استخباراتيًا أو تدريبيًا في مواجهة التهديدات غير التقليدية.
ومن جهة أخرى، ستسعى أنقرة إلى طمأنة موسكو بأن تحركاتها دفاعية بحتة ولا تستهدف تغيير التوازنات أو فتح الباب أمام وجود بحري أطلسي كثيف، التزامًا باتفاقية مونترو.
في المحصلة، تبدو تركيا أمام منعطف بالغ الحساسية في إدارة أمن البحر الأسود. فبعد سنوات من الاستفادة من موقعها كقوة إقليمية وازنة حافظت على قدر من الحياد، تجد نفسها اليوم مطالبة بالدفاع عن هذا الاستقرار تحت ضغط تصعيد يقترب من حدودها البحرية.
وستحاول أنقرة، عبر مزيج محسوب من الردع العسكري والتحرك الدبلوماسي، إعادة البحر الأسود إلى وضعه الطبيعي كممر آمن للتجارة والتعاون الإقليمي. فنجاحها في ذلك سيعزز موقعها كضامن لأمن المنطقة، بينما قد يدفعها فشل هذه الجهود إلى خيارات أكثر صرامة لحماية مصالحها القومية.
وبين هذين المسارين، تؤكد أنقرة أن أمن البحر الأسود يظل خطًا أحمر لا يمكن التفريط به، كما عبّر وزير الخارجية هاكان فيدان بتحذيره من أن الهجمات الأخيرة على الناقلات «تهدد سلامة الجميع وتكشف أن نطاق الحرب آخذ في الاتساع»، في رسالة واضحة بأن استمرار التصعيد ينذر بتداعيات يصعب التحكم بها.
