استمد قانون “قيصر” اسمه من المصور المنشق من الجيش السوري فريد المذهان، المساعد الأول رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، وينحدر من مدينة درعا، وهو الذي سرب معلومات وصور لضحايا تعذيب في سجون نظام الأسد المخلوع، بين عامي 2011 و 2014، ليقرّ مجلس النواب الأمريكي بعدها، في 15 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، مشروع قانون “قيصر” لمعاقبة الأسد على جرائمه بحق السوريين، ووقّع عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 21 من كانون الأول/ ديسمبر 2019، خلال ولايته الأولى.
كان القانون يهدف إلى ممارسة ضغط مباشر على نظام الأسد المخلوع لوقف قتل المدنيين السوريين، من خلال فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق، شكّلت إحدى أبرز أدوات الضغط في السياسة الأمريكية تجاه النظام السابق وحلفائه.
وفي 10 من كانون الأول/ ديسمبر، صوت مجلس النواب الأمريكي، بالأغلبية على مشروع قانون موازنة الدفاع، الذي تضمن بنداً يقضي بإلغاء قانون “قيصر”، وذلك نتيجة تضافر جهود دبلوماسية مكثفة، شاركت فيها كل من المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر، بالإضافة إلى المساعي التي بذلتها الحكومة السورية والجالية السورية في الولايات المتحدة.
ثلاثة خطوات لإزالة “قيصر” بشكل نهائي
يُعد قانون “قيصر” من أبرز الإجراءات التي اتخذتها واشنطن بحق النظام السوري السابق وحلفائه، بسبب طبيعته الثانوية التي تتيح فرض عقوبات على أفراد ومؤسسات أجنبية تتعامل مع جهات سورية خاضعة أصلاً للعقوبات الأمريكية.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن، خلال اجتماع عقده في السعودية مع الرئيس السوري أحمد الشرع في أيار/ مايو الماضي، عزمه رفع جميع العقوبات المفروضة على سوريا، فيما عمدت إدارته لاحقاً إلى تعليق بعضها بصورة مؤقتة، غير أن الإلغاء الدائم لعقوبات “قيصر” لا يتم إلا عبر تشريع يصدر عن الكونغرس الأمريكي.
قال المتخصص في القانون الدولي، معتصم الكيلاني، لـ”نون بوست” إن إلغاء قانون “قيصر” يمر بثلاث خطوات رئيسية قبل دخوله حيّز التنفيذ النهائي.
وتتمثّل الخطوة الأولى بالتصويت النهائي في مجلس النواب الأمريكي، إذ إن القانون مدمج حاليًا ضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA)، وقد صوّت المجلس بالفعل لصالحه، ما يشكّل خطوة كبيرة باتجاه الإلغاء.
صوّت مجلس النواب الأميركي على موازنة تشمل إلغاء قانون “قيصر” المفروض على سوريا، دون شروط أو استثناءات. كيف تفاعل السوريون مع هذا الخبر؟
إليكم التفاصيل👇 pic.twitter.com/3gvJd4STwB
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 11, 2025
أما الخطوة الثانية، فتتطلب تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على النص المتضمّن إلغاء القانون، إذ يجب أن يوافق عليه مجلس الشيوخ أيضًا، بحيث يُدمَج النص النهائي ضمن الصيغة النهائية لقانون الدفاع قبل إرساله إلى الرئيس.
وتتمثّل الخطوة الثالثة والأخيرة بتوقيع الرئيس الأمريكي، فبعد إقرار مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني في مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ)، يجب أن يوقّع الرئيس على المشروع ليصبح قانونًا نافذًا، وبذلك يكتمل إلغاء قانون “قيصر” رسميًا.
ويتابع الكيلاني: “وحتى بعد إلغاء القانون نفسه، تبقى هناك آلية رقابة مرتبطة بما يُعرف بـ”التقارير الدورية”، إذ يُناط برئيس الولايات المتحدة تقديم تقارير إلى الكونغرس كل 90 يوماً، ثم كل 180 يوماً، ولمدة أربع سنوات، حول التقدم في ملفات عدة، مثل مكافحة الإرهاب، واحترام حقوق الأقليات، والامتناع عن الأعمال العسكرية الأحادية، وتحدد هذه التقارير ما إذا كانت الولايات المتحدة قد تعيد فرض عقوبات محددة أو مستهدفة في حال عدم تحقيق المعايير المطلوبة.
وبحسب مسودة وثيقة أعدت في إطار قانون تفويض الدفاع الوطني، فإن رفع القانون يتطلب مراجعة الوضع في سوريا كل 180 يوماً على مدار أربع سنوات، لضمان اتخاذ دمشق الإجراءات المناسبة. وحددت مسودة الوثيقة، المجالات التي يجب على الحكومة السورية التقدم فيها، وهي:
- العمل مع الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم “الدولة” ومنع عودته.
- إبعاد المقاتلين الأجانب من المناصب العليا في الحكومة والأجهزة الأمنية.
- حماية الأقليات الدينية والعرقية وضمان تمثيلها بشكل عادل.
- الامتناع عن أي عمل عسكري غير مبرر ضد الدول المجاورة.
- تنفيذ اتفاق 10 من آذار (بين الحكومة السورية و”قسد”) بما في ذلك الإجراءات الأمنية والسياسية.
- مكافحة غسل الأموال، وتمويل الإرهاب وأنشطة الانتشار.
- محاكمة الأفراد المسؤولين عن انتهاكات “جسيمة” لحقوق الإنسان، منذ 8 من كانون الأول 2024.
- اتخاذ خطوات يمكن التحقق منها لوقف إنتاج وتهريب المخدرات، بما في ذلك الكبتاجون.
التأثيرات الاقتصادية بعد إزالة القانون
فرض قانون قيصر عقوبات واسعة على سوريا طالت قطاعات الطاقة والبنية التحتية والمصارف والطيران، ومنذ إسقاط النظام سعت الحكومة المؤقتة إلى التخلص من هذه العقوبات التي تعيق قدرتها على النهوض والتعافي.
الخبير الاقتصادي فراس شعبو، قال لـ”نون بوست” إن حجم التأثير الفوري لخطوات إلغاء القانون انعكس على سعر الصرف، لكنه وصفه بـ”تأثير متوقع ومحدود”، لا يرتبط بتغيرات اقتصادية فعلية، بل بحالة نفسية وتفاؤلية في السوق.
تفاؤل بتحسن الاقتصاد وتوفر فرص العمل.. مارأي أهالي دمشق برفع عقوبات قيصر عن سوريا؟ pic.twitter.com/KGy3nRalmz
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 12, 2025
وأوضح أن تحسن قيمة الليرة لم يترافق مع انخفاض في الأسعار، ما يجعل هذا التأثير مؤقتاً وغير شامل، وأن أي تحسن حقيقي يتطلب وقتاً، مرتبطاً بتحسن تدفق العملات الأجنبية، وعودة عمل المصارف، وفتح طرق التوريد، مشيراً إلى أن التحسن خلال الشهرين أو الثلاثة الأولى سيكون طفيفاً، بينما قد تشهد البلاد نقلة نوعية خلال فترة تمتد من عام إلى عامين ونصف في حال الإلغاء الكامل للقانون، شريطة أن تؤمن الحكومة البنى التحتية اللازمة وتستفيد من رفع العقوبات بشكل فعلي.
وبشأن احتمالية زيادة المنافسة وفائض العرض، يرى شعبو أن هذا السيناريو ممكن لكنه مشروط، إذ إن رفع “قيصر” يزيل الحواجز القانونية أمام دخول البضائع والاستثمارات، ما يعزز المنافسة، إلا أن ضعف القدرة الشرائية للمستهلك قد يؤدي إلى وجود عرض دون طلب كافٍ، ما يحدّ من أثر انخفاض الأسعار.
الاستثمارات المتوقعة بعد “قيصر”
يرى شعبو أن رفع العقوبات سيقلل من مخاطر التوريد إلى سوريا، ما يتيح للمستثمرين الأجانب والمصارف التعامل بحرية أكبر، ويفتح الباب أمام زيادة المستوردات والائتمان التجاري، لا سيما في قطاعات الإنشاء ومواد البناء وقطع الغيار وغيرها. لكنه حذّر من أن التوسع الكبير في الاستيراد قد يؤدي إلى استنزاف النقد الأجنبي، ما يستدعي سياسات متوازنة تجمع بين الاستيراد والتصدير.
وأوضح شعبو، أن إزالة العقوبات لا تعني تلقائياً عودة البنوك السورية إلى شبكات التحويل العالمية، بسبب متطلبات الامتثال والحوكمة والعلاقة مع البنوك المراسلة، وتابع أنه حتى في حال عدم وجود مشكلات تتعلق بنظام “سويفت” (في حال رفع قيصر وتعاقدت سوريا معه) هناك حاجزاً آخر يتمثل بمتطلبات ما يُعرف بالبنوك الوسيطة أو المراسلة، وهي بنوك عالمية كبرى تشترط معايير محددة قبل التعامل مع أي مصرف، وأن التحويلات المالية تمرّ عبر بنوك مراسلة عملاقة، مثل “سيتي بنك” و”جي بي مورغان” و”إتش إس بي سي”، والتي تعتمد عليها الدول في فتح حسابات تتيح عمليات الاستيراد والتصدير والتحويلات الخارجية. وفي حال عدم امتلاك المصارف السورية المتطلبات اللازمة للتعامل مع هذه البنوك، فإن أي عملية تحويل تصبح متعثرة.
بعد نحو خمس سنوات على فرضه، سقط قانون قيصر، مفسحًا المجال أمام تحوّل اقتصادي وسياسي وقانوني كبير في سوريا.. فهل تبدأ مرحلة جديدة فعليًا؟ pic.twitter.com/ZxT7rtXEmF
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 11, 2025
ويشير إلى أنه حتى بعد إزالة العقوبات، ستواجه المصارف السورية معوّقات فنية وقانونية، ما يستدعي تحسين سمعتها المالية، والحصول على شهادات الامتثال، ورفع مستويات الحوكمة والشفافية، إضافة إلى بناء علاقات فعّالة مع البنوك المراسلة، معتبراً أن القطاع المصرفي السوري بحاجة إلى إعادة هيكلة كبيرة وعميقة.
أما الاستثمارات الخليجية والغربية، فيرأى أنها ستتسارع بعد رفع العقوبات، خاصة في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والموانئ والطرق، والإسكان والعقارات، وغيرها، لكنه شدد على أن رفع “قيصر” وحده غير كافٍ دون استقرار أمني، وبيئة تشريعية وقانونية واضحة، إضافة إلى توفير آليات ضمان دولية. ويؤكد أن الدول والمستثمرين يشترطون معايير الحوكمة ومكافحة الفساد، ووجود خطة واضحة لإعادة الإعمار، إلى جانب قدرة الدولة على إدارة مواردها بكفاءة.
ويخلص إلى أن إزالة قانون قيصر تمثل خطوة مهمة وإيجابية، لكنها لا تعني بالضرورة تحسناً سريعاً، بالإضافة لضرورة عدم ربط التعافي الاقتصادي بإلغاء القانون وحده، بل استثماره كنقطة انطلاق للعمل بطريقة صحيحة وشاملة.
وبحسب تقديره، ستشهد الأشهر الأولى بعد الإلغاء إشارات إيجابية وتحسناً طفيفاً في سعر الصرف، يليها خلال فترة تمتد من ستة أشهر إلى عام ونصف تدفق استثمارات أكبر، وتنشيط المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مع بقاء تحديات البطالة والتضخم قائمة على المدى القريب.
وبعد يوم واحد على تصويت مجلس النواب الأمريكي بالأغلبية لصالح إلغاء قانون قيصر، شهدت الليرة السورية تحسّناً في سعر صرفها مقابل الدولار خلال في السوق الموازية، وسط حركة تداول متذبذبة، في حين واصل مصرف سوريا المركزي تثبيت سعر الصرف في تعاملات البنوك، لتعود الليرة اليوم في 13 من كانون الأول/ ديسمبر، للانخفاض.
ووصل سعر الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية، حتى لحظة كتابة التقرير، حوالي 11,750، بحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار العملات.
دورية أمنية تمازح المحتفلين في ساحة الساعة بحمص قائلة: “حاج احتفالات، تعبنا من وراكم”، بعد توافد عشرات المواطنين للاحتفال بخبر رفع عقوبات قيصر عن سوريا. pic.twitter.com/A3omFQ65kL
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 11, 2025
وأكد حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية لوكالة “سانا” أن إلغاء قانون “قيصر” يعتبر محطة مفصلية ستنعكس إيجاباً على الاستقرار النقدي والاقتصادي في سوريا. وأضاف “إذا كان إلغاء قانون قيصر يبدو كالمعجزة، فإنه بحدّ ذاته لن يصنع المعجزات، فالمعجزة الحقيقية تتحقق عندما نعمل جميعاً على الاستفادة من هذه الخطوة المهمة في بناء بلدنا ومؤسساته، وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وجذب الاستثمارات”.
وأوضح الحصرية أن إلغاء قانون “قيصر” سيفتح المجال أمام توسيع حركة التحويلات المالية، وزيادة انسيابية التجارة، واستعادة جزء مهم من الثقة بالقطاع المصرفي السوري.
وكانت وزارتا الخزانة والتجارة الأمريكيتان قد أعلنتا تمديد تعليق تطبيق عقوبات قانون “قيصر” جزئياً لمدة 180 يوماً. وجاء في بيان مشترك بين الوزارتين، في 10 من تشرين الثاني الماضي، أن القرار يستبدل الإعفاء السابق الذي صدر في 23 أيار الماضي، موضحاً أن التعليق الجديد يجمد العمل بمعظم العقوبات المفروضة بموجب القانون، مع استثناء تلك المتعلقة بالمعاملات المالية أو التجارية مع روسيا وإيران.
البيان جاء بعد زيارة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى البيت الأبيض.
وتهدف هذه الخطوة إلى “إتاحة المجال أمام الشركات والمؤسسات الأمريكية والدولية للانخراط في مشاريع اقتصادية وتنموية في سوريا”، مع الحفاظ في الوقت نفسه على “القيود المرتبطة بالدول والجهات التي تخضع لعقوبات أمريكية منفصلة”، بحسب البيان. وأن العقوبات ما تزال سارية على من وصفهم بـ”الأسوأ من بين الأسوأ”، وتشمل بشار الأسد والمقربين منه، ومنتهكي حقوق الإنسان، ومهربي “الكبتاغون”، والجهات الإقليمية المزعزعة للاستقرار.