“التفاحة الكبيرة”، أو “المدينة التي لا تنام”، مدينة نيويورك تُسلّم مفاتيحها لشاب من أصول مهاجرة، يدين بالإسلام ويتبنى الفكر الاشتراكي؛ نموذج مختلف تمامًا عن كل من سبقه في مدينة ذات خصوصية عالمية فريدة.
نخصص هذا الملف لتسليط الضوء على برنامج زهران ممداني، عمدة نيويورك الجديد، ونوضح ما الذي يمكن لممداني فعله، وما الذي يخرج عن حدود سلطته، وهل سيتمكن فعلًا من تغيير وجه مدينة كنيويورك. نستشرف أثره على ملفات مهمة للعرب والمسلمين، من الهجرة والحريات الدينية والانتماء الوطني، ونفحص حدود علاقته مع ترامب، وما إذا كان الأخير قادرًا فعلًا على إفشال الشاب المتحمس الذي اختارته نيويورك.
كما نقيس العلاقة الجدلية بين ممداني والمجتمع اليهودي في المدينة، والذي يُعد الأكبر بعد دولة الكيان. ونعرض أيضًا التغييرات التي طالت مؤسسة الحزب الديمقراطي، ونتساءل إن كانت هذه التحولات العاصفة على صلة بمنطقتنا، أم أنها مجرد ضربة حظ وأثر جانبي للسياسة الأمريكية المتخبطة.
المستعمرة الهولندية التي أسماها الغازي الأوروبي “هولندا الجديدة” تُعد اليوم واحدة من أكبر وأكثر المدن حيوية وتعقيدًا على مستوى العالم، بتعداد سكاني يقارب 8.5 ملايين نسمة، وقوة عاملة تفوق 300 ألف عامل، وقوة شرطية تقارب 35 ألف شرطي، وميزانية تتجاوز 120 مليار دولار أمريكي، وناتج محلي يفوق ناتج عشر دول مجتمعة ليقارب 1.3 تريليون دولار أمريكي. ملايين الأطفال يؤمّون مدارسها الحكومية، ومثلهم يستخدمون المواصلات العامة في المدينة يوميًا.
يشرف ممداني على كل هذا ويمتلك عليه سلطة واسعة، لكن حملته الانتخابية حملت معها وعودًا وآمالًا عريضة؛ البعض وصفها بالحالمة، فيما رأى فيها آخرون أملًا حقيقيًا بالتغيير. فهل سيتمكن ممداني، منذ توليه منصب عمدة مدينة نيويورك في يناير/كانون الثاني 2026 ولأربع سنوات قادمة، من الإيفاء بما وعد؟ ما الذي يستطيع ممداني فعله؟ وما الذي يخرج عن صلاحياته؟ ما العوامل والجهات التي ستعينه على تنفيذ برنامجه الانتخابي؟ وما الذي يمكن أن يعيقه؟ يجيب هذا المقال عن هذه الأسئلة وغيرها.
بين مجلس المدينة وحاكمة الولاية: من يقيّد عمدة نيويورك؟
ليس ممداني حديث الخبرة بالعمل السياسي؛ فقد دخل مجال العمل السياسي والعام منذ سنوات، رغم صغر سنّه، وخدم في الجمعية التشريعية لمدينة نيويورك ممثلًا عن حي أستوريا التابع لبلدية كوينز منذ عام 2021، لكن منصب عمدة المدينة يختلف تمامًا عن دور الممثل التشريعي، إذ يُعد ممداني الآن أعلى سلطة تنفيذية في المدينة بوصفه رئيسها التنفيذي.
يمتلك ممداني، بحكم منصبه، سلطة تعيين وعزل مفوضي قرابة ثلاثين هيئة إدارية تابعة للمدينة؛ على رأسها الشرطة والإطفاء والنقل والمالية والشؤون الثقافية وإدارة المشاريع الصغيرة، وعشرات غيرها. إضافة إلى إشرافه على أكثر من مئتي لجنة ومجلس مرتبطة بهذه الهيئات، تُسيّر حياة المدينة في ما يتعلق بالإسكان والشكاوى والتنمية الاقتصادية والبنية التحتية وغيرها.
وللعمدة أثر كبير على عقود المدينة. كما يعيّن، ضمن صلاحياته، قضاة المحاكم الجنائية ومحاكم شؤون الأسرة، وبشكل مؤقت قضاة المحاكم المدنية أيضًا. ويمتلك بحكم منصبه عضوية في مجالس إدارات المكتبات العامة والمتاحف ومراكز الفنون والحدائق العامة والمستشفيات ومؤسسة الصحة.
غير أن من أهم أدوار العمدة أنه يعمل كجسر وصل بين مدينة نيويورك ومختلف الهيئات الحكومية على المستويات الفيدرالية والولائية والمحلية كافة، وهو ما سيحكم إما بنجاح مهمته أو فشلها.
فرغم عظم السلطة التي يتمتع بها العمدة، إلا أنها مقيّدة بضوابط وتوازنات متعددة تجعلها جزءًا من كل، وتَحول دون تغوّل العمدة وفريقه على واقع المدينة بالكامل، فهناك مجلس الولاية التشريعي بشقّيه: النواب والشيوخ، وهو يحاكي الكونغرس الفيدرالي على مستوى الولايات، غير أن اختصاصه لا يتجاوز ولاية نيويورك، ومقره في ألباني. وهناك أيضًا حاكم الولاية، التي تقع المدينة ضمن نطاق اختصاصه.
العلاقة بين الولاية والمدينة علاقة شائكة وتحكمها المصالح والتحالفات؛ وقد شهدت عمادة نيويورك تحديات جمّة لم تساهم في خلقها الحكومة الفيدرالية خاصة إذا كانت جمهورية مناوئة بل خلقتها حكومة الولاية رغم كون كليهما ينتميان للمؤسسة الديمقراطية. وليس مثال دي بلاسيو، عمدة نيويورك (2014-2021)، منا ببعيد، فقد ساهم حاكم ولاية نيويورك الشهير أندرو كومو (2011-2021)، والذي بالمناسبة نافس ممداني على منصب عمدة المدينة، بإفشال أجندة دي بلاسيو خاصة تلك المتعلقة برفع الضرائب على أثرياء المدينة لتمويل برنامج تعليم حكومي لطلبة الروضات في المدينة.
لم يشأ كومو مواجهة أباطرة المال في المدينة خلال فترة إعادة ترشحه؛ وعليه فقد أمّن صفقة بالتعاون مع جمهوريي كونجرس الولاية مقابل إفشال مساعي دي بلاسيو لرفع الضرائب، واستطاع كومو أن يؤمّن مبلغ 300 مليون دولار أمريكي لتمويل برنامج روضة الاطفال دون حاجة لرفع الضرائب وضَمِن في الآن ذاته دعم أصحاب رؤوس الأموال له في حملته الإنتخابية.
في المقابل، كان العمدة السابق له مايكل بلومبرج مدركاً تماماً لمحددات عمل المدينة ولم يسع لأي تغييرات ضخمة، بل وضع أهدافاً لا تعارض كبار أسماك القرش من المتنفذين فيها؛ أهدافاً تتعلق بالبيئة وتوفير فرص عمل للشباب وتحسين الصحة العامة، وحقق في ذلك نجاحات لكنها لم تغير وجه المدينة كما يطمح أهاليها.
لدى ممداني تأييد لا بأس به من حاكمة الولاية كاثي هوشول وممثلي المجلس التشريعي خاصة زعيمة الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ للولاية أندريا ستيوارت- كازنيز ورئيس الجمعية كارل هيستي اللذين أيدا ممداني في السباق الإنتخابي على منصب العمدة.
غير أن هذا التأييد لا يعني تماشياً مضموناً مع برنامج ممداني؛ حيث تدخل اعتبارات عدة وضغوط خارجية وداخلية متعددة الجهات في المعادلة، فعلى سبيل المثال تسعى حاكمة الولاية هوشول لإعادة ترشيح نفسها في دورة عام 2026؛ وعادة ما يتجنب من يعيدون ترشيح أنفسهم استفزاز أصحاب النفوذ بزيادة كبيرة في الضرائب.
كما أن مدى شعبية ممداني في الدوائر الانتخابية لأعضاء مجلس الولاية التشريعي يلعب دوراً في التأثير على قراراتهم من حيث تأييده أو معاندته، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن بعضهم يأتون من دوائر انتخابية ليست ضمن المساحة الجغرافية لمدينة نيويورك وبالتالي يخفت تأثير ممداني على قراراتهم.
والأهم من حكومة ألباني في تشكيل واقع مدينة نيويورك هو مجلسها (City Council)، إذ تحتل هذه المعادلة موقعًا محوريًا ضمن العلاقة التبادلية التي تجمع عمدة المدينة بمجلسها، وهي علاقة بالغة الأهمية في تنفيذ البرنامج الانتخابي وإدارة المدينة ككل، فضمن نظام الضوابط والتوازنات، الذي يشابه نظام الفصل بين السلطات، لا يمتلك العمدة صلاحية إصدار القوانين التي تحكم سير الأمور في المدينة، إذ يختص بها مجلس المدينة حصرًا، وتشمل مجالات السكن والعمل والتكنولوجيا والسلامة العامة والأمن والاستهلاك والصحة والبيئة، وغيرها من شؤون الحياة اليومية.
يستطيع العمدة تقديم مشاريع ومقترحات القوانين عبر مكتب المتحدث باسم مجلس المدينة، كما يملك سلطة الموافقة النهائية على هذه القوانين بالتوقيع عليها لتدخل حيز النفاذ، وله في المقابل حق الاعتراض عليها لمنع تنفيذها، وهو اعتراض يمكن للمجلس تجاوزه بتصويت ثلثي أعضائه.
وهناك تاريخ طويل من المماحكات بين عمدة مدينة نيويورك ومجلس المدينة؛ إذ غالبًا ما يتجاوز المجلس اعتراضات العمدة على القوانين التي يقرّها، خاصة تلك المتعلقة بالحد الأدنى للأجور، والحياة التجارية في المدينة، وقوانين الشرطة. ونادرًا ما يتفق الطرفان، كما حدث في اعتراض العمدة الحالي إيريك آدامز على منع منح تراخيص لخمارات جديدة في مدينة برونكس، وهو اعتراض غضّ المجلس الطرف عنه لاعتبارات وضغوط مجتمعية وتجارية.
وبالتالي، يعمل العمدة كجزء مركزي في آلة إدارة المدينة، لكنه سيفشل حتمًا إذا ما عاند بقية الأجزاء، ولم يجد حلولًا وسطًا تُرضي مختلف الأطراف، وتمثل مصالح أطياف المجتمع النيويوركي كافة، كما هي ممثلة في مجلس مدينتها.
الضرائب من أعلى إلى أسفل
مسألة الضرائب كانت واحدة من أهم مرتكزات برنامج ممداني الانتخابي؛ فقد تعهد الشاب الاشتراكي المتحمس بفرض مزيد من الضرائب على أثرياء مدينة النيويورك خاصة وأنها تعدّ واحدة من أوكار تجمع أصحاب الثروات الطائلة ومنهم على سبيل العد لا الحصر مايكل بلومبيرج ورولف لورين وروبرت مردوخ وجوليا كوخ وستيفن سكوارزمان وتشايس كولمان وهي كلها أسماء لأقطاب في عالم الإعلام وصناعة الترفيه وسوق المال.
وقد حاول كثير منهم إفشال وصوله لمقعد العمدة بدعم مناوئيه رغم ضآلة فرصة وصولهم في مدينة لطالما أسلمت رسنها للديمقراطيين. فقد وصلت تبرعات ملياردريات وول ستريت ومنهم بيل أكمان وعائلة لاودر وأليس والتن وآخرون عبر مبادرات “أصلحوا المدينة” و”دافعوا عن مدينة نيويورك” لقرابة ال40 مليون دولار أمريكي لدعم أندرو كومو وكورتيس سليوا منافسي ممداني على المنصب.
ورغم أن جزءاً من هذا الإنفاق المحموم يعود لأسباب سياسية ودينية تؤيد إسرائيل وتعادي المسلمين والمهاجرين؛ إلا أن سوادها الأعظم مدفوع بأجندة ممداني المتعلقة بالضرائب والتي تعهدت بزيادة ملموسة على ضرائب أصحاب الثروات وتخصيص عوائدها لتقديم خدمات للمدينة وللأفراد والمجتمعات المهمشة فيها خاصة انها تأتي في إطار سياسة وفكر إشتراكي معادٍ للرأسمالية بمفهومها التغوّلي الذي يفيد منه هؤلاء في مراكمة ثرواتهم.
View this post on Instagram
وتدّعي وكالات الأنباء ذات الجذور الرأسمالية أن وعود ممداني الاقتصادية حالمة؛ إذ تخشى أكثر ما تخشى من وعوده بفرض ضرائب تقارب ال5 مليارات دولار أمريكي على الشركات الكبرى ورؤوس الأموال التجارية فيها. إضافة لضريبة أخرى تعهد ممداني بفرضها على أثرياء المدينة الذين يجنون دخلاً أكثر من مليون دولار سنوياً لتمويل برامجه الواعدة.
لكن سلطة ممداني على رفع الضرائب ليست مطلقة؛ إذ رغم أنه يملك صلاحية التخطيط والتنفيذ لميزانيات المدينة المتنوعة إلا أن فرض ضرائب كبيرة أو رفع ضرائب سابقة بنسبة عالية يحتاج إلى موافقة حاكم الولاية ومجلسها التشريعي بشقيه: النواب والشيوخ. ما يجعل ممداني أمام اختبار التاثير والدبلوماسية التي سيستطيع من خلالها دون سواها إقناع بقية أطراف المعادلة بالتماشي مع سياسته الاقتصادية بشقّها المتعلق بالضرائب. فرفع الضريبة على الشركات من 7.5% وهي النسبة الحالية ل11.5% سيحتاج مرة أخرى لدعم كونجرس الولاية وبالتالي سيعتمد على قدرة ممداني على خلق التحالفات وموازنة المصالح.
ويخشى الرأسماليون من أثر هذه الضريبة على عوائدهم وأرباحهم متوعدين سكان المدينة بتقليل جودة الخدمات وتعداد العمالة والاجور لتغطية الخسائر حال تم إقرار الضريبة ومنهم أيضاً من يهدد بترك مدينة نيويورك بالكلية والتوجه لبيئات “أكثر رفقاً” بالشركات، على غرار تهديد المليونير الأمريكي جون كاتسيماتيدس صاحب مجموعة التفاحة الحمراء التجارية التي تمتلك سلسلة محلات بقالة شهيرة في نيويورك بالانتقال لولاية نيوجرسي او لولاية فلوريدا هرباً من أجندة ممداني بخصوص الشركات الكبرى، ما يهدد وفقاً لهم مكانة المدينة كأعظم عاصمة للاقتصاد في العالم.
الإيجار: معضلة نيويورك الأولى
تعد تكاليف السكن في مدينة نيويورك واحدة من أكبر التحديات التي تواجه سكانها، حيث تكلف ضعفي المتوسط الوطني في أحسن الأحوال وهي فوق ذلك عرضة لآثار التضخم المخيفة التي ما فتأت تفتّ في عضد المدينة وتثقل كاهل أهلها الذين يعد 68% منهم مستأجرين.
ورغم محاولات المدينة المتكررة عبر مجالسها البلدية الحدّ من تغوّل ملّاك الشقق والبنايات السكنية بوضع قوانين وضوابط تمنع زيادات الإيجار المرتفعة التي من شأنها أن تترك عائلات كثيرة بلا مأوى، وعلى رأسها القوانين التي تحدد زيادات الإيجار في البنايات السكنية التي تحوي ست وحد سكنية فما فوق، وبُنيت قبل عام 1974 في مدينة نيويورك حتى يتمكن سكانها من توقع تكاليف السكن وزياداتها السنوية، ظلت معضلة السكن واحدة من أهم بنود البرنامج الانتخابي لكل من يطمح إلى موقع في إدارة المدينة، خاصة وأن ذوي الدخل المحدود في المدينة ينفقون قرابة 30% من دخلهم بدلاً للإيجار ما يشكل عبأً ضخماً يثقل كاهلهم.
وقد ضمن الوعد الانتخابي لممداني بتجميد الزيادات على هذه الشقق طوال فترة خدمته عمدةً للمدينة انتصارًا كاسحًا في انتخابات الحزب الديمقراطي التمهيدية ضد منافسه كوموK كما تعهّد ممداني ببناء 200 ألف وحدة سكنية ثابتة الإيجار خلال السنوات العشر المقبلة، إضافة إلى عدد من المشاريع الهادفة إلى تيسير الإيجارات وحظر الإخلاء وتوسيع نطاق الإسكان المُدار من قبل القطاع العام.
يمتلك العمدة سلطة تعيين جميع أعضاء مجلس إرشادات الإيجار، المكوّن من تسعة أعضاء، كما يملك صلاحية اتخاذ قرارات متعلقة بزيادات الإيجار أو خفضها. ورغم أن إمكانية اتخاذ قرار بتجميد الزيادات تبدو ممكنة نظريًا، إلا أن مثل هذا القرار، إذا اتُّخذ من دون دراسة كافية وموازنة شاملة للمصالح، قد يتسبب بأزمة اقتصادية خانقة في المدينة؛ إذ إن نفقات صيانة المباني، التي يتحملها مُلّاك العقارات، تتأثر بدورها بالتضخم وتشكل عبئًا متزايدًا، خاصة على صغار الملاك وأولئك الجدد في هذا القطاع. ويُضاف إلى ذلك أن عدد هذه الوحدات السكنية يقارب المليون وحدة في مدينة نيويورك، أي ما يعادل أربع وحدات من كل عشر وحدات سكنية في المدينة.
لطالما تعاطف عمد نيويورك القادمون من خلفيات رأسمالية مع الملاك، واتخذ بعض المجالس التي عيّنوها قرارات كارثية بحق سكان المدينة، ولا سيما ذوي الدخل المحدود. ويُعد القرار الذي اتخذه المجلس المُعيّن من قبل العمدة الحالي إريك آدامز، والذي تنتهي ولايته مع نهاية الشهر الحالي، برفع الإيجارات بنسبة 4.5% على العقود الموقعة لمدة سنتين، و3% على العقود الموقعة لمدة سنة، مثالًا صارخًا على هذه القرارات المجحفة، التي دفعت ممداني إلى إطلاق وعده الصاروخي في هذا الملف.
غير أن هذا الوعد بالذات قد يكون الأوفر حظًا والأسرع تنفيذًا، نظرًا لسلطة ممداني في تعيين أعضاء المجلس. وقد نجح العمدة السابق للمدينة بيل دي بلاسيو بالفعل في تجميد الإيجارات ثلاث مرات، أعوام 2015 و2016 و2020. وقد أثمرت هذه التجميدات عن مساعدة مباشرة للمستأجرين، في حين يدّعي مُلّاك العقارات أنها زادت من أعباء الصيانة، وحالت دون التوسع في الاستثمار في قطاع السكن والعقارات داخل المدينة. كما باشر دي بلاسيو هو الآخر ببناء 200 ألف وحدة سكنية جديدة في المدينة، لكنها لم تكن كافية لحل أزمة الإسكان المستفحلة التي تعانيها نيويورك منذ عام 2014.
بل إن مسألة الإيجار لطالما احتلت موقعًا متقدمًا في أجندات الحكومات الديمقراطية منذ ستينيات القرن الماضي، والتي سعت، بطريقة أو بأخرى، إلى التحكم في الزيادات على بدلات الإيجار في المدينة. وتُعد مبادرة “ميتشل–لاما” للإسكان إحدى أهم أمثلة نضال مدينة نيويورك لتسهيل شروط الاستئجار ولجم أطماع واستغلال المُلّاك، إذ تقف هذه المبادرة شامخة منذ خمسينيات القرن الماضي، تعمل على تأسيس وحدات سكنية منخفضة الإيجار لذوي الدخل المحدود، وتحظى بدعم العمادات المتعاقبة لمدينة نيويورك.
حافلات المدينة: حق مجاني أم مصدر للربح؟
وعد آخر غير مسبوق لممداني كان توفير مواصلات مجانية لسكان المدينة. إذ يشكل قطاع المواصلات العامة عصب الحياة في مدينة نيويورك وتبلغ تكاليف تشغيلها ما يعادل 21 مليار دولار سنوياً تتحصّل عليها الهيئة العامة للنقل MTA من خلال بدل المواصلات والضريبة والرسوم المفروضة على الجسور والمعابر. وبالتالي فإن إعفاءً واسعاً من التذاكر المدفوعة للحافلات في المدينة مثلاً سينتج عجزاً في ميزانية الهيئة ينبغي على المدينة توفيره من باقي ميزانياتها؛ وسيكلف وفقاً للتقديرات بين 600 و800 مليون دولاراً أمريكياً، الأمر الذي سيحتاج قراراً من الولاية ودعماً من أعضاء الهيئة المستقلة في أدائها عن فريق ممداني.
لم يكن ممداني أول من يقترح توفير حافلات مجانية للنقل في المدينة؛ إذ جرّبت المدينة في عهد إيريك آدامز، العمدة الحالي، برنامج نقل طيّار يخصص خمس مسارات للحافلات بدون رسوم للعامين 2023 و2024 وقد رفض كونجرس الولاية تجديد تمويل البرنامج لينتهي في شهر آب من عام 2024 بعد أن أقرت هيئة النقل بفشله لتكاليف تشغيله العالية وزيادة الضغط على هذه المسارات وتبطيء عملية النقل في المدينة. رغم أن نسبة المترداين لهذه الحافلات زادت بنسبة 30% لكن المشكلة كمنت في بطء حركة الحافلات بسبب الضغط المتزايد عليها ما يشي بوجود مشكلة عامة في نظام المواصلات في المدينة.
أضف إلى ذلك أن أهم الرسوم المفروضة على المركبات تسنها القوانين التي يُقرّها كل من هيئة النقل وهيئة الطرق السريعة التابعة للولاية بموجب السلطة الممنوحة لها من كونجرس الولاية وتصادق عليها الجهات الفيدرالية المختصة وبالتالي تقع خارج اختصاص ممداني وتحتاج من أجل تعديلها أو إلغائها إلى قوانين جديدة يقرّها الجسم التشريعي وتمرّ بالإجراءات والموافقات متعددة المستويات؛ وهي عملية معقدة تدخل في حساباتها دراسات جدوى وعوامل إقتصادية واجتماعية وحسابات سياسية تتجاوز حدود المدينة بكثير. وعليه فمن غير المرجح أن يستطيع ممداني الوفاء بهذا الوعد على نطاق واسع وإن كان بالإمكان توفير عدد محدود من الحافلات التي تخدم المجتمعات ذات الدخل المتدني في محاولة لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن سكانها.
View this post on Instagram
وبينما تعهد ممداني الذي يرى نفسه عمدة لكل سكان المدينة بلا تمييز ويستمد مبدأ المساواة من خلفيته الاشتراكية، بتوفير حافلات مجانية لكافة أهل المدينة؛ حاول منافسه كومو الصيد في الماء العكر بإدعاء أن هكذا برنامج من شأنه أن يثقل كاهل ميزانية المدينة ليستفيد منه أثرياء يستطيعون دفع رسوم الحافلات دون حاجة وتعهد بدوره بتوفير هكذا خدمة لذوي الدخل المتدني دون غيرهم.
إنصاف للفقراء أم قرصة للرأسمالية؟
تعهد ممداني ضمن أجندته الانتخابية بتوفير محلات بقالة مدعومة من المدينة توفر البضائع بأسعار متدنية وهو الأمر سيكلف ميزانية قدرها 140 مليون دولار امريكي سنوياً وسيحتاج هو الآخر لدعم مجلس المدينة المكون من ممثلين عن الأحياء المختلفة فيها والذين سيكون في حساباتهم الوضع الاقتصادي لبقية محلات البقالة في تلك الاحياء والتي ستعاني من منافسة من المحلات التي تعهّد ممداني بفتحها والتي عليها في الآن ذاته أن تواجه التضخم وسلاسل التوريد المتغولة. مرة أخرى تخضع هذه القرارات لحسابات عديدة ومن غير المرجح أن يحصل ممداني على دعم مطلق من أعضاء مجلس المدينة لتنفيذ هذا التعهد بشكل واسع النطاق وستظل التجربة محدودة في مدينة تجارية من الطراز الأول كمدينة نيويورك.
وقد تعرض وعده هذا لانتقادات حادة بوصفه مستمداً من الفكر السوفيتي بينما يفسر ممداني فكرته بكونها ستكون متكأة على أراضي الدولة وأسعار الجملة وتسهيلات ضريبية للموردين بحيث سيكون هناك سلسلة في كل واحدة من البلديات الخمس التابعة لمدينة نيويورك دون أن تشكل منافسة فعلية على حركة التجارة الدؤوبة فيها.
كما أنّ هذه الفكرة على خلاف ما يسوّق لها الرأسماليون وأعداء ممداني ليست جديدة على المدينة؛ فنيويورك مكتظة بالمبادرات والمشاريع التي توفر غذاء لذوي الدخل المحدود في ظل الغلاء غير المسبوق للمواد التموينية ووقوع فئات كثيرة من سكان المدينة تحت مقصلة انعدام الأمن الغذائي. منظمات حكومية ومدنية وغيرربحية إضافة لمبادرات مجتمعية عديدة تتبنى فكرة ممداني بتوفير المؤونة بأسعار مخفضة.
كما أن البقالة الحكومية نفسها ليست فكرة غير مسبوقة في الولايات المتحدة؛ فقد وجدت الفكرة مستقراً لها في ماديسون في ولاية ويسكنسن وفي سانت باول في ولاية كينساس إضافة لمخططات شبيهة في كل من شيكاغو وأتلانتا تخدم مجتمعات الملونين والمُعدمين وذوي الدخل المتدني ممن لا يملكون قوت يومهم. وقد عبّر عمدة مدينة أتلانتا أندري ديكنز عن دعمه لمشروع البقالة الحكومية قائلاً أن محاولات الحكومة بدعم هذه الفئات المهمشة لم يثمر مع التجار وأن الحكومة مضطرة لتوفير هذا المشروع للناس.
هناك أيضاً الوعد الذي أطلقه ممداني بزيادة الحد الأدنى من الأجور ليصل لثلاثين دولاراً في الساعة بحلول عام 2030 وهو ضعف الحد الأدنى الحالي الذي أقرّته المدينة عام 2018 بمعدل خمس عشرة دولاراً للساعة. جرّ هذا الوعد معه مخاوف وتكهنات عدة لأصحاب المشاريع ورؤوس الأموال. فالتخوف من البطالة واللجوء للسوق السوداء للحصول على العمالة الرخيصة وغير المشروعة يبدو منطقياً في ظل بنية تجارية وإقتصادية كالتي تحملها مدينة نيويورك غير ان هذا التخوف يبدو أثراً جانبياً ضئيل الأثر حال تمكّن ممداني من تحسين الحد الأدنى للأجور لتتماشى مع التضخم والظروف الاقتصادية الساحقة في المدينة.
من ناحية أخرى، يعد توفير رعاية مجانية للطفولة المبكرة (6 أسابيع حتى خمس سنوات) واحدة من أهم نقاط برنامج ممداني؛ وقد تصل تكلفتها لست مليارات دولار أمريكي سنوياً حال تمّ إقرارها. وهي كغيرها من الوعود ستحتاج لدعم من ممثلين الولاية التشريعيين؛ غير ان هذه النقطة بالذات يبدو انها تحوز دعم حاكمة الولاية هوشول والتي تعهدت في إحدى جولاتها مع ممداني قبيل الإنتخابات بالعمل سوياً مع ممداني لجعل هذا الوعد يرى النور وبإعتباره أولوية أثناء نقاش ميزانية الولاية العام المقبل.
أربع سنوات لاختبار الحلم
تعتقد لين ويكارت، مؤلفة كتاب “العمدة مايكل بلومبيرج: حدود السلطة” وأستاذ الإدارة العامة في جامعة جيمس مايدسون في نيويورك أن الخلطة السحرية لعمادة ناجحة في المدينة هي التخطيط الجيد والتعيين الذكي للعمالة الماهرة والأهم هو قياس إمكانية نجاح الخطط بوضع أهداف قابلة للتحقيق ومتابعة تنفيذها ومن ثم الإحتفال بالإنتجازات في هذا المضمار؛ أما اللعب مع الدب في وكره فلن يجلب للعمدة إلا مزيداً من التحديات ومحاولات مستمية لإفشاله من قِبل المؤسسة.
هذا بالضبط ما جاء زهران ممداني ليتحداه!
طالت هستيريا ممداني كافة وكالات الأنباء؛ واستمرت حتى بعد أن فاز الأخير بالمنصب وصار وجوده على رأس هرم المدينة أمراً واقعاً. ورغم أن أسباباً لا تخفى على أحد من رغبة بهزيمة المهاجرين والمسلمين والاشتراكيين الذين يحمل ممداني هويتهم بفخر تقف وراء هذه المعسكرات المحمومة لتثبيط عزيمته وثني الناخبين عن دعمه؛ إلا أنّ خوفاً مستتراً من إمكانية نجاحه ولو بشكل محدود طغت على النبرة المتشائمة لهذه المعسكرات.
نجاح ممداني سيعني الكثير لا له على صعيد شخصي ومهني وحسب ولكن أيضاً لكل الذين يحمل هويتهم ويخوض غمار المعركة الصعبة برايتهم. وجه المدينة سيتغير فعلاً لو استطاع ممداني أن يكسر للمرة الأولى منذ وقت طويل قواعد اللعبة لتتحول نيويورك معه لمدينة لأهلها كلّ أهلها لا لزمرة من أصحاب الثراء الفاحش والأجندات المأزومة.
التحليلات المتشائمة التي رأت في اليوتوبيا التي يعد بها ممداني ضرباً من الخيال الجامح الذي سيكسر أنف مدينة نيويورك ويكلّف حتى فئاتها الموعودة بالتغيير كثيراً انتشرت يمنة ويسرة وبنت تقديراتها على تاريخ حافل لعمادة المدينة مرّ به اللاعبون الصغار وأبناء الآلة الرأسمالية والمغامرون والعقلانيون والسابحون مع التيار وضده وفي النهاية فرضت اللعبة قواعدها دون تغيير بطولي يُذكَر.
على الضفة المقابلة، لا يعتقد أنصار ممداني والمتحمسين له بطوباوية وعوده الإنتخابية؛ بل على العكس تماماً يرون انها ممكنة التحقيق وقادرة على تحسين جودة حياة سكان المدينة ورفع بعض الثقل الذي رزحت تحته لعقود بتأثير من الرأسمالية القاسية التي تحكمها. حيث ترى مليحة سافري، أستاذة الاقتصاد في جامعة ديرو ومؤلفة كتاب “مدن متضامنة: مواجهة الرأسمالية العنصرية وطريق التغيير” أن تاريخ المدينة نفسها، التي كانت من ثلاثينات وحتى ستينات القرن الماضي مدينة النقابات العمالية قبل أن تختطفها النيوليبرالية سبعينات القرن الماضي وتحرف مسارها النضالي، يدعم إمكانية تنفيذ برنامج ممداني خلال السنوات الأربع لتوليه المنصب.
ترى سافري أن سياسة ممداني تتبع روحاً عمّالية جريئة تتحدى رأس المال العنصري في المدينة وتنقل إدارة المدينة من الشركات الكبرى للشعب مرة اخرى.
وعليه فإن بعض وعود ممداني تتجاوز سلطته التقليدية لكنها ليست مستحيلة؛ فبتعيينات ذكية ومدروسة في مجلس إرشادات الإيجار وبتوافق مع حكومة الولاية في ألباني وبناء تحالفات قوية داخل مجلس المدينة سيتمكن ممداني من إجراء تغييرات حقيقية على وجه الحياة في المدينة وهو ما تبدو الشخصية المرنة والذكية لممداني قادرةً على الخوض في غماره.