أعادت زيارة رئيس مجلس السيادة ووزير الدفاع السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى المملكة العربية السعودية، فتح النقاش مجددًا حول الرؤية السعودية إزاء تطورات المشهد السوداني، ولا سيما في ضوء التحولات الميدانية الأخيرة في المواجهة مع ميليشيا الدعم السريع، التي حققت خلال الفترة الماضية اختراقات عسكرية بدعم إماراتي متواصل.
وتكتسب الزيارة، وهي الثالثة للبرهان منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، أهمية خاصة، إذ التقى خلالها بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ضمن لقاء رفيع المستوى شارك فيه كل من وزير الدفاع ومستشار الأمن الوطني ووزير المالية، وهو مستوى من التمثيل يعكس استعداد الرياض للانتقال من موقع المتابعة الحذرة إلى انخراط أكثر عمقًا في الملف السوداني.
في التقدير السعودي، لم تعد الحرب في السودان محصورة في إطارها الداخلي، بل تحولت إلى ساحة معقدة من التشابكات الجيوسياسية، تمتد تداعياتها من البحر الأحمر إلى عمق القارة الأفريقية، وتتقاطع بصورة مباشرة مع اعتبارات الأمن الإقليمي وأولويات «رؤية السعودية 2030».
وفي هذا السياق، تسعى هذه القراءة إلى استكشاف مقاربات المملكة تجاه المشهد السوداني، في لحظة يبدو فيها أن الاكتفاء بسياسة الحياد لم يعد كافيًا في ظل ما فرضته التطورات الأخيرة، ليتحوّل السودان إلى فضاء استراتيجي تُختبر فيه قدرة الرياض على حماية مصالحها، وإعادة ترتيب توازنات الإقليم.
تشرفت اليوم بزيارة البلد الشقيق، أرض الخير، المملكة العربية السعودية. شكرًا على حفاوة الاستقبال. شكرًا أخي الكريم، ابن الأكرمين، سمو الأمير محمد بن سلمان. pic.twitter.com/W1WlFMJGCz
— A.fatah Alburhan (@aftaburhan) December 15, 2025
السودان في ميزان الحسابات السعودية
لم يكن السودان يومًا دولة هامشية في سلّم أولويات السياسة السعودية، بل ظل يمثل ثِقَلًا استراتيجيًا راسخًا في الحسابات الإقليمية للرياض، وتُستمد أهمية الخرطوم بالنسبة للرياض من شبكة متداخلة من الاعتبارات الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية، تجعل من استقراره مسألة تتجاوز البعد الثنائي إلى فضاء الأمن الإقليمي الأوسع.
في مقدمة هذه الاعتبارات يبرز البعد الأمني للبحر الأحمر، حيث يشكّل السودان إحدى الركائز الأساسية على ضفته الغربية، المقابلة مباشرة للسواحل السعودية، ومن ثم، فإن استقرار هذا البلد يُعد عنصرًا حاسمًا في ضمان أمن الملاحة البحرية، وحماية الموانئ السعودية، وتأمين خطوط التجارة والطاقة، وأي اضطراب ممتد في الداخل السوداني ينعكس تلقائيًا على أمن البحر الأحمر، الذي بات يشكّل محورًا رئيسيًا في الرؤية الاقتصادية السعودية ومشروعاتها المستقبلية.
إلى جانب ذلك، يبرز السودان كعمق استراتيجي حيوي في معادلات القرن الأفريقي، إذ تمثل الخرطوم البوابة الأوسع للرياض نحو هذه المنطقة التي تشهد تصاعدًا في التنافس الإقليمي والدولي، ومن خلال الحضور في السودان، تسعى السعودية إلى موازنة نفوذ قوى إقليمية أخرى، والحيلولة دون تحوّل القرن الأفريقي إلى ساحة نفوذ لقوى معادية أو غير مستقرة، بما قد يهدد مصالحها على المديين المتوسط والبعيد.
ولا يغيب البعد الاقتصادي عن هذه المعادلة، إذ يمتلك السودان موارد زراعية ومائية ضخمة تؤهله ليكون شريكًا محوريًا في تحقيق الأمن الغذائي السعودي، وقد راكمت الشركات السعودية استثمارات ممتدة في القطاعين الزراعي والحيواني داخل السودان، ما يجعل الاستقرار السياسي والأمني شرطًا أساسيًا لحماية هذه الاستثمارات وتوسيعها ضمن رؤية تنموية طويلة الأمد.
كما تستند الرؤية السعودية إلى بعد دبلوماسي تاريخي، حيث تعود العلاقات بين البلدين إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، وحرصت الرياض عبر عقود على الحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة مع مختلف الحكومات السودانية، وقد أتاح هذا الإرث الدبلوماسي للمملكة لعب دور الوسيط المقبول نسبيًا، وتعزيز موقعها كقوة إقليمية داعمة للاستقرار والتسويات السياسية.
أما على المستوى الدولي، فتكتسب السودان أهمية إضافية في الحسابات السعودية بوصفه ملفًا مشتركًا مع الولايات المتحدة وعدد من الشركاء الدوليين، ويمنح ذلك الرياض مساحة أوسع لتوظيف ثقلها الدبلوماسي ضمن ترتيبات إقليمية أشمل، لا سيما تلك المرتبطة بأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وعليه، يمثل السودان بالنسبة للسعودية نقطة التقاء بين الأمن الجغرافي والمصالح الاقتصادية والدور الإقليمي، وتنطلق الرؤية السعودية من قناعة راسخة بأن أمن السودان لا ينفصل عن أمن المملكة، ولا عن استقرار البحر الأحمر بأكمله.
مقاربات السعودية الستة
تنطلق المقاربة السعودية تجاه الحرب في السودان من إدراك متقدم لموقع هذا البلد في هرم أولوياتها الاستراتيجية، باعتباره ورقة جيوسياسية ثقيلة الكلفة يصعب تركها لعوامل الفراغ أو التدافع الإقليمي غير المنضبط. ومع تسارع التحولات الميدانية وانزلاق الصراع الجنرالي الداخلي نحو حافة انفجار مفتوح يهدد وحدة السودان واستقراره، بدت الرياض وكأنها أمام لحظة اختبار لا تسمح بسياسة الانتظار أو الاكتفاء بحياد المتفرج.
أولوية الاستقرار الإقليمي
ترى السعودية في السودان ركيزة محورية لأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وهما فضاءان حيويان لممرات الطاقة والتجارة والأمن البحري المتصل مباشرة بأمنها القومي، فاستمرار الحرب يعني تهديد سلامة الملاحة، وتوسيع هوامش التهريب والجريمة المنظمة، وإشعال هشاشة الضفة الغربية للبحر الأحمر، بما يحوّل السودان من عمق استراتيجي محتمل إلى مصدر ضغط أمني مستدام على المملكة.
رهان على مؤسسات الدولة
يميل السلوك السعودي إلى ترجيح كفة القوات المسلحة السودانية باعتبارها المؤسسة النظامية القادرة – نظريًا – على حفظ الحد الأدنى من تماسك الدولة. هذا الخيار ينسجم مع فلسفة أوسع ترفض تطبيع حضور الفاعلين المسلحين من غير الدول، إدراكًا لما يحمله نموذج الميليشيات من عدوى إقليمية مدمرة وتفكيك لبنى الدول الوطنية في المدى الطويل.
وساطة محسوبة لا انخراط مباشر
ورغم هذا الانحياز البنيوي لمؤسسات الدولة، تحرص الرياض على تقديم نفسها باعتبارها وسيطًا فاعلًا لا طرفًا صريحًا في النزاع، يتجلى ذلك في رعايتها لمسار مفاوضات جدة بالشراكة مع واشنطن، ومحاولاتها المتكررة لتثبيت هدن إنسانية ووقف لإطلاق النار، بما يحفظ لها موقعًا دبلوماسيًا مقبولًا لدى الأطراف السودانية والفاعلين الإقليميين والدوليين في آن واحد.
دبلوماسية ناعمة بوجه إنساني
تواكب المقاربة السعودية مسارات دعم إنساني وإغاثي وإجلاء لرعايا دول متعددة عبر البحر الأحمر في الأسابيع الأولى للحرب، في توظيف واعٍ لـ”القوة الناعمة” لتكريس صورة المملكة كفاعل مسؤول يسعى إلى احتواء الكلفة الإنسانية للصراع، بدل الاكتفاء بإدارة موازينه الصلبة أو الاصطفاف العسكري المباشر.
تحييد السودان عن التصعيد الإقليمي
تتحرك الرياض في السودان وهي تضع في اعتبارها معادلة التنافس مع قوى إقليمية، في مقدمتها الإمارات، لكن من دون الانزلاق إلى تحويل الساحة السودانية إلى مسرح مواجهة مفتوحة بالوكالة، لذلك ترجح المملكة إدارة هذا التنافس ضمن أطر تفاوضية ودبلوماسية محسوبة، إدراكًا لأن الانفلات نحو التصعيد سيُفضي إلى فوضى إقليمية يصعب التحكم بمآلاتها أو كلفتها الاستراتيجية.
ترجيح المسار السياسي
من هذا المنظور، تميل السعودية إلى اعتبار التسوية السياسية – مهما بدت مركبة ومتدرجة – الخيار الأكثر واقعية لإنهاء الحرب، بعيدًا عن الرهان على الحسم العسكري الخالص، فقيام حكومة مدنية سودانية عبر مسارات انتقالية متفاوض عليها يُنظر إليه باعتباره المدخل الأضمن لاستقرار قابل للاستدامة، يقوم على إعادة بناء الشرعية لا على فرض الأمر الواقع بقوة السلاح.
وعليه، يمكن توصيف المقاربة السعودية إزاء السودان بأنها مقاربة براغماتية حذرة، تمسكٌ بدعم مؤسسات الدولة، وانخراط نشط في الوساطة، وإبراز متعمد للبعد الإنساني، مع سعي دائم لعزل الساحة السودانية عن دوائر التصعيد الإقليمي، هدفها المركزي ليس إعادة تشكيل السودان بالقوة، بل منع سقوطه في هاوية الانهيار الشامل.
مراسل الشؤون الخارجية والدفاعية بشبكة بي بي إس، نيك شيفرين: “السعودية تريد من ترامب أن يفرض عقوبات على الإمارات، وأن تُصنَّف قوات الدعم السريع كجماعة إرهـ.ـابيـة”. pic.twitter.com/uEmWk6LiGs
— نون بوست (@NoonPost) November 21, 2025
دعم الجيش السوداني
استنادًا إلى تلك المقاربات البراغماتية، رأت المملكة أن دعم القوات المسلحة السودانية بقيادة عبدالفتاح البرهان يمثل الخيار الأمثل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، متماشيًا مع رؤيتها الشاملة تجاه السودان كركيزة إقليمية حيوية.
دعم سياسي ودبلوماسي حاسم
تعزز الرياض شرعية البرهان عبر لقاءات رفيعة المستوى، إذ زارها ثلاث مرات منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023 (نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مارس/آذار 2025، وديسمبر/كانون الأول 2025)، مع ضغوط مكثفة على واشنطن وإدارة الرئيس دونالد ترامب لتصنيف قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية، مما يعزلها دوليًا ويرسخ موقف الجيش.
دعم اقتصادي وأمني مدعوم برؤية 2030
قدمت السعودية مساعدات اقتصادية ملموسة، بما في ذلك مشاريع خدمية عاجلة في بورتسودان منذ مارس/آذار 2025، لإنعاش خزائن الحكومة السودانية، لتعزيز صورتها أمام الشارع، وتمكينها من تحمل كلفة الحرب أمام الدعم الإماراتي للدعم السريع، في سياق تعزيز الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد.
دعم عسكري غير مباشر
رغم غياب أدلة موثقة على شحنات أسلحة مباشرة، تشير تقارير متعددة إلى تمرير دعم عسكري غير مباشر عبر قنوات موثوقة مثل مصر وتركيا، لتعزيز قدرات الجيش السوداني دون تعريض الرياض لانتقادات دولية أو تصعيد المنافسة الخليجية.
تصعيد استراتيجي يعيد ترتيب الأولويات
بلغ الدعم ذروته بعد أن طلب ولي العهد محمد بن سلمان من ترامب، خلال زيارته لواشنطن الشهر الماضي، التدخل الفوري لحلحلة الأزمة، مما أعاد السودان إلى صدارة أجندة واشنطن بعد إهمال طويل، لتنطلق بعدها تحركات أمريكية لضبط مسار الصراع وضمان الاستقرار الإقليمي.
مناهضة النفوذ الإماراتي
لا شك أن تصاعد النفوذ الإماراتي في السودان بات مصدر قلق بالغ للرياض، بل تحوّل إلى معضلة استراتيجية يصعب تجاهلها، خصوصًا عند وضعه في سياقه الإقليمي الأوسع، فالتمدد الإماراتي في السودان يتقاطع مع حضور متزايد في اليمن والقرن الأفريقي، على نحو يلامس مباشرة اعتبارات الأمن القومي السعودي ويعيد طرح أسئلة حساسة حول توازنات النفوذ في الجوار الجغرافي للمملكة.
وفي هذا السياق، يذهب المحلل السوداني الفاضل إبراهيم إلى أن التحركات الإماراتية في السودان لا يمكن فصلها عن نمط عمل إقليمي أوسع، إذ كتب أن “نهج أبوظبي يقوم على تمكين فاعلين من غير الدول، غالبًا ما يحملون نزعات انفصالية، بهدف ضمان الوصول إلى الموارد والمواقع الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية”.
وتجد هذه الاستراتيجية، بحسب إبراهيم، امتدادات واضحة في تجارب إقليمية أخرى، من شرق ليبيا حيث دعمت الإمارات المشير خليفة حفتر، إلى الصومال حيث قامت بتسليح وتمويل قوى محلية في بونتلاند وصوماليلاند وجوبالاند، كما تشير دلائل إلى استخدام ميناء بوصاصو في بونتلاند بوصفه نقطة إمداد لقوات الدعم السريع في السودان.
ويضاف إلى ذلك دعم أبوظبي، في فبراير/شباط الماضي، لمقترح قوات الدعم السريع إنشاء حكومة موازية لإدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وهو المقترح الذي قوبل برفض صريح من القوات المسلحة السودانية، وشاركت السعودية في تأكيد رفضه، انسجامًا مع موقفها الداعم لوحدة الدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية.
من هنا، يمكن فهم الانخراط السعودي المتزايد في المشهد السوداني، بوصفه تحوّلًا محسوبًا عن مقاربة الحياد المعلن، وإن ظل هذا الانخراط محكومًا بأدوات غير مباشرة. فالمملكة تسعى إلى حماية مصالحها الاستراتيجية ومنع اختلال التوازنات الإقليمية، من دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع الحليف الإماراتي، في ظل علاقة تشوبها توترات مكتومة خلال السنوات الأخيرة، ظهر بعضها إلى العلن، بينما بقي الكثير منها تحت السطح.
وهكذا لم تتوقف مأساة السودان عند كونه يقع في قلب نطاقين من أكثر أقاليم العالم هشاشة واضطرابًا — الساحل الأفريقي غربًا، والقرن الأفريقي المتصل بالبحر الأحمر شرقًا — بل تفاقمت حين تحوّل البلد إلى ساحة مفتوحة لتصارع النفوذ، ومسرح واسع لتقاطع الأجندات الإقليمية والدولية، وفي خضم هذا الاشتباك، تتراجع أولويات السودانيين أنفسهم إلى الصفوف الخلفية، فيما تُدار المعركة بمنطق المصالح لا بمنطق إنقاذ الدولة.
وفي هذا السياق، يبدو التنافس الراهن بين السعودية والإمارات في القرن الأفريقي، كما يصفه أستاذ العلوم السياسية في جامعة ترييستي الإيطالية فيديريكو دونيللي، “برميل بارود ينتظر الانفجار”، فطالما يحظى محمد حمدان دقلو بدعم إماراتي، ويقابل ذلك دعم سعودي لعبد الفتاح البرهان، تظل آفاق إنهاء الصراع بعيدة المنال.
وبهذا المعنى، لا تبدو الحرب في السودان سوى واحدة من أكثر نماذج الحروب العصرية بالوكالة قسوة، حيث يُدعَم كل طرف من قوى خارجية محددة، لا بهدف حسم النزاع، وفرض التهدئة، بل لإرباك الخصم، فيما يدفع السودان ثمن صراعٍ لا يملكه، ولا يحدّد مساره.