في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي السائد، تُقدَّم “إسرائيل” بوصفها “الدولة” التي تمثل اليهود في كل مكان، ويُختزل أي نقد لسياساتها أو لطبيعة نشأتها في تهمة “معاداة السامية” الجاهزة، غير أن هذا السرد، الذي تحوّل إلى أداة ابتزاز أخلاقي وسياسي، يصطدم بواقع صادم ومحرج للسردية لصهيونية نفسها، يتمثل في وجود يهود يرفضون الصهيونية من أساسها، وينكرون شرعية “إسرائيل”، ويقفون علنًا إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال.
من بين هذه الجماعات، تبرز حركة “ناطوري كارتا” بوصفها تجربة فريدة ومربكة ليهود يرون في الصهيونية انحرافًا دينيًا خطيرًا، وفي “إسرائيل” كيانًا غير شرعي دينيًا وأخلاقيًا، ويعتبرون ما اُرتكب بحق الفلسطينيين جريمة لا يمكن تبريرها لا بالهولوكوست ولا بأي خطاب قومي حديث.
نشأة الحركة والجذور التاريخية للانشقاق
لم تُولد “ناطوري كارتا” في فراغ، ولا يمكن فهمها بمعزل عن السياق التاريخي لليهود الأرثوذكس في فلسطين قبل قيام الكيان الإسرائيلي. فعلى عكس السرد الصهيوني الذي يصور فلسطين قبل 1948 “أرضًا بلا شعب”، كانت القدس ومدن فلسطين تضم جماعات يهودية استوطنت فلسطين لقرون في ظل الحكم العثماني، باعتبارها أقليات دينية، لا مشروعًا سياسيًا ذا سيادة.
لم يكن عند أعضاء هذه الجماعات، التي عُرفت بـ”اليشوف القديم“، أي مطامع سياسية لأن الغرض من وجودهم كان دينًيا محضًا، وكانوا على علاقة طيبة بالعرب، لكن مع بروز الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، نظر اليهود الأرثوذكس إلى المشروع الصهيوني بريبة شديدة، باعتباره مشروعًا علمانيًا أوروبيًا يسعى إلى تحويل اليهودية من دين إلى قومية، ومن رسالة أخلاقية إلى أداة استعمار.
لم تقتصر معارضة المشروع الصهيوني على اليهود فحسب، إذ أصدر بابا الفاتيكان أيضًا بيانًا معارضًا للمؤتمر الأول الذي عقدته الحركة الصهيونية في سويسرا في أغسطس/ آب عام 1897، والذي شهد معارضة واسعة من الحاخامية اليهودية، ليعلن اليهود الأرثوذكس حول العالم في مطلع القرن العشرين تأسيس حزب “أغودات يسرائيل” -رابطة إسرائيل- ليكون مظلة لليهود المعارضين للصهيونية.

كان الحزب لسنوات عقبة في وجه التيار الصهيوني الذي كان يهدف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، غير أن التحولات السياسية الكبرى وضعت الحزب أمام اختبار حاسم، خاصة مع تصاعد الحركات الصهيونية التي اكتسبت زخمًا بعد وعد بلفور عام 1917، الذي منح بريطانيا الضوء الأخضر لدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ما منح الحركة الصهيونية حق تمثيل لليهود، وعلى إثر ذلك، تضاعفت أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين.
ومع تدفق الهجرة اليهودية الأوروبية إلى فلسطين بعد فرض الانتداب البريطاني الذي بدأ فعليًا عام 1920، والذي سمح بتوسيع هجرة اليهود وتنظيمهم سياسيًا، شهد الحزب تحولات وصراعات داخلية وبدأ يتخذ مواقف براغماتية، انتهت تدريجيًا إلى التنسيق مع المؤسسات الصهيونية، ودعم فكرة الهجرة إلى فلسطين بناءً على ما حدث في الهولوكست، في انزلاق اعتبره التيار المتشدد خيانة صريحة للموقف الديني التاريخي.
هذه التطورات أجبرت “أغودات يسرائيل” على إعادة تقييم مواقفه، لكنه ظل يعاني من انقسامات داخلية، حتى حدث الانفصال الفعلي في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي عندما قاد حاخامات بارزون، من بينهم عمرام بلاو وأهارون كاتزنلبوغن، انشقاقًا حادًا عن الحزب، لمناهضة أي محاولة لدمج الدين مع المشروع السياسي الصهيوني، ورفض الاعتراف بـ”إسرائيل”، التي كانت آنذاك لا تزال فكرة صهيونية، وليس واقعًا على الأرض.
وفي عام 1938، ظهر اسم “ناطوري كارتا” رسميًا ككيان مستقل، لرفع الوعي في مواجهة الفكر الصهيوني الآخذ في الانتشار، متخذةً اسمها من اللغة الآرامية بمعنى “حراس المدينة”، في إشارة رمزية إلى الدور الذي ترى نفسها ملزمة به في الحفاظ على نقاء التعليم الديني، والوصاية على قدسية القدس من التوظيف السياسي القومي، ومواجهة الطروحات الصهيونية التي تعتبرها انحرافًا عن جوهر اليهودية.
وعلى مدار السنين، هاجر العديد من نشطاء “ناطوري كارتا” إلى مدن عدة حول العالم، كان أبرزها لندن ونيويورك، لأسباب كثيرة تتضمن رفض عدد كبير منهم العيش تحت سلطة الاحتلال، أو نفيهم من قبل الحكومة الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية لرفضهم التعامل معها ودفع الضرائب، أو إجبارهم على الهروب بسبب تعرضهم لمضايقات أمنية طالت أسرهم، لكن الحركة احتفظت بمقرها الرئيسي في القدس.
وكل تلك التضييقات أتت بنتائج إيجابية، حيث انتشرت الحركة بقوة في معاقلها الأبرز نشاطًا في نيويورك ولندن، وبات لديها أفرع رئيسية فيها، واستمر أعضائها منها بالوقوف ضد الصهيونية، ونجحوا بإنشاء مؤسسات تثقيفية ودور نشر ومنظمات أخرى تابعة لهم، أبرزها منظمة “أصدقاء القدس في نيويورك”، حتى باتت الحركة تقدر عدد أتباعها ومؤيديها بالآلاف من اليهود المتدينين المنتشرين في عشرات الجاليات اليهودية حول العالم.
ومع ذلك، لا تكمن أهمية “ناطوري كارتا” في حجمها العددي المحدود، بل في وزنها الرمزي والسياسي، فهي تنسف من داخل “إسرائيل” الادعاء الصهيوني بأنها تمثل “اليهودية”، وتكشف التناقض الجذري بين اليهودية بوصفها منظومة دينية قائمة على العهد الإلهي والالتزام بالشريعة وفق تصورها العقدي، والصهيونية بوصفها مشروعًا استعماريًا قوميًا حديثًا قام على الإبادة والتطهير العرقي والهيمنة.
فلسطين والهولوكوست في ميزان “ناطوري كارتا”
لا تكتفي “ناطوري كارتا” بانتقاد سياسات “إسرائيل”، بل تنكر شرعية وجودها من الأساس. فـ”إسرائيل”، في تصورها، ليست فقط غير شرعية سياسيًا لأنها قامت بالقوة والطرد، بل لا تستند إلى حق ديني أو قانوني لأنها قامت على أنقاض شعب آخر دون إذن إلهي، وعلى يد حركة علمانية لا تلتزم بالشريعة.
وربما يكون موقف “ناطوري كارتا” من الهولوكوست هو الأكثر إثارة للجدل. فالحركة لا تنكر المحرقة، بل تعتبرها جريمة إنسانية كبرى، وتضم في صفوفها أبناء ناجين منها، لكنها تفصل بوضوح بين المأساة التي وقعت في أوروبا وبين المشروع السياسي الصهيوني الذي نشأ بعدها في فلسطين، وترفض بشكل قاطع توظيفها سياسيًا لاحتلال فلسطين وتبرير الجرائم بحق الفلسطينيين.
وترى الحركة أن الصهيونية استغلت الهولوكوست بشكل انتقائي لشرعنة مشروع سياسي تصفه بأنه يحمل في طياته ظلمًا جديدًا لشعب لم تكن له يد في جرائم النازية، وتعارض تحويل الحادثة إلى “درع أيديولوجي” يحمي “إسرائيل” من أي مساءلة أخلاقية أو قانونية. وبذلك، تصبح ذكرى الضحايا وسيلة لإنتاج ضحايا جدد، وهو ما تعتبره الحركة تشويهًا للذاكرة، وانحرافًا أخلاقيًا مضاعفًا، وإهانة حقيقية للضحايا.
ولا تكتفي الحركة بهذا النقد الأخلاقي، بل تسلط الضوء على ما تعتبره صمتًا مريبًا لبعض القيادات الصهيونية إبان تلك الحقبة، بل وتذهب إلى اتهامهم بالتقصير المتعمد، أو حتى التواطؤ غير مباشر، من خلال تجاهل نداءات الاستغاثة من يهود أوروبا، وذلك لصالح تسريع تهجيرهم إلى فلسطين.
ويُستشهد كثيرًا بموقف منظِّر الحركة الحاخام موشيه هيرش، الذي رفض أن تكون الحادثة مبررًا لاغتصاب أرض يعيش عليها شعب آخر، مشددًا على أن المنطق الذي يربط بين معاناة اليهود في أوروبا وحقهم في إقامة دولة في فلسطين هو منطق أعوج يتنافى مع المبادئ الدينية والعدالة التاريخية، بل يذهب إلى القول “إذا كانت جرائم هتلر هي من دفعت اليهود الى التفكير جديًّا في تأسيس دولة، فلماذا قررت الصهيونية تجسيد ذلك في أرض فلسطين، وليس في برلين أو في قلب ألمانيا مثلاً حتى مع سقوط نظام هتلر”.

في المقابل، يرى الصهاينة غير المتدينين أن أعضاء ناطوري كارتا “خونة ومتعاونون مع الفلسطينيين”، ويُنظر إليهم داخل “إسرائيل” كمجموعة قليلة من “اليهود المتشددين الذين لا يمثلون الشعب اليهودي بالكامل”، ويرفض هؤلاء طرح الحركة القائل بتحريم عودة اليهود إلى “الأرض المقدسة”، معتبرين إياه تأويلاً دينيًا خاطئًا، ويبررون ذلك بأن حاخامات يهودًا شجّعوا الهجرة إلى فلسطين قبل ظهور الحركة الصهيونية.
كما يرى الصهاينة أن تمسك الحركة بالوعود التي أخذها الشعب اليهودي على نفسه بالطاعة للأمم غير اليهودية “تشدد”، حيث أن هذا الوعد كان مشروطًا بألا يتم قتل وتعذيب الشعب اليهودي، وقد انتهى بحادثة الهولوكوست في أوروبا.
كما يُتهم أفراد هذه الحركة باتهامات كثيرة ومشهورة، منها المشاركة في مؤتمر “إنكار الهولوكوست” في إيران، والتخابر لصالحها ضد “إسرائيل”، وحتى استلام مبالغ كبيرة من حكومة ياسر عرفات في السابق والتعاون مع حركة حماس.
مواجهة مبكرة مع المشروع الصهيوني الاستعماري
منذ لحظتها الأولى، اتخذت الحركة موقفًا عدائيًا صريحًا من المشروع الصهيوني، ورفضت الاعتراف بأي مؤسسة تمثله، وقد جعها هذا الموقف في حالة صدام دائم مع الكيان الإسرائيلي، وحوّلها إلى خصم داخلي خطير، لأنه يفكك الأساس الأخلاقي الذي تدّعي “إسرائيل” قيامها عليه.
وعندما أُعلن قيام “إسرائيل” عام 1948، كانت “ناطوري كارتا” في مقدمة الرافضين، وانتقلت إلى مرحلة جديدة من صراعها المفتوح مع الحركة الصهيونية. ففي السنوات الأولى، كثّفت الحركة تحركاتها لإخراج مدينة القدس، بما فيها حي مئة شعاريم – الحي القديم لليهود الأصليين المناهضين للصهيونية الذي أنشئ قبل حوالي 150 عامًا – من سلطة الحكم الإسرائيلي، أو نقل أتباعها إلى الجزء الخاضع للسيطرة العربية من القدس.
عمليًا، انتهت جهود تدويل القدس وإخراجها من قبضة الاحتلال بالفشل، واضطرت الجماعة إلى البقاء تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ما دفعها إلى التركيز على معركة الحفاظ على طابعها المناهض للصهيونية ومؤسساتها داخل أحيائها، في مواجهة واقع سياسي فرض نفسه بالقوة.
وفي مشهد يكشف هشاشة الإجماع اليهودي الذي حاولت الصهيونية تسويقه للعالم، قاد زعماء الحركة احتجاجات ومظاهرات علنية داخل القدس ضد الاحتلال الإسرائيلي، متخذين من رفضهم لدولة الاحتلال شعارًا واضحًا في سلوكهم، من خلال حرق أعلامها علنًا في كل وقت وحين، وتحديدًا في ذكرى قيام “إسرائيل”، وهو فعل يعبِّر عن رفض قاطع لكل أشكال شرعنة الوجود الإسرائيلي.
Palestinian Jews attacked by Zionist occupation forces in Jerusalem, The anti-Zionist Jewish community in Mea Shearim, have come out on the streets for a monthly anti-Zionist protest, amidst the regime’s ongoing genocidal war on Gaza, to condemn the blood thirsty forces, pic.twitter.com/rhFOtUfzWM
— Neturei Karta international (@NetureiKarta) April 10, 2024
وتؤرخ الوثائق وعناوين الصحف اندلاع المواجهة بين أتباع “ناطوري كارتا” وقوات الأمن الإسرائيلية منذ السنوات الأولى لقيام “إسرائيل”، حيث تعرّضوا لسلسلة من الاعتقالات المتكررة، شملت مؤسسها وزعيمها الحاخام عمرام بلاو، مع إحالتهم إلى المحاكم، في نمط متواصل من الاستهداف الإسرائيلي للحركة عبر تاريخها، بلغ حدّ الاغتيال، كما في اغتيال الحاخام يعقوب دي هان، على خلفية مساعيه لإلغاء وعد بلفور.
إضافة إلى ذلك، ترفض الحركة قرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947، ومن ثم تطالب بإلغاءه، متطلعةً إلى إقامة دولة فلسطينية موحدة تشمل كامل الأراضي، دون وجود دولة إسرائيلية بجانبها.
هذا الرفض لم يكن رمزيًا فحسب، بل تُرجم إلى مقاطعة شاملة لـ”إسرائيل”، حيث يعيش أتباع الحركة في أحياء مغلقة نسبيًا، يتحدثون اليديشية بدل العبرية الحديثة، كما أنهم يصلون يوميًا لإنهاء وتفكيك الكيان الإسرائيلي بشكل هادئ وسلمي، وإعادة الأرض إلى الفلسطينيين.
وتحرِّم الحركة أي نوع من أنواع التعامل مع حكومة الاحتلال، ويمارس أتباعها المقيمين في القدس معارضة سياسية عملية تشمل مقاطعة الانتخابات، والامتناع عن تلقي أي إعانات حكومية، بل أن بعضهم يرفضون التعامل بالعملة الإسرائيلية، ويرفض السواد الأعظم منهم حمل بطاقات تعريفية إسرائيلية، وتسجيل مواليدهم بقوائم مواطني “إسرائيل”.
Rabbi Weiss from Neturei Karta condemned the targeted assassination of Hamas political leader Ismail Haniyeh in Tehran, saying:
“Zionism has only caused death and suffering, the satanic movement of Zionism is the root cause to all the suffering, Peace will return to Palestine… pic.twitter.com/E1C0x4uP9n
— Neturei Karta international (@NetureiKarta) August 1, 2024
لم تكتف “ناطوري كارتا” برفض الواقع الجديد بمقاطعته على الأرض، بل حددت هدفًا أصبح لاحقًا أحد أبرز شعاراتها وأكثرها إثارة للجدل، وهو إنهاء وجود دولة “إسرائيل”، وحتى محوها من الخريطة العالمية، والقطع نهائيًا مع الصهيونية بتأكيده ألا حق لليهود في نزع الأرض من الفلسطينيين، وكل هذا جعلها قريبة من القضية الفلسطينية أو حتى اقرب من بعض العرب.
مواقف الحركة من القضية الفلسطينية
في موقفها من القضية الفلسطينية، تتبنى الحركة خطابًا حادًا وغير مألوف في الأوساط اليهودية، فهي لا تكتفي بإدانة الاحتلال، بل تعتبر أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الشرعيون، وأن ما جرى منذ عام 1948 يمثل ظلمًا تاريخيًا لا يمكن تبريره بأي سردية دينية أو سياسية، وتعتبر أن إخضاع الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم، وإقامة نظام تمييز عنصري، ليست انحرافات عرضية، بل نتائج منطقية لمشروع قام أصلاً على إنكار الآخر.
وتشير الوثائق والشهادات إلى أن علاقة “ناطوري كارتا” بالقضية الفلسطينية لم تبق في حدود التعاطف النظري، بل عملت على مد الجسور مع الفلسطينيين، وقامت كذلك بتعريف أعضائها المقيمين في فلسطين على أنهم “يهود فلسطينيون”. وفي عام 1988، قررت رفع الأعلام الفلسطينية في حي مئة شعاريم الذي يقطنه حوالي 5 آلاف من أتباعها، في خطوة رمزية بالغة الدلالة في قلب مدينة تعتبرها “إسرائيل” عاصمتها الموحدة، وهو ما كان محظورًا حتى على الفلسطينيين.
وتُرجمت علاقة الحركة القوية بالقضية الفلسطينية إلى شراكات ميدانية ورمزية مع القيادة الفلسطينية وحركات المقاومة، وكانت أبرز محطاتها في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي نشأت علاقة قوية بينه وبين الحاخام موشيه هيرش، المسؤول السابق للشؤون الخارجية للحركة في ثمانينات القرن الماضي، والذي نقل الصراع مع الصهيونية – بعد وفاة عمرام بلاو في عام 1974 – إلى مستوى جديد ومختلف، فبدأ عهده بفتح قنوات تواصل مباشرة مع القيادة السياسية الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، أحد أبرز خصوم “إسرائيل” آنذاك، مستفيدًا من خبرته الدبلوماسية لإقامة علاقات مع أطراف أخرى معارضة لوجودها، من بينها إيران.
ومع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، جدّدت الحركة دعمها للحقوق الفلسطينية مع رفضها بالشق المتعلق بالاعتراف بـ”إسرائيل”. ورغم ذلك، قبل هيرش في العام نفسه تولي منصب وزير شؤون اليهود في السلطة الفلسطينية، إلى جانب عمله مستشارًا للرئيس عرفات، في خطوة حملت دلالات سياسية صادمة لـ”إسرائيل”، وأدت إلى تعرّضه لاعتداء بمادة حارقة أفقدت إحدى عينيه القدرة على الإبصار.

ولم تقتصر تحركات “ناطوري كارتا” على منظمة التحرير الفلسطينية، بل امتدت إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، حيث دأبت على عقد لقاءات مع رموز هذه الحركات، والمشاركة في فعاليات شعبية وقوافل تضامن مع غزة، أبرزها قافلة “تحيا فلسطين الثانية” عام 2009، في تحدٍّ مباشر لحملات التضييق والتحريض الإسرائيلية التي رافقت نشاطها.
ومع اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تصدرت “ناطوري كارتا” بمواقفها المعارضة، مؤكدة على موقفها الثابت الرافض للاحتلال الإسرائيلي، وأصدر قادتها بيانات مؤيدة للعمليات الفلسطينية التي جاءت – وفق قولها – ليس فقط كرد فعل طبيعي على الظلم المستمر الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، بل جزء من نضال ديني وأخلاقي يرفض الاعتراف بشرعية “إسرائيل”.
وفي الميدان، تضاعف حضور الحركة في مشاهد التظاهرات العالمية المؤيدة لفلسطين، في تحدٍ مباشر للرواية الصهيونية التي تحتكر تمثيل اليهود عالميًا، وشارك أعضائها في فعاليات منددة بقصف غزة وحصارها، خاصة في نيويورك ولندن ومدن غربية أخرى، في موقف يحرج “إسرائيل” أكثر مما تفعل مواقف التضامن الدولية، لأن أصحابه يهود يرفضون استخدام اسم اليهودية لتبرير الاحتلال.
داخل فلسطين المحتلة، شارك قادة من الحركة في مظاهرات في تل أبيب والقدس ضد الحرب على غزة، ما جعلهم هدفًا مباشرًا للتحريض السياسي والشيطنة الإعلامية التي تقودها الدعاية الإسرائيلية، وعرَّضهم لاعتداءات من متظاهرين صهاينة وتهديدات بالترحيل إلى دول تصنفها على أنها “معادية” مثل سوريا وإيران، كما دعا علنًا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
ومن هنا يمكن فهم شراسة الحملات التي تشنها حكومة الاحتلال الحالية وحتى الحكومات السابقة ضد الحركة، والتي تمثلت في اعتقالات لبعض الأعضاء، ونفي آخرين، وحملات تجفيف لمنابع الدعم من الخارج، واتهامها بالخيانة، وربطها بالتطرف أو بمعاداة السامية، فالصهاينة ينظرون إليها كمجموعة “تتعاون مع الأعداء”، وتشارك في “تقويض صورة الإجماع اليهودي حول شرعية الدولة”، حتى أن الإعلام الإسرائيلي يتجاهلهم بشكل كبير لإظهار إن الصف في “إسرائيل” متحد.
ومع استمرار الاحتلال، يفتح وجود هذا الصوت – مهما كان هامشيًا عدديًا، أو حاولت “إسرائيل” إسكاته – ثغرة في جدار الرواية الصهيونية المحكمة، وسيبقى شاهدًا على أن الحقيقة يمكن أن تأتي من داخل الصف، وأن أخطر ما يواجه أي مشروع استعماري هو انكشافه أخلاقيًا من داخله، وأن اليهودية أوسع وأعمق من دولة، وأن فلسطين ليست أرضًا بلا شعب، بل وطنًا سُلب بالقوة.