أعاد اغتيال القيادي البارز في كتائب القسام، الشهيد رائد سعد، الذي نعته الكتائب باعتباره قائد ركن التصنيع العسكري وعضو مجلسها العسكري، وأحد الوجوه التاريخية للعمل المقاوم في قطاع غزة، تسليط الضوء مجددًا على نمط وأولويات الاغتيالات الإسرائيلية في المرحلة المقبلة، ولا سيما في ظل تدشين اتفاق وقف إطلاق النار الهش.
وبالعودة إلى البيان الرسمي الصادر عن جيش الاحتلال وجهاز الشاباك، يبرز توصيف بات حاضرًا في العديد من الإعلانات المماثلة، يتمثل في وصف المستهدف بأنه “أحد مهندسي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023”. ويعكس هذا التوصيف دلالة تتجاوز الحدث ذاته، إذ يوحي بأن الاغتيال يأتي في سياق استمرار نسق عملياتي قائم على قوائم اغتيال مُعدّة مسبقًا لدى أجهزة الاحتلال، لا يرتبط بمنطق “المطاردة الساخنة” بقدر ما يعكس ما يمكن وصفه بـ”قائمة موت” جاهزة تنتظر التنفيذ في التوقيت المناسب.
وفي هذا السياق، يكتسب ما ورد في أول خطاب علني لرئيس الشاباك السابق رونين بار أهمية خاصة، حين قال: “هذا هو ميونخ الخاص بنا، سنحاسب الجميع – في لبنان، في غزة، وفي كل العالم. بقي مهندسان اثنان فقط لنغلق معهما الحساب”، وهو تصريح يعيد إلى الأذهان سلسلة الاغتيالات الشهيرة التي نفذها جهاز الموساد الإسرائيلي في أنحاء متفرقة من العالم، مستهدفًا من اعتبرتهم “إسرائيل” مسؤولين عن عملية ميونخ في سبتمبر/أيلول 1972، بما يوحي بمحاولة إعادة إنتاج النموذج نفسه، ولكن في سياق سياسي وأمني مختلف.
عقيدة ميونخ: عملية “غضب الرب” – الجذور التاريخية للنموذج
في عالم الاستخبارات وعمليات الاغتيال الموجّهة، ارتبط مصطلح “عقيدة ميونخ” بالعملية التي أطلقت عليها “إسرائيل” اسم “غضب الرب”، والتي شكّلت الإطار الاستراتيجي الذي اعتمدته تل أبيب عقب عملية أولمبياد ميونيخ عام 1972. وقد امتد تنفيذ هذه العملية لما يقارب 16 عامًا، وأسفر عن اغتيال أقل من عشرين شخصًا من المدرجين على ما عُرف بـ”قائمة الإكسات” التي أقرّتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير.
وحول ظروف بلورة هذا النموذج، ينقل المؤرخ الإسرائيلي مايكل بار-زوهار أنه “بعد ميونيخ، لم تعرف غولدا مائير ماذا تفعل. ذهبنا لرؤيتها (…) وقالت شيئًا واحدًا: علينا تدمير منظمة أيلول الأسود الآن”. ويضيف بار-زوهار أن رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) حينها، تسفي زامير، ومستشاره لشؤون مكافحة الإرهاب أهارون ياريف، أدركا أن مطاردة جميع عناصر “أيلول الأسود” أمر شبه مستحيل، ما دفع إلى اعتماد استراتيجية “قطع رأس الأفعى” عبر استهداف القيادة بدل القواعد.
في هذا السياق، أسست مائير لجنة خاصة عُرفت باسم “لجنة الإكسات”، تولت تحديد الشخصيات المراد اغتيالها استنادًا إلى معلومات استخباراتية قدّمها كل من الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”، باعتبارهما الجهتين المسؤولتين عن متابعة ملف ميونيخ.
وقد نُظّمت العملية الاستخباراتية -الإجرامية، تحت مسمى “ميفزاح إلوهيم” أي “غضب الرب”، بمشاركة الموساد وأفرع متعددة من الجيش والأجهزة الأمنية، فيما يُرجَّح أن تسمية “لجنة الإكسات” جاءت من وضع علامة (X) على صور المستهدفين بعد إقرار تصفيتهم.
حددت “إسرائيل” في هذه العملية نحو 35 هدفًا من كوادر المقاومة الفلسطينية، زعمت وجود ارتباط مباشر أو غير مباشر لهم بعملية “أيلول الأسود”، غير أن مؤشرات الواقع والتأريخ الفلسطيني تُظهر تناقضًا واضحًا مع هذه الرواية، إذ إن غالبية المستهدفين كانوا من الوجوه السياسية والعسكرية البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج. وقد نُفذت عمليات الاغتيال في عدد من العواصم الأوروبية، شملت روما وباريس وقبرص.
وبعد الشروع في تنفيذ “غضب الرب”، قررت “إسرائيل” إنشاء فرقة اغتيالات خاصة لهذا النوع من العمليات، خصوصًا أن معظمها جرى خارج الأراضي المحتلة، ولا سيما في العواصم الأوروبية، بل وامتد لاحقًا إلى دول عربية كانت تُعد حليفة لمنظمة التحرير الفلسطينية، عبر اختراق سيادتها وتنفيذ عمليات اغتيال داخل أراضيها. وتمكنت هذه الفرقة من اغتيال معظم الأسماء التي أُوكلت إليها، باستثناء عاطف بسيسو، مدير مخابرات منظمة التحرير الفلسطينية، الذي ظل هدفًا للملاحقة قرابة عشرين عامًا قبل أن يُغتال في باريس.
ومن اللافت أن الفرقة كانت، قبل تنفيذ أي عملية اغتيال، تنشر أخبار نعي في بعض الصحف الأوروبية بأسماء القيادات المقرر استهدافها، ولم يكن الهدف من ذلك التحذير المسبق، بل إحداث أثر نفسي قائم على الترهيب وبث الخوف في صفوف الشخصيات المستهدفة.
وفي هذا السياق، علّق نائب رئيس الموساد آنذاك ديفيد كمحي بأن الاغتيال لم يكن الهدف الأول من عملية “غضب الرب”، بل “الشعور بالرعب”، معتبرًا أن الرعب – في العقيدة الإسرائيلية – أهم من القتل ذاته، وأن ما عاشه الكيان خلال عملية “أيلول الأسود” يجب أن يعيشه كل فلسطيني شارك أو خطط لها.
أنشئت بعد أعوام قليلة من تأسيس الكيان، واكتسبت، على عكس محاولات الترويج لها كمؤسسة ديمقراطية، سمعةً إجرامية نمت في الظل
📍إرهاب عابر للحدود.. سيرة قصيرة لـ #الموساد، تعرف إليها في هذا التقرير
https://t.co/ePEbdKN39C#إيران #غزة pic.twitter.com/VTKtl2Cv36
— نون بوست (@NoonPost) June 17, 2025
نُفذت العملية على محورين متكاملين: الأول نفسي-إعلامي، عبر نشر النعي وبث أجواء التهديد، والثاني ميداني، من خلال تنفيذ عمليات الاغتيال بشكل متتالٍ، واحدًا تلو الآخر، وليس دفعة واحدة، وقد جرى تنفيذ هذه العمليات ليس فقط عبر عناصر استخباراتية أو عملاء، بل أيضًا من خلال إشراك وحدات كوماندوز إسرائيلية، بما عكس تداخلًا واضحًا بين العمل الاستخباراتي والعسكري.
ورغم حرص “إسرائيل” على قدر من السرية، فإنها تعمّدت في الوقت ذاته ترك بصمات واضحة تدل على وقوفها خلف العمليات، انسجامًا مع فلسفة تقوم على التخويف عبر الصدمة، باعتبارها جزءًا أساسيًا من وظيفة الاغتيال ذاتها.
وبين عامي 1972 و1973، اغتال الموساد شخصيات بارزة، من بينها وائل زعيتر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في إيطاليا، ومحمود الهمشري ممثلها في فرنسا، وحسين أبو الخير ممثل حركة فتح في قبرص.
ومع وجود ثقل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وتحوّل بيروت إلى قاعدة رئيسية لقيادتها، واجه الموساد واقعًا ميدانيًا أكثر تعقيدًا بفعل القدرات العسكرية والتنظيمية للمنظمة. وأمام تحصينات القادة الفلسطينيين في الداخل اللبناني، لجأت “إسرائيل” إلى تنفيذ عملية عسكرية فرعية ضمن “غضب الرب”، عُرفت باسم “الفردان“، وأُطلق عليها إسرائيليًا “ربيع الشباب”.
وتمثلت العملية في اجتياح عسكري محدود للعاصمة اللبنانية بيروت، أسفر عن اغتيال القادة أبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر، ما دفع رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك صائب سلام إلى تقديم استقالته احتجاجًا على انتهاك السيادة.
وكان أحد أهم الأسماء على قائمة الاغتيالات وأُعتبر “الصيد الأصعب”، وهو القائد أبو حسن سلامة، المتهم إسرائيليًا بكونه العقل المدبر لـ”أيلول الأسود”. وأمام صعوبة استهدافه، لجأ الموساد إلى اختراق دوائره الأمنية المحيطة للتحقق من شخصيته وتحركاته. وحين أُبلغ سلامة بأن ملف اغتياله “أُخرج من الدرج”، في إشارة إلى أن القرار بات نهائيًا، أجاب بعبارة مقتضبة: “فليصنعوا ما أرادوا”.
وفي الثاني والعشرين من يناير/كانون الثاني 1979، وأثناء توجهه لحضور احتفال عائلي، تسلّم سلامة رسالة داخل سيارته، وما إن انحنى لقراءتها حتى وقع الانفجار، ليستشهد هو وكل من كان برفقته.
وشملت سلسلة الاغتيالات أيضًا شخصيات بارزة أخرى، مثل وديع حداد، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وغسان كنفاني الكاتب والأديب والقيادي في الجبهة، ونعيم خضر ممثل منظمة التحرير في بروكسل، وعدد آخر من القادة السياسيين والعسكريين.
ولخصت غولدا مائير رؤيتها لهذا النهج بقولها: “لا يمكن أن تقتصر حربنا ضد (الإرهابيين) العرب على الدفاع والحراسة، بل يجب أن تكون حربًا فاعلة: كشف القتلة وقادتهم، إحباط خططهم، وتدمير تنظيماتهم”.
ومنذ ذلك الحين، تحوّل هذا النمط إلى ركن ثابت في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية في التعامل مع قوى المقاومة، انطلاقًا من تصور يعتبر بقاء الخصوم أحياء “خطرًا متحركًا”، سواء على المستوى الفردي أو البنيوي.
ورغم أن هذا النهج لم يبدأ مع ميونيخ ولم ينتهِ عندها، فإن عملية “غضب الرب” شكّلت النموذج الأكثر وضوحًا لتكريس سياسة الاغتيالات القائمة على قوائم مُعدّة مسبقًا لا تعترف بحدود جغرافية أو زمنية في تنفيذها.
من ميونخ إلى 7 أكتوبر.. تعود “نيلي” إلى الواجهة
يقول المؤلف رونين بيرغمان، صاحب كتاب “انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية”، في حديث لوكالة فرانس برس، إن هجمات ميونيخ شكّلت لحظة وعي حاسمة لدى “إسرائيل” مفادها “أنه لن يكون هناك أحد آخر” لحماية مصالحها ومواطنيها، مضيفًا أن “هناك صلة مباشرة بين ما حدث في ذلك الوقت وما نراه اليوم”. ويرى بيرغمان أن “إسرائيل” “لا تزال تستخدم عمليات القتل الموجّه كأحد أسلحتها الرئيسية في سياستها الخاصة للدفاع عن مصالح أمنها القومي”.
منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة، لم يتوقف قادة الاحتلال عن تكرار خطاب “القضاء الكامل على حركة حماس” باعتباره أحد الأهداف المركزية لحرب الإبادة. ورغم أن الزخم العسكري تركز أساسًا في غزة، فإن حدود العدوان تجاوزت القطاع بكثير.
فقد صرّح وزير الحرب الإسرائيلي حينه يوآف غالانت بأن الجيش “سيواصل ملاحقة عناصر حماس لسنوات، من كبار المسؤولين وحتى عناصرها في الميدان”، فيما أكد بنيامين نتنياهو أن “القضاء على الحركة هو الهدف الأساسي” للحرب.
الربط العلني بين هذه الحرب ونموذج ميونيخ لم يكن جديدًا أو عابرًا، فقد نُشر لرئيس الشاباك السابق، حين كان لا يزال على رأس عمله، تسجيل بثّته هيئة البث العامة الإسرائيلية في ديسمبر/كانون الأول 2023، قال فيه: “حدّد لنا مجلس الوزراء هدفًا، هو القضاء على حماس. هذه ميونيخ الخاصة بنا. سنفعل ذلك في كل مكان، في غزة والضفة الغربية ولبنان وتركيا وقطر. قد يستغرق الأمر بضع سنوات، لكننا مصممون على تنفيذه”.
وفي الاتجاه ذاته، لا تكتفي أفيفا غوتمن، المحاضِرة في الاستراتيجيا والاستخبارات في جامعة أبيريستويث، في كتابها “عملية غضب الرب: التاريخ السري للاستخبارات الأوروبية وحملة اغتيالات الموساد” بسرد الوقائع التاريخية، بل تربطها مباشرة بالحاضر.
ففي خاتمة الكتاب، تشير إلى أن أحداث ميونيخ عام 1972 ولّدت عملية “غضب الرب”، تمامًا كما أدّت هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى تشكيل وحدة اغتيالات إسرائيلية جديدة تحمل اسم “نيلي” Nili))، مهمتها مطاردة وتصفية كل من شارك في الهجوم.
وفي هذا السياق، كانت “إسرائيل” قد دشّنت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023 فرقة اغتيالات جديدة لتنفيذ عملية عسكرية حملت الاسم ذاته “نيلي”، تُنفَّذ بإشراف الموساد وبالاشتراك مع جهاز الشاباك، وتتمثل مهمتها الأساسية في اغتيال قادة حركة حماس. ووفق الوصف التنفيذي لهذه العملية، لا تقتصر رقعة الاستهداف على القيادات الموجودة داخل قطاع غزة، بل تمتد لتشمل قيادات في قطر ومصر ولبنان وتركيا، بل وحتى في عواصم أوروبية.
“إسرائيل” لم تكتفِ بإزالة قادة، بل تسعى لإحداث تحوّل عميق داخل بنية المقاومة عبر اغتيالات جماعية تستهدف الهيكل لا الأفراد فقط، وهو ما يجعل الغارة الأخيرة محاولة هندسية لضرب العمود الفقري لحماس
ماذا لو نجحت غارة الدوحة؟.. سيناريو الفراغ القيادي في حركة “حماس” 👇… pic.twitter.com/BqtCybMO4g
— نون بوست (@NoonPost) September 20, 2025
أما اختيار اسم “نيلي“، فلم يكن اعتباطيًا، بل يحمل دلالات تاريخية ورمزية في الوعي الصهيوني. فالاسم يعود إلى خلية استخباراتية يهودية عملت بالتجسس على الدولة العثمانية في أواخر عهدها، لصالح القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، في إطار الجهود الصهيونية للحصول على التزام بريطاني بدعم الاستيطان وإقامة دولة يهودية في فلسطين. و”نيلي” هو اختصار لعبارة توراتية من سفر صموئيل تعني: “إسرائيل الأبدية لا تكذب”.
تشكّلت هذه الشبكة السرية من يهود كانوا يقيمون في فلسطين إبان الحكم العثماني، وتولت العمل الاستخباراتي لصالح البريطانيين ضد الدولة العثمانية، وأسّسها عدد من شبان المستوطنات اليهودية، في مقدمتهم الإخوة ألكسندر وأهارون وسارة أهارونسون.
وقد ارتبط تأسيس الشبكة بقناعة لدى أعضائها بأن استمرار الحكم العثماني في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى سيُعرّض المشروع الاستيطاني اليهودي لمخاطر جسيمة، ما دفعهم للاعتقاد بأن تقديم خدمات استخباراتية للبريطانيين القادمين من الجبهة المصرية سيقابله “وعد” بريطاني بدعم المشروع الصهيوني.
ورغم الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن خلية “نيلي” قدّمت معلومات ثمينة، من بينها “شيفرة الاتصالات بين الجيشين العثماني والألماني” وبيانات عن الانتشار التكتيكي على الجبهات، فإن مراكز التراث الاستخباراتي الإسرائيلية نفسها تعترف بأن أداء الشبكة كان بمستوى “مهني متدنٍّ”، وأنها واجهت صعوبات تقنية كبيرة في نقل المعلومات. إذ اعتمدت على إيصال الرسائل إلى سفينة في عرض البحر، ما جعل عملها رهين الظروف الجوية، وأدى إلى تأخير وصول المعلومات بين خمسة وستة أسابيع، وهي مدة غير عملية في سياق الحرب.
توسيع بنك الأهداف.. من المنفذين إلى “دائرة الظل”
تُعدّ عمليات الاغتيال التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة واحدة من أوسع حملات الاغتيال في التاريخ المعاصر، إذ لم تتوانَ “إسرائيل” عن توظيف مختلف أدوات القتل والبطش، بما في ذلك القتل الجماعي، باعتبار ذلك جزءًا لا يتجزأ من حربها المعلنة للقضاء على حركة حماس.
وفي إطار حملتها لتفكيك البنية العسكرية المركزية للحركة، ولا سيما قوات النخبة، وكل من تتهمهم بالمشاركة في عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أدخلت “إسرائيل” تقنيات متطورة وغير مسبوقة، في مقدمتها الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي، الذي سُخّر لتوسيع آلة القتل وتسريع تحديث “بنك الأهداف” الإسرائيلي بوتيرة غير مسبوقة.
وكان من أبرز هذه التقنيات نظام “لافندر”، الذي استُخدم على نطاق واسع في العمليات العسكرية داخل قطاع غزة، ويُعرّف هذا النظام بقدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات في وقت قياسي، بما يسمح بتوليد آلاف الأهداف المحتملة للضربات العسكرية خلال زمن الحرب. ووفق ما نقلته مجلة “+972” عن ستة ضباط مخابرات إسرائيليين شاركوا مباشرة في تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي خلال الحرب، فإن “لافندر” لعب دورًا محوريًا في القصف غير المسبوق الذي تعرّض له الفلسطينيون، ولا سيما في المراحل الأولى من العدوان.
ويقول أحد ضباط الاستخبارات الذين عملوا على النظام: “كنت أخصص نحو 20 ثانية فقط لكل هدف، وأجري العشرات من عمليات المصادقة يوميًا، لم تكن لدي أي قيمة مضافة سوى وضع ختم الموافقة. لقد وفّر ذلك الكثير من الوقت”. وهو توصيف يعكس الطبيعة شبه الآلية التي جرى من خلالها تحويل القتل إلى إجراء روتيني منزوع البعد الإنساني.
نفّذوا 70% من الهجوم عبر البر بواسطة خلايا تابعة لهم داخل #إيران… كيف وصل الموساد إلى قلب طهران؟#طهران#IranVsIsrael pic.twitter.com/OSZFoUdJkB
— نون بوست (@NoonPost) June 19, 2025
إلى جانب “لافندر”، استخدمت “إسرائيل” نظامًا آخر بالغ الخطورة يُعرف باسم “أين أبي؟”، خُصص لتتبّع الأفراد المستهدفين وتنفيذ عمليات تفجير عند دخولهم ليلًا إلى منازل عائلاتهم، وفق ما أورده موقع “ديموكراسي ناو” الأميركي. وبحسب تقارير مجلة “+972” وموقع “لوكال كول” الإسرائيلي، أدى استخدام هذا النظام إلى إبادة عائلات فلسطينية بأكملها داخل منازلها، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير في أعداد الشهداء، ولا سيما من النساء والأطفال وكبار السن.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن جيش الاحتلال أن وحدة الأهداف في الاستخبارات الإسرائيلية استخدمت نظام “غوسبل” أو “الإنجيل”، وهو من أخطر أنظمة الذكاء الاصطناعي المعتمدة في الحرب. ويعمل هذا النظام على تحديد المباني والمنشآت التي يدّعي الجيش أن مقاومين فلسطينيين ينطلقون منها لتنفيذ مهامهم، ليجري قصفها على رؤوس ساكنيها.
وادعى الجيش أن “الإنجيل” ساعده في قصف نحو 12 ألف هدف في غزة، عبر تزويد القوات البرية والجوية والبحرية بمعلومات استخباراتية من “مصنع الأهداف” القائم على الذكاء الاصطناعي، بما يتيح تنفيذ مئات الهجمات في اللحظة نفسها.
ويُنتج النظام عددًا هائلًا من الأهداف بوتيرة متسارعة تصل إلى نحو 100 هدف يوميًا، استنادًا إلى معلومات استخباراتية تُغذّى بشكل متواصل، مقارنة بقدرة الاستخبارات الإسرائيلية سابقًا على إنتاج نحو 50 هدفًا فقط في السنة. ووفق ما نشرته صحيفة “جيروزاليم بوست”، فإن النظام “يقترح الأهداف الأكثر صلة بالهجوم داخل محيط جغرافي معين”، في توصيف يعكس الطابع الصناعي لعملية الاستهداف.
ويمكن تلخيص وظيفة هذه المنظومة التقنية في تتبّع كل من عبر الحدود في يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بغضّ النظر عن السياق الذي جرى فيه العبور، سواء أكان مدنيًا أو صحفيًا أو مقاتلًا.
وقد أظهرت بيانات الجيش الإسرائيلي بشأن استهداف الصحفيين أن هذه التهمة باتت جزءًا من منظومة التبرير الجاهزة، ويبرز في هذا السياق بيان الاحتلال حول استهداف الصحفي الشهيد حسن صليح، بزعم أنه “أحد عناصر لواء خان يونس في حماس وشارك في اقتحام الحدود في السابع من أكتوبر، حيث وثّق ونشر مشاهد من أعمال النهب والحرق والقتل”، وفق الرواية الإسرائيلية.
غير أن دائرة التتبع والملاحقة لم تتوقف عند من عبروا الحدود في يوم العملية، بل توسعت لتشمل من تعتبرهم “إسرائيل” جزءًا من عملية التخطيط بأي شكل من الأشكال، بدءًا من الرصد والتدريب والتوثيق، وصولًا إلى التخطيط العملياتي وإدارة المعركة، وذلك استنادًا إلى اتهامات جاهزة تكررت في بيانات جيش الاحتلال المتعددة.
كما لم تقتصر عملية “تصفية الحساب” وإغلاق الدوائر، وفق التوصيفات الاستخباراتية الإسرائيلية، على القيادة العسكرية، بل امتدت إلى استهداف القيادة السياسية لحركة حماس. وتوزعت هذه الاستهدافات بين ما تعتبره إسرائيل “مثلث اتخاذ القرار السياسي”، وبين البعد الرمزي للصورة التي ظهرت صبيحة السابع من أكتوبر، والتي أظهرت رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، متقدمًا مجموعة من قيادات الحركة أثناء أداء “سجدة الشكر“. وقد اعتبرت إسرائيل أن كل من ظهر في تلك الصورة بات ضمن “دائرة الاستهداف”.
الآلاف يشاركون في تشييع نائب رئيس حركة حمــ.ــاس صالح العاروري ورفيقيه إلى مثواهما الأخير في مقبرة شهداء فلسطين بمنطقة شاتيلا جنوبي بيروت #طوفان_القدس pic.twitter.com/rNuT3Gfwhi
— نون بوست (@NoonPost) January 4, 2024
وفي هذا الإطار، أدت عمليات الاغتيال خارج الأراضي المحتلة إلى استشهاد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في استهداف بالعاصمة اللبنانية بيروت في الثاني من يناير/كانون الثاني 2024، واستشهاد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية في 31 يوليو/تموز 2024 في العاصمة الإيرانية طهران. كما فشلت محاولة اغتيال وُصفت بالأكثر جرأة، استهدفت اجتماعًا قياديًا لوفد حماس المفاوض في العاصمة القطرية الدوحة منتصف سبتمبر/أيلول الماضي.
وتشير هذه المعطيات مجتمعة، بما فيها عمليات الاغتيال التي نُفذت خلال فترة اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والتي زعم الاحتلال في جميعها أنها استهدفت كوادر انخرطت بشكل مباشر أو غير مباشر في عملية السابع من أكتوبر، إلى أن “إسرائيل” ماضية في استكمال مهمة تصفية كل من له صلة بالعملية، سواء كان في دائرة الفعل المباشر أو في “دائرة الظل”.
ويتم ذلك دون اكتراث بالسياق السياسي القائم أو بطبيعة المرحلة، بما يجعل هذه المهمة عابرة للسياسة والجغرافيا على حد سواء، ومرشحة للاستمرار طويلًا، على غرار عملية “غضب الرب” التي استغرق إغلاق دائرتها قرابة عقدين من الزمن.
في المحصلة، تنظر إسرائيل” إلى استمرار هذه المهمة بوصفه جزءًا حيويًا من عملية “استعادة الردع” التي أعلنتها عقب “طوفان الأقصى”، في سياق محاولة ترميم الجدار الأمني الذي تهشّم تدريجيًا عبر سنوات من التآكل والاختراق، وصولًا إلى الضربة الكبرى في السابع من أكتوبر، التي أسقطت فرقة عسكرية إسرائيلية كاملة، وشكّلت خطرًا استراتيجيًا غير مسبوق من وجهة النظر الإسرائيلية.
وهو ما دفع الاحتلال إلى تبنّي إجراءات استثنائية وغير مسبوقة، تمثلت في تدشين أوسع حملة اغتيالات في التاريخ المعاصر، حملة لا تزال مستمرة، ولا يُتوقع أن تنحسر في الأفق القريب، بغضّ النظر عن أي ترتيبات سياسية أو أمنية داخل الأراضي المحتلة أو خارجها.
