يحتل شمعون ليفي، أو سيمون ليفي، مكانةً فريدة في تاريخ اليهود المغاربة، هو يهودي الأصل وُلد في مدينة فاس، ومُناضل سياسي يساري ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني في المغرب.
من داخل هذا النضال شارك في حركاتٍ أضحت جزءًا من الذاكرة السياسية للمغرب، وفي الوقت نفسه أصبح مدافعًا صارمًا عن هويته اليهودية المغربية وموثقًا لتراث جماعته داخل بلدٍ عُرف بتنوع ثقافاته، كما كان مُخلصا للذاكرة الجماعية اليهودية ومعارضًا للصهيونية التي ربطت مصائر الكثير من اليهود المغاربة بالهجرة إلى “إسرائيل” بعد 1948، فكان بذلك يهوديًا بثقافته ودينه، مغربيًا بجنسيته ووطنيته، وشيوعيًا بأيديولوجيته، ومدافعًا عن القضايا العادلة على رأسها القضية الفلسطينية.
السيرة والمسار
ولد شمعون ليفي في فاس عام 1934، ونشأ في بيئة يهودية مغربية تقليدية تميزت بعلاقاتٍ متشابكة مع المحيط العربي الإسلامي والفرنسي الاستعماري في المغرب، تلقى تعليمه في مدارسٍ فرنسية إضافة إلى تربيته الدينية التقليدية، ووُجهت اهتماماته نحو اللغات والدراسات اللغوية حيث حصل على الإجازة في الآداب الإسبانية والبرتغالية عام 1956.
عُرف ليفي منذ شبابه بالتزامه بقضايا المغرب، إذ انخرط في صفوف الحركة الوطنية لمقاومة الاستعمار سنة 1954، ثم انخرط في المنظمات العمالية والطلابية، ثم في الحزب الشيوعي المغربي الذي تطور لاحقًا إلى حزب التقدم والاشتراكية، وأمضى فترات من النضال في مواجهة قوى الاستعمار.
كما ذاق مرارة السجن بعد اعتقاله يوم 23 مارس/أذار 1965، مع عدد من مناضلي اليسار المغربي، وعُذّب بشكل وحشي، دون أن يغير ذلك شيئًا من التزامه بنصرة الشعب المغربي على جميع المستويات الوطنية والاجتماعية.
كلّفه رفضه للجنسية الفرنسية، التي كانت تُمنح لليهود في المنطقة المغاربية، العيش بدون جنسية لأكثر من 24 عامًا إلى أن صدر قانون الجنسية المغربية في نهاية 1958.
شغل سيمون منصب رئيس تحرير صحيفتي “الأمة” و”الجماهير” الأسبوعيتين (1958-1959)، وساهم لسنوات عديدة في صحيفة “البيان” اليومية، وعمل أستاذًا في قسم اللغات بجامعة محمد الخامس، وانصب اهتمامه الأكاديمي على دراسة اللغة والثقافة اليهودية المغربية في علاقتها بالمحيط الأمازيغي والعربي والاندماج في الحياة المغربية العامة.
وقد تمكن من تقديم قراءة مغايرة لتجربة اليهود المغاربة، تربط بين الذاكرة الشعبية والثقافة اليومية وبين المعطى السياسي الوطني بالنظر إلى انتمائه السياسي، خاصة من خلال أطروحته لنيل الدكتوراه “الدوارج (اللهجات) العربية ليهود المغرب” التي أنجزها تحت إشراف حاييم زعفراني، والتي أنفق عليها سنوات طويلة من عمره، انتهت بجمع وتوثيق جزء كبير من التراث الثقافي والديني لليهود المغاربة.
حارس الذاكرة اليهودية في المغرب
إلى جانب اهتمامه بالكتابة والبحث في الثقافة والتاريخ اليهوديين، ساهم شمعون في الحفاظ على الذاكرة اليهودية المغربية، حيث أسّس المتحف اليهودي بمدينة الدار البيضاء سنة 1996، بهدف جمع الوثائق والشهادات والمقتنيات التي توثق لتاريخ اليهود في المغرب، وحفظ تراثهم الأدبي والموسيقي، وصيانة معابدهم.. وذلك للإبقاء على هذه الذاكرة حية داخل المشهد الثقافي الوطني.
كما تولى منصب الأمين العام لمؤسسة التراث الثقافي اليهودي-المغربي، التي ساهم في تأسيسها وإدارتها، ومن خلالها عمل على الحفاظ على المعابد والمقابر والأرشيفات اليهودية في المغرب.
وهكذا نجح في إضفاء الطابع المؤسساتي على نضاله من أجل الذاكرة اليهودية وصون تراثها، وهي السياسة التي شجعها الملك محمد السادس بعد توليه للحكم.
هذا الدور المؤسساتي سمح له بالاحتفاظ بذاكرة مادية ومعرفية حول سلوكيات العيش والتعايش والتبادل اللغوي والديني في مشارب متعددة، كما أدى به إلى تأسيس مشروع سردي يربط بين الماضي والحاضر ويعترض على محاولات الطمس أو الاختزال التي تعرض لها اليهود المغاربة، وهو الدور الذي يمكن اعتباره امتدادًا مباشرًا لمناهضته للصهيونية، إذ إن حفظ الذاكرة اليهودية في المغرب يدحض فكرة وجوب نقلها إلى مكان آخر.
صوت معادٍ للصهيونية
حافظ ليفي على قناعةٍ عميقة بالانتماء الوطني المغربي، وهو ما برز في مواقفه العلنية التي رفضت إخضاع انتمائه اليهودي لآليات سياسية خارج السياق الوطني المغربي، هذه الخلفية تُفسر جزئيًا تحوله إلى صوتٍ معارض للسياسات الصهيونية التي شجعت على هجرة اليهود المغاربة إلى “إسرائيل” بعد عام 1948، بوصفها ظاهرةً أحدثت تحولات ثقافية وديموغرافية لا يمكن تجاهلها.
وقد رأى أن تشجيع هذه الهجرة كان خطأ تاريخيًا أضرّ بمكونات النسيج الاجتماعي المغربي، وأن فكرة إنشاء دولة قومية يهودية في فلسطين ومن ثم ربط مصائر اليهود العرب بها كانت ابتعادًا عن واقعهم التاريخي المحلي، وليس ترجمة حقيقية لهويتهم المتعدّدة، ووصف الدولة الإسرائيلية بأنها ليست تعبيرًا عن اليهودية الحقيقية، وأنها تشكل تهديدًا لتجربة اليهود التاريخية، مشيرًا إلى أن حياتهم في الشتات، بما فيها في المغرب، ترتبط بفهم أعمق للهوية التي تتجاوز القومية الحديثة.
وفي حوار له، أشار إلى أن الجوهر الحقيقي لليهودية يتشكل عبر تجربة الشتات والمعيشة في المهجر، موضحًا أن الثقافة اليهودية تطورت على مدى آلاف السنين في مجتمعات متعددة، حيث كان اليهود أقلية في وسط شعوب مختلفة ثقافيًا ودينيًا، مما أتاح لهم تكوين وعي خاص وتمايز ثقافي، مشددًا على أن التجمع الحديث لليهود في مكان واحد، كما هو الحال في “إسرائيل”، لا يعكس بالضرورة المعنى التقليدي لليهودية كما تطورت في الشتات، فجزء من السكان يأتي من خلفيات متنوعة خارج التراث اليهودي التقليدي، وهو ما يخلق ديناميكيات اجتماعية وسياسية مختلفة.
ورأى أن الصفات التقليدية لليهود الذين عاشوا في المهجر تختلف تمامًا عن الخصائص المرتبطة بالمجتمع الإسرائيلي الحديث، الذي تشكلت فيه الهوية في إطار أغلبية سياسية وسيطرة مؤسسية، ما يغير من طبيعة الانتماء والوعي اليهودي بالمقارنة مع التجارب التاريخية في الشتات.
صحيح أن مواقف شمعون ليفي المعارضة للصهيونية تندرج ضمن تقاليد اليسار المغربي والحزب الشيوعي، الداعمة للقضية الفلسطينية والمنتقدة للسياسات الإسرائيلية، إلا أن صوت ليفي اكتسب قوةً خاصة لأنه صادر عن يهودي مغربي يندد بالخلط بين اليهودية، باعتبارها دينًا وثقافةً، وبين الصهيونية، كأيديولوجيا سياسية حديثة، ويؤكد، باستمرار، على أن مناهضة الصهيونية لا تعني معاداة السامية، بل هي نقدٌ مشروعٌ لسياسة الاحتلال والاستيطان.
وقد برزت مواقفه ضد “إسرائيل” بوضوح سنة 2009، خلال حديثه عن العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث صرّح بأن العدوان “أمر مروع”، وإنه لا يرى اليهودية على هذا النحو، واضعًا النزعة الإنسانية فوق أي اعتبار سياسي أو قومي، وأعرب بوضوح عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، معتبرًا أن معاناته تتنافى مع القيم الدينية والأخلاقية لليهودية، داعيًا المجتمع الدولي إلى إيجاد حل.
خطابه شمعون كان تذكيرًا بأن معارضة السياسة الإسرائيلية ليست حكرًا على العرب أو المسلمين، وإنما هي موقف أخلاقي يشترك فيه يهود كُثُر حول العالم، وهو ما أكدته قيادات في حزب التقدم والاشتراكية بقولها إن شمعون ليفي، كان يطرح في مناسبات عديدة قضية الشعب الفلسطيني وضرورة إنصافه، “مع التنديد بأصل الصهيونية الاستعماري”، والذي كان يعتبره ضمن مخطط الإمبريالية منذ الحرب العالمية الأولى.
في 2 ديسمبر/كانون الأول 2011 توفي شمعون ليفي عن عمر يناهز 77 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض، وحضر جنازته شخصيات سياسية بارزة في المغرب على غرار عبد الإله بنكيران الذي كان رئيسًا للحكومة آنذاك، ومستشارا العاهل المغربي أندري أزولاي وعمر عزيمان، كما بعث الملك محمد السادس برقية تعزية إلى أسرته أشاد فيها بمساره النضالي المبكر داخل الحركة الوطنية، بدوره الثقافي والفكري، معتبرًا إياه “مثقفًا بارزًا ومناضلًا تقدميًا كرّس جهوده لإبراز مكانة التراث الثقافي اليهودي المغربي ضمن الهوية الوطنية الجامعة”.