ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأسبوع الماضي، توافد أكثر من ألف قس إنجيلي أمريكي و”مؤثر” مسيحي إلى إسرائيل، في ما وصفه المنظمون بأنه حج تاريخي، وهو أكبر وفد من نوعه منذ تأسيس دولة إسرائيل.
نظمت هذه البعثة مبادرة “أصدقاء صهيون”، وباركتها وزارة الخارجية الإسرائيلية، وقد استقبلها الرئيس إسحاق هرتسوغ بشكل رسمي، وتم الترويج لها باعتبارها صحوة روحية.
لكن في الواقع، لم يكن الحدث سوى حملة سياسية متخفية في خطاب ديني. وفي شوارع القدس، حدثت الطقوس المتوقعة.
دعا سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل مايك هاكابي الحاضرين للعودة إلى أرضهم وهم يحملون “نار الرب متقدة في عظامكم” حتى يكونوا “مؤيدين للكتاب المقدس“، وبالتالي “مؤيدين لإسرائيل”.
أما مايك إيفانز، مؤسس متحف أصدقاء صهيون، والذي يصف نفسه بـ”صانع الملوك” الذي يقف خلف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويزعم أنه صاحب الفضل في فوز دونالد ترامب برئاسته الأولى، فقد حذر من منح “أرض الكتاب المقدس للمسلمين المتطرفين كارهي اليهود”.
كانت الرسالة واضحة لا لبس فيها: تُقدَّم إسرائيل على أنها تجسيد للحقيقة التوراتية، فيما يُصوَّر عدوها على أنه “الإسلام المتطرف”، ويصور الصراع كمعركة كونية بين الفضيلة اليهودية المسيحية والظلام الإسلامي.
إنه سيناريو طالما تدرّب عليه نتنياهو وحلفاؤه، وردده بإخلاص الصهاينة المسيحيون الذين يتخيّلون أنفسهم حماة الأرض المقدسة المحاصرة.
لكن ما يكمن خلف هذه اليقينية المسرحية هو عملية محو مذهلة. يقوم المشهد بأكمله على مغالطة مفادها أن قصة فلسطين هي صراع ثنائي بين اليهود والمسلمين، وأن المسيحيين – بحكم إيمانهم وهويتهم وتاريخهم – يقفون بطبيعة الحال إلى جانب إسرائيل.
إنه تشويه شامل للحقيقة، لا يمكن أن يصمد إلا بفضل الأيديولوجيا.
حضارة مشتركة
المسيحيون ليسوا غرباء في فلسطين. ليسوا زوارًا أو مراقبين أو أقليات مهمشة، بل هم جزء أصيل وعريق، وأحد مكوّنات الشعب الفلسطيني، أقدم من الصهيونية وأقدم من الدول القومية الأوروبية وأقدم من اللاهوتيات السياسية التي تُستَخدم اليوم في الدفاع عن إسرائيل.
على مدى أكثر من 14 قرنًا، عاش المسلمون والمسيحيون معا في فلسطين، لا على سبيل التعايش المفروض على مضض، بل ضمن حضارة مشتركة. قلّما يوجد مكان على وجه الأرض شهد تاريخا من الانسجام الديني بهذا العمق والاستمرارية والحيوية.
تبدأ القصة بواقعة نادرًا ما يذكرها الحجاج الإنجيليون. فعندما استسلمت القدس للجيش الإسلامي عام 637 للميلاد، وافق بطريرك الروم الأرثوذكس صفرونيوس على تسليم مفاتيح المدينة للخليفة عمر بن الخطاب شخصيًا. وقد سافر عمر من المدينة المنورة برفقة خادم واحد وجمل واحد، يتناوبان على الركوب والسير بجانبه.
عندما اقتربوا من القدس، صادف أن الخادم كان يمتطي الجمل، وكان عمر يسير على قدميه، فاعتقد المنتظرون أن الخادم هو الخليفة. دخل حاكم إمبراطورية مترامية الأطراف مدينة القدس بملابس خشنة، لا يميزه شيء على عامة الناس، رافضا أن يكون البهرج معيارا لسلطته.
وقّع خليفة المسلمين العهدة العمرية التي ضمنت للمسيحيين الحفاظ على حياتهم وكنائسهم وممتلكاتهم وعبادتهم. لم تُدمَّر أي كنيسة، ولم يُجبر أي مسيحي على اعتناق الإسلام، ولم تقع مجازر أو عمليات نهب، لا شيء يشبه المذبحة التي ارتكبها الصليبيون عام 1099، حين ذُبح المسلمون واليهود والمسيحيون الشرقيون على حد سواء في موجة من العنف المقدّس.
ثم جاءت لحظة الوضوح الأخلاقي. عندما حان وقت الصلاة، دعا صفرونيوس عمر للصلاة داخل كنيسة القيامة، لكن عمر رفض. أوضح أنه لو صلى هناك فقد يستولي المسلمون مستقبلًا على المبنى بحجة أن “عمر صلى هنا”.
بدلًا من ذلك، صلى عمر بتواضع على الدرج خارج الكنيسة، وأصدر مرسومًا يمنع المسلمين من تحويل الكنيسة إلى مسجد. لم يكن ذلك مجرد تعبير عن التسامح، بل ضبطا للنفس، وفلسفة في الحكم تقوم على حماية الآخر. وقد صمدت تلك المبادئ.
وجود مسيحي قوي
عندما حرّر القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي القدس بعد قرون، لم تُفرض الترتيبات الخاصة بكنيسة القيامة على المسيحيين، بل قبلوها باعتبارها حلًّا يحقق الاستقرار.
لمنع النزاع بين الطوائف المسيحية المتنافسة، أُوكلت مفاتيح الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين هما آل جودة الحسيني وآل نسيبة، وكان حيادهما ضمانة للسلام.
وبعد نحو 850 عامًا، ما زالت تلك العائلات تفتح أبواب الكنيسة عند الفجر وتغلقها ليلًا. لم يكن ذلك سيطرة بل رعاية: طقس يومي من الوصاية المشتركة على المقدّس.
امتد التعايش المشترك حتى التاريخ الفلسطيني الحديث. خلال الثورة الكبرى بين عامي 1936 و1939، لم يكن المسيحيون على هامش النضال الوطني، بل كانوا من بين قادته. شغل فؤاد سابا منصب أمين سر اللجنة العربية العليا، قبل أن ينفيه البريطانيون إلى جزر سيشل، إلى جانب أعضاء آخرين من القيادة، بينهم ألفرد روك، القيادي المسيحي الفلسطيني البارز من يافا.
كان علم الثورة الفلسطينية يحمل الهلال والصليب متداخلين، رمزين لحركة وطنية دعمتها الديانتان.
أنجبت الأجيال اللاحقة مجموعة استثنائية من الشخصيات المسيحية الفلسطينية التي لم تؤثر في الحياة الوطنية الفلسطينية فحسب، بل في الخطاب الفكري والثقافي العالمي أيضًا. كان جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، من أبرز مهندسي المقاومة الفلسطينية الحديثة.
برزت حنان عشراوي كواحدة من أكثر الأصوات الدبلوماسية بلاغة في الدفاع عن القضية الفلسطينية على الساحة العالمية. أما إميل حبيبي، الروائي والكاتب الساخر والزعيم السياسي، فقد منح شكلاً أدبيًا للعبث الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الحكم الاستعماري الاستيطاني.
امتد إسهام المسيحيين الفلسطينيين إلى أبعد من السياسة. أعاد إدوارد سعيد، أحد أبرز المفكرين في القرن العشرين، تشكيل حقول معرفية بأكملها – الأدب والدراسات الثقافية ونظرية ما بعد الاستعمار – وظل متجذرًا في عمق في التجربة الفلسطينية.
إصراره على أن فلسطين ليست مجرد مشكلة جيوسياسية، بل كارثة إنسانية وثقافية، غيّر الطريقة التي يفهم بها العالم الاستعمار والمنفى والسلطة.
لم يكن سعيد صوتًا فلسطينيًا هامشيًا، بل كان من أكثر الأصوات العالمية تأثيرًا، وإرثه ما زال حاضرًا في جامعة كولومبيا، حيث يواصل المفكران المسيحيان الفلسطينيان وائل حلاق وجوزيف مسعد تحدي الأرثوذكسيات الاستعمارية والدفاع عن الحقيقة التاريخية الفلسطينية.
وقبل عقود، وضع خليل السكاكيني، المربي والمصلح والمفكر المسيحي المقدسي، أسس التربية الفلسطينية الحديثة والفكر المدني. كان معارضًا شرسًا للطائفية والهيمنة الاستعمارية على حد سواء، ودافع عن اللغة العربية والاعتزاز الثقافي بالهوية والاستقلال الفكري، في وقت كانت الإمبريالية تسعى فيه لإعادة صياغة الهوية الفلسطينية.
أما عائلة ناصر، العائلة المسيحية الفلسطينية من بيرزيت، فقد أسست ما أصبح لاحقًا جامعة بيرزيت، القلب الفكري للحياة الوطنية الفلسطينية. وقد بدأت المؤسسة عام 1924 كمدرسة ابتدائية للبنات، وشاركت في تأسيسها المربية والناشطة النسوية نبيهة ناصر.
بعد الاحتلال
في الثقافة والفنون، لم يكن دور المسيحيين الفلسطينيين أقل أهمية. حوّل الثلاثي جبران – سمير ووسام وعدنان، من الناصرة – العود إلى آلة عالمية تحيي الذاكرة الفلسطينية، حاملين إلى مسارح العالم كلمات محمود درويش، أعظم شعراء فلسطين المعاصرين، وهو مسلم كما يوحي اسمه، وقد أصبح صوته ملازما لموسيقاهم.
تجسّد شراكتهم شيئًا جوهريًا يعبّر عن فلسطين نفسها: مجتمع طالما تداخل فيه العالمان المسلم والمسيحي فكريًا وفنيًا وعاطفيًا، قبل أن يأتي الاحتلال الاستيطاني ليمزّق ذلك العالم المشترك.
قبل أسابيع قليلة، حضرتُ حفل الثلاثي جبران في مركز باربيكان بلندن، بمناسبة الذكرى العشرين لتعاونهم الاستثنائي مع محمود درويش. كانت الأمسية مؤثرة للغاية، حيث تداخلت نغمات العود مع صوت درويش، بينما كانت صور فلسطين تُعرض في الخلفية، لتجمع الصوت والذاكرة والأرض في تجربة واحدة.
وقبل أداء مقطوعة “الأشجار التي نرتديها”، توقّف سمير ليشرح أصلها. قال إن الأغنية أُلّفت كأغنية حب، بلا إيحاءات سياسية، وإصرارًا على حق لطالما حُرم منه الفلسطينيون: الحق في أن يُنظر إليهم كأناس رومانسيين، يحملون مشاعر رقيقة وإنسانية مثل غيرهم.
عندما قدّم الثلاثي المقطوعة في رام الله عام 2019، حضرت شيرين أبو عاقلة الحفل ولاحظت لاحقًا أنها كانت مقطوعتها المفضلة في تلك الأمسية. بعد ثلاث سنوات، قُتلت شيرين، الصحفية الفلسطينية الأمريكية المسيحية التي نقلت يوميات فلسطين إلى العالم، برصاص جندي إسرائيلي أثناء تغطيتها توغلا عسكريا في جنين.
عُثر على جسدها قرب إحدى الأشجار، وهي صورة استحضرها سمير بوقار صامت، كما لو أنها ارتدتها، في صدى مأساوي لعنوان الأغنية. وقد أهدى الثلاثي لاحقًا “الأشجار التي نرتديها” للصحفية الراحلة.
عندما أصرّ المشيعون على حمل نعش شيرين سيرًا على الأقدام خلال جنازتها في القدس الشرقية، وقف المسلمون والمسيحيون معًا ليحموا النعش، بينما هاجم الجنود الإسرائيليون حامليه، ليتحوّل الحزن إلى عمل من أعمال المقاومة.

تكشف كل هذه الشخصيات زيف السردية الكامنة في قلب الصهيونية المسيحية. فالمسيحية في فلسطين ليست هامشية، ولا منبوذة، ولا آيلة إلى الزوال بمحض الصدفة التاريخية. لقد كانت مركزية في الخيال السياسي الفلسطيني، والإنتاج الثقافي، والمؤسسات التعليمية، والمفردات الأخلاقية.
وهذه هي الحقيقة التي تسعى إسرائيل ورعاتها من الصهاينة المسيحيين إلى طمسها.
في عام 1948، فجّرت الميليشيات الصهيونية فندق سميراميس في القدس، ما أسفر عن مقتل 25 مسيحيًا فلسطينيًا. وفي العام نفسه، أعدمت القوات الإسرائيلية 12 من أهالي قرية عيلبون المسيحية.
هجّرت النكبة نحو 90 ألف مسيحي فلسطيني، وأدّت إلى إغلاق نحو 30 كنيسة قسريًا، ما أفرغ قرى عريقة عمرها قرون.
وخلال الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، قُصفت كنائس كانت في الماضي ملاذًا آمنًا. استُهدفت كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية، وهي من أقدم المواقع المسيحية في العالم، ما أسفر عن مقتل عائلات احتمت داخلها. كما قُصفت كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية، ما خلّف قتلى وجرحى من المدنيين.
لم يكن ذلك سابقة. في عام 2002، فرضت القوات الإسرائيلية حصارًا مسلحًا دام 39 يومًا على كنيسة المهد في بيت لحم، وهي المرة الوحيدة في تاريخها الممتد منذ القرن الرابع التي تتعرض فيها لمثل هذا الاعتداء.
وخارج غزة، تعرّضت الحياة المسيحية في فلسطين لضغوط متواصلة. تضررت ودُمّرت منازل وأديرة ومستشفيات ومدارس ومؤسسات ثقافية، فيما هاجمت عصابات المستوطنين مرارًا بلدة الطيبة المسيحية، وخرّبت الممتلكات وروّعت السكان.
الحماس الأيديولوجي
قبل النكبة، كان المسيحيون الفلسطينيون يشكّلون 12.5 بالمئة من السكان، أما اليوم فلا تتجاوز نسبتهم نحو 1 بالمئة. وقد حذّر رجال الدين وقادة المجتمع، ومن بينهم القس منير إسحق، من أنه إذا استمرت الظروف الحالية، فقد لا يبقى أي وجود مسيحي أصيل في فلسطين بحلول عام 2050.
في الوقت نفسه، يقوم متطرفون إسرائيليون بشكل متكرر بالبصق على القساوسة ومضايقة رجال الدين في القدس، وهو سلوك وصفه وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأنه “تقاليد يهودية قديمة“. أما الصهاينة المسيحيون، الذين لا يكفون عن الحديث عن “القيم التوراتية”، فيلتزمون الصمت.
هذا الصمت ليس عرضيًا، بل موروثًا. غلّف الصليبيون طموحاتهم بالنصوص المقدسة، وشرعنوا العنف، وتخلّصوا من أولئك الذين لا جدوى من وجودهم، بمن في ذلك المسيحيون الشرقيون.
واليوم، يعيد الصهاينة المسيحيون إحياء تلك الموروثات: ليس إيمانًا بل حماسة، ليس تقوى بل تطرف أيديولوجي مغلّف بتعاليم الكتاب المقدس.
يدافعون عن دولة تقصف الكنائس، وتقتل المدنيين المسيحيين، وتطرد العائلات المسيحية من أرضها. يتعهدون بتدريب عشرات الآلاف من المبشرين لخدمة إسرائيل، ويغمضون أعينهم عن محو المسيحيين الذين يضفي وجودهم معنى على الأرض المقدسة.
يهلّلون للساسة والمعلّقين الذين يتعاملون مع المسيحية كموروث مفيد، لا كمعتقد حي. وقد عبّرت الكاتبة البريطانية ميلاني فيليبس عن هذا الاحتقار بصراحة مدهشة حين وصفت المسيحية بأنها “طائفة يهودية خرجت قليلاً عن السيطرة“.
وُلدت الصهيونية من رحم قومية علمانية، كثيرًا ما كانت شديدة الارتياب من الدين، لكنها اكتشفت أن الدين يمكن أن يخدم أجندتها. يوفّر الصهاينة المسيحيون الحماسة والمسرح ومفردات القدر، ليعمّدوا الحملات العسكرية ويقدّسوا الهيمنة.
ولكي ينجح هذا العرض، يجب محو المسيحيين الفلسطينيين من النص. وجودهم يخرق أسطورة “الغرب اليهودي المسيحي” في مواجهة العدو المسلم.
يتم تجريد المسيحية واليهودية من عمقهما الديني وتسخيرهما لخدمة مشروع استعماري يسحق المسيحيين الذين قدّس أسلافهم هذه الأرض لأول مرة. لا يمكن لأي آية في الكتاب المقدس أن تخفي هذه الحقيقة.
جاء القساوسة يبحثون عن نبوءة. ساروا بين شعب مسيحي حي ولم يروه، وادّعوا أنهم يدافعون عن المسيحية، بينما أداروا ظهورهم لأقدم من يمثلها.
تحت كل ذلك تكمن الحقيقة الأشد وضوحًا: لقد خلطوا الولاء السياسي بالإيمان، وعبادة الأصنام بالإخلاص، ونسوا أن أقسى كلمات المسيح كانت موجّهة لأولئك الذين غلّفوا الطغيان بالتقوى.
المصدر: ميدل إيست آي