“زوجتي بكرية بتولد لحالها، الحقيني يمّ صالح!”.. هذا واحد من نداءات الاستغاثة الطارئة التي تأتي في منتصف الليل للقابلة الستينية فِيزا شريم، وتدفعها بلهفة لارتداء ملابسها على عجل، فيما تحمل أصابعها المجعدة حقيبتها السوداء العتيقة بأدواتها الطبية، وتخرج من خيمتها البيضاء وتسير مشيًا على أقدامها برفقة كشافها الذي يضيء لها الطرقات الرملية المليئة بالركام والمخاضات العسيرة في مدينة غزَّة.
تروي مَلاك الولادة فِيزا شريم (65عامًا) قصّتها: “في السبعينات كنت في الثالثة عشر من عمري، وكان الاحتلال يفرض الطوق الأمني مانعًا الحركة على سكان مدينة غزّّة، ووالدتي في حالة مخاض بشقيقتي جميلة، ووجدتُ نفسي أتولى أول مهمة توليد في حياتي، مما دفعني للإلتحاق بكلية التمريض عام 1979.
بصوت دافئ وابتسامة مشرقة، تفتتح القابلة شريم ذكرياتها مع القبالة: “في اليوم العاشر من زواجي جاءت الموافقة على دراسة تخصص القبالة الذي لم يكن متوفرًا في مدينة غزَّة، إنما مُتاح في مدينة صرفند داخل أراضينا المحتلة واندفعت لدراسته لمدّة عام كامل بتعلم أساسياته ومهاراته العملية”.

أنجبت القابلة شريم 13 ابنًا، استشهد 3 منهم خلال حرب الإبادة على قطاع غزَّة وجدة لـ53 حفيدًا كانت القابلة والجدَّة لهم في آن واحد.
تتنقّل القابلة الستينية بنظراتها بين زوايا خيمتها التي لا تشبه دفئ بيتها وتقول: “عملت داخل مستشفى الشفاء الطبي، كونه المكان الوحيد الذي كانت تلد فيه النساء من العريش جنوبًا وحتى بيت حانون شمالاً، مارستُ المهنة لأكثر من أربعة عقود متتالية”.
لم يثنها التقاعد عن خدمتها الإنسانية بإخراج الأرواح من الأرحام بصرخة الحياة الأولى، “لم أتوقف عن عملي حتى مع التقاعد، خصصت غرفة ولادة في بيتي بمدينة جباليا، وقمت بتوليد النساء ومساندتهن في المخاض وإسماعهن صرخات أطفالهن المبهجة لآذانهن كخدمة إنسانية دون مقابل مادي، واستكملتها في رحلة نزوحي الشاقة في مدينة دير البلح التي تجاوزت العامين في حرب الإبادة الإسرائيلية”.
“يمكن للقابلات اللاتي حصلن على التدريب الجيد المساعدة في الحد من وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة بنسبة 66%، وتشير التقديرات إلى أن النساء اللواتي يتلقين رعاية مستمرة من القابلات يشهدن انخفاضًا بنسبة 24% في الولادات المبكرة ويصبحن أقل عرضة لفقدان أطفالهن بنسبة 16%”، طبقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
ترتج نبرة صوت أم صالح فيما تنساب دمعة من عينها وهي تحكي: “كم كنت متشوقة لتوليد ابنتي الحامل بطفلها الذي كانت تعدّ الأيام لميلاده، لكن الاحتلال الإسرائيلي قتلها وطفلتيها وجنينها برفقة 23 فردًا من عائلة زوجها، تمسح دمعتها، وتكمل: “فقدتْ ابنتي الكبرى زوجها وكانت على وشك الولادة في يوم العزاء الثالث، ساعدتها، كنت أمها وقابلتها وجدة أولادها”.
مع عدم قدرة كثير من السيدات الحوامل على الوصول إلى المستشفيات للولادة بسبب القصف والحصار الإسرائيلي الخانق، تقوم فِيزا بمساعدتهن في الخيام ومراكز اللجوء والإيواء، مستخدمة أبسط الأدوات الطبية المتوافرة في حقيبتها وسط انهيار القطاع الصحي في مدينة غزَّة.
وعن المخاضات العسيرة التي تعلق في ذاكرة شريم خلال حرب الإبادة، “في ليلة معتمة لا يضيئها إلا الأحزمة النارية، كان هناك رجل يركض صارخًا: زوجتي بتولّد الحقيني يا خالتي أم صالح، لحالنا مافي عندي أميَّ ولا حدا يساندني ولا إسعاف بيقدر يصلنا على الحدود”.
لم أتردد لثانية واحدة، اصطحبت ابني وقلتُ له: “بدنا نروح نخرج روح من روح وكنا نتشاهد على أرواحنا، “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله” الزنانة تحلق فوق رؤوسنا وادعي ربنا يسلمنا ويوصلنا”.
تشبك أناملها المجعدة ببعضها البعض وتلتقط نفسها وتتابع “وصلنا البيت قمت بتسهيل مخاض المرأة وخرج الجنين مع صرخات الأم التي تعلو على صوت القصف الإسرائيلي، وقمت بتخليص الجنين وإنزال الخلاصة ونظفت الطفل، ثم اكتشفتُ أن الحقيبة خالية من غرز الجراحة، فلم أتردد في العودة إلى البيت مشيًا على الأقدام مسافة أكثر من كم، جلبتُ الغرز وقمت بتخييط الجرح على ضوء الجوال الخافت، وأحمد الله على كل ولادة أنقذ فيها مرأة وطفلها بأدواتي البسيطة”.
وعن الأدوات التي تحملها القابلة الستينية في حقيبتها، تقول: “خلال الحرب، نزحت أكثر من 13 مرّة، كنت أحمله في حقيبتي أدوات طبية بسيطة من قطن، وشاش طبي، وقفازات طبية، وخيوط، ومقص، بينما تركت أجهزة التشفيط، وأسطوانات الأكسجين في بيتي الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي”.
عانت النساء خلال حرب الإبادة بألم مضاعف بتحمل القصف والضغط والخوف على النجاة بنفسها وجنينها وهناك من فقدت طفلها لعدم تمكن الإسعاف من الوصول للمناطق الخطرة والطرق الوعرة المليئة بالركام.
لم يتردد الاحتلال الإسرائيلي في قتل الأمهات وأجنتهم، لكن الخالة أم صالح واصلت ولادة الأمل طفلًا طفلًا، من تحت القصف وبين الركام وفي الخيام، تسمع العالم صرخات الحياة من غزَّة.