خلال عام دون الأسد، دخلت سوريا مرحلة انتقالية يفترض أن تشكل قطيعة مع إرثه الممتد من القمع والعنف الممنهج، وأن يفتح المجال للتعامل الجاد مع سجل الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بحق السوريين على مدى عقود. غير أن تغيير القيادة السياسية، أو حتى تفكك بنية النظام الأمنية والسياسية لا يقدم بحد ذاته إجابة عن السؤال الأعمق الذي راكمه السوريون طوال سنوات العنف: لماذا أصبح هذا القدر من الإجرام ممكنًا، وبهذا الاتساع، وبهذا المستوى من التورط المؤسسي؟
حتى الآن، وفي ظل غياب مسار وضاح للعدالة الانتقالية وعدم الإعلان عن إطار مفاهيمي ناظم لها، ما يزال النقاش العام حولها محصورًا في أدوارها الإجرائية التقليدية: من التوثيق، وتحديد المسؤوليات، وبناء الذاكرة، والسعي إلى المحاسبة القضائية. رغم الأهمية البالغة لهذه المسارات، فإن الاقتصار عليها يبقي العنف في إطار نتائجه لا أسبابه، ويقود إلى مقاربة اختزالية تفسره إما بوصفه رد فعل على اندلاع الثورة، أو كنتيجة مرتبطة بشخص الحاكم وطبيعته السياسية. وكلا التفسيرين يتجاهل السؤال نفسه، كيف عملت مؤسساتها، وكيف أعيد تعريف وظائفها، بحيث أصبح العنف المفرط ممارسة ممكنة ومحمية ومستمرة من داخلها؟
ينطلق هذا المقال من فرضية مفادها أن العنف الذي شهدته سوريا لا يمكن فهمه بوصفه انحراف سياسي طارئ أو استجابة ظرفية للاحتجاجات، بل بوصفه نتيجة تحول بنيوي عميق في الدولة السورية، تحول سمح لمؤسسات أمنية وقضائية وإدارية أن تمارس العنف مباشرة أو أن تتواطأ معه، في ظل غياب فعلي لآليات فعّالة للضبط أو المحاسبة.
فالدولة لم تكن غائبة عن مشهد العنف، بل كانت حاضرة عبر إدارة منهجية لقوة المفرطة، لا عبر احتكارها القانوني المشروع، ومنه يجادل بأن آليات العدالة الانتقالية في سوريا، وخاصة لجان الحقيقة بوصفها الأداة الأكثر إلحاحًا في هذه المرحلة، لا يمكن أن تقتصر على تثبيت الوقائع أو تحديد المسؤوليات الفردية، بل ينبغي أن تتجه إلى تحليل الخلل البنيوي الذي جعل الإجرام ممكنا من داخل المؤسسات نفسها، حتى لا تعيد الدولة تلقائيًا إنتاج شروط العنف بعد زوال النظام الذي قام به.
من “ماذا” إلى “لماذا” حدث، أعادة تفكير في دور لجان الحقيقة
لا يمكن فهم لجان الحقيقة بوصفها مجرد آلية تقنية في مسار الانتقال من القمع إلى شكل حكم أكثر ديمقراطية، بمعزل عن التصور الأخلاقي والسياسي الذي صاغه ديزموند توتو في تجربته التأسيسية مع لجنة الحقيقة والمساءلة في جنوب إفريقيا، ففي كتابه “لا مستقبل بدون مسامحة“ يقدم توتو لجان الحقيقة بوصفها مساحة وطنية لمساءلة الماضي، لا تقتصر على تجميع الوقائع أو توثيق الانتهاكات، بل تهدف إلى إعادة بناء العلاقة المنكسرة بين الدولة والمجتمع بعد عقود من العنف والإقصاء.
في هذا التصور، لا تكون الحقيقة غاية بحد ذاتها، بل مدخلًا لإعادة تعريف المسؤولية، والاعتراف بالضرر، واستعادة المعنى الأخلاقي لفكرة الدولة.
الرئيس #أحمد_الشرع: شكّلنا لجان تحقيق بأحداث الساحل والسويداء، وسمحنا بدخول لجان دولية. و #سوريا ملتزمة بمحاسبة من يعتدي على أي مدني لأنها دولة قانون. pic.twitter.com/zx0rAuOC3z
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 22, 2025
غير أن مسار تطبيق لجان الحقيقة، في سياقات سياسية واجتماعية ونزاعات مختلفة، شهد تحولًا تدريجيًا في دورها ووظيفتها، ففي أكثر من تجربة، تراجع بعدها التأملي لصالح مقاربة أكثر إجرائية تركز على فهم ما الذي حدث وتوثيقه، وعلى إدارة عملية جمع الشهادات وتصنيف الانتهاكات، ويتجلى هذا التحول بوضوح في تعريف اللجنة الدولية للعدالة الانتقالية لجنة الحقيقة بوصفها:
“عمليات تحقيق رسمية مؤقتة يتم انشاؤها لتحديد الحقائق المتعلقة بانتهاكات سابقة لحقوق الإنسان والأسباب التي تقف ورائها والنتائج التي أفضت إليها، ومن خلال إيلاء اهتمام خاص للإفادات تمنح هذه اللجان الاعتراف للضحايا وغالبًا ما يتم ذلك بعد سنوات كثيرة من اسكات أصواتهم أو تجاهلها.”
ورغم أن هذا التعريف لا يغفل الإشارة إلى الأسباب والنتائج، إلا أن الممارسة الفعلية للجان الحقيقة أظهرت ميلًا إلى حصر مفهوم الحقيقة في بعدها الوصفي، أي في سرد الوقائع وتحدد أنماط الانتهاكات، دون الذهاب بعيدًا في مسألة البنية السياسية والمؤسسية التي جعلت الانتهاكات ممكنة، ومقبولة، وقابلة للتكرار.
في هذا السياق تجادل الدراسات نقدية معنية بتقييم عمل لجان الحقيقة، بوجود نوعين متكاملين من الحقيقة التي لا بد للجان من العمل عليها كجزء من مسؤوليتها، وهما:
- الحقيقة التوثيقية أو الجنائية، التي تنطلق من سؤال “ماذا حدث؟” وتركز على توثيق الوقائع وتحديد الأفراد ” الضحايا والجناة”، وكسر الإنكار الرسمي، وبناء رواية وطنية للاعتراف بالضحايا واستعادة كرامتهم. وهي وظيفة ترتبط لاحقًا بمسارات التعويضات والمسائلة الجنائية.
- الحقيقة التحويلية البنيوية، وتنطلق من السؤال “لماذا حدث ذلك؟” ولا ترتبط بالأفراد بقدر ما تُعنى بتفكيك النظام القانوني والسياسي والأمني الذي جعل القيام بهذا العنف ممكنًا وممنهجًا.
هذه المقاربة تساعد الضحايا والمجتمع على فهم أن العنف لم يكن نتيجة انحرافات فردية، بل نتاج هياكل سلطوية تغلغلت في بنى الدولة، ما يستدعي التفكير في تحويل هذه البنى، واقتراح تدابير تحول دون إعادة انتاج العنف مستقبلًا. وبهذا المعنى يتحول عمل لجان الحقيقة من مجرد آلية لإدارة الماضي إلى أدوات تحليل سياسي وأخلاقي قادرة على تقدم سردية تفسيرية شاملة تفتح أفق الإصلاح البنيوي.
حين أصبح سؤال “لماذا حدث هذا العنف؟” جزءًا من الحقيقة
في غواتيمالا والبيرو توصلت لجان الحقيقة إلى أن العنف الذي شهدته الدولتان لم يكن سلسلة انتهاكات منفصلة أو انفجارًا عشوائيًا للعنف، بل نمطًا متكررًا وممنهجًا ارتبط على نحو وثيق ببنية الدولة ووظائف مؤسساتها، حيث رفضت اللجنتان تفسير ما جرى بوصفه “نتيجة لحرب أهلية” أو “عنف شديد متبادل بين أطراف مصارعة” واتجهت بدلًا من ذلك إلى التفكير في دور الهياكل المؤسسية للدولة في العنف، والسؤال عن الكيفية التي جعلت الدولة فاعلًا مركزيًا في إنتاج العنف وتنظيمه.
غواتيمالا: الدولة القوية والعنف العنصري
تأسست لجنة التوضيح التاريخي عام 1997 للتحقيق في أعمال العنف التي وقعت خلال 36 عام من النزاع الداخلي، جاء تشكيل اللجنة في أعقاب اتفاقيات السلام الغواتيمالية، وهي سلسلة من الاتفاقات التي أبرمت بين 1992- 1996، وأنهت الحرب من دون أي هزيمة عسكرية واضحة لأي طرف من الأطراف، ولم يحل بعدها الجيش، ولم تفتح مسارات للمحاكمات الجنائية. إذ ركزت الاتفاقيات على وقف الحرب أكثر من التوجه لتفكيك الدولة أو مساءلة مسؤوليها، هذا السياق التفاوضي أنتج توازنًا هشًا بين السلام والعدالة، وقيّد عمل لجنة الحقيقة سياسيًا منذ البداية، إلى درجة أن الكثيرين توقعوا فشلها أو تحولها إلى آلية رمزية محدودة الأثر.
غير أن لجنة التوضيح التاريخي تعاملت مع هذه القيود لا بوصفها عائقًا مطلقًا، بل بوصفها دافعًا لتغيير زاوية العمل، فبدلًا من التركيز على المسؤولية الفردية -وهو المسار الذي حظرته الاتّفاقيات السياسية- اتجهت اللجنة إلى تحليل العنف بوصفه ظاهرة بنيوية مرتبطة بمنهج الدولة في الانخراط بالعنف عوضًا عن احتوائه، وأسلوب عمل مؤسساتها التي نظمت هذا العنف.
تشير بريسيلا هاينر في كتابها “الحقيقة غير المُقالة: العدالة الانتقالية وتحديات لجان الحقيقة”، إلى أن اللجنة بعد فترة من الجمود، نجحت في بناء خارطة طريق لعملها، فقد بدأت بتحديد إطار زمني واضح لعملها شمل سنوات النزاع الست والثلاثين، وهي فترة أسفرت عن أكثر من مئتي ألف قتيل ومفقود قسرًا.
ثم انتقلت إلى بناء قاعدة معرفية واسعة عبر دمج الأرشيفات الأمنية المتاحة مع البيانات التي جمعتها المنـظمات الحقوقية غير الحكومية، وهو ما تطلب منها فتح مكاتب للجنة في مناطق نائية ومعزولة، بعيدة عن مراكز المدن، على خلاف ما جرت عليه العادة في تجارب لجان الحقيقة في السياقات الأخرى.
اعتمدت اللجنة منهجية تحليلية هدفت إلى الكشف عن الأسباب العميقة للعنف، وخلصت في تقريرها إلى أن جذوره لا تكمن فقط بالنزاع المسلح وحده، بل في منظومة أوسع تشمل العنصرية البنيوية ضد السكان الأصليين، والنظام الاجتماعي الهرمي، وطبيعة المؤسسات غير الديمقراطية، وتأثير الحرب الباردة في تشكيل سياسات الدولة القمعية.
ضمن هذا الإطار، برزت الدولة بوصفها فاعل قويًا أمنيًا، بمؤسسات مغلقة تعمل ضمن دوائر داخلية معزولة عن المجتمع وغير خاضعة للمساءلة.
وقد حولت هذه الخلاصات، بدقتها وعمقها التحليلي وجرأتها السياسية، لجنة غواتيمالا من تجربة يتوقع لها الفشل إلى واحدة من أقوى وأنجح لجان الحقيقة في التاريخ المعاصر، فلم تكتف بتوثيق ما جرى، بل قدمت تفسيرًا لكيفية إنتاج الدولة للعنف المنظم، ولماذا استمر دون أن تردعه مؤسساتها، وهو ما منح التجربة قيمتها المرجعية في إعادة التفكير بدور لجان الحقيقة كركيزة مسار العدالة الانتقالية.
بيرو: من الدولة الغائبة إلى الدولة العنيفة
أما في البيرو، فتوصف لجان الحقيقة والمصالحة، التي أنشئت عقب انهيار نظام ألبرتو فوجيموري عام 2000، بأنها إحدى أقوى آليات المرحلة الانتقالية في البلاد. جاء تشكيل اللجنة في سياق سياسي مختلف عن غواتيمالا، إذ فتح مسار العدالة الانتقالية بعد سقوط النظام، لا ضمن تسوية تفاوضيه أنهت نزاع قائم. وقد كلفت اللجنة بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي وقعت بين عامي 1980 و2000، في سياق نزاع داخلي بين الدولة وجماعات مسلحة، تخللته جرائم كالقتل خارج القانون، والتعذيب حتى الموت والإخفاء القسري.
منحت اللجنة مهلة زمنية بلغت عامين لإنجاز عملها، وتألفت من 12 عضوًا مثلوا تيارات اجتماعية وسياسية مختلفة، كان من بينهم جنرال متقاعد، شغل سابقًا منصب مستشار للأمن القومي في إحدى الحكومات المتورطة بالانتهاكات، إلى جانب شخصيات سياسية أثار تعيينها جدلًا واسعًا. وقد عكس هذا التكوين، منذ البداية، طبيعة اللجنة بوصفها آلية تعمل في سياق معقد، يجمع بين السعي للحقيقة واستمرار حضور نخب الدولة القديمة في المجال العام.
تشير هاينر إلى أن لجنة البيرو كلفت بتفويض واضح نسبيًا، لم يقتصر على توثيق الانتهاكات، بل تضمن تحديد الظروف البنيوية التي أدت إلى العنف، والمساهمة في توجيه مسار التحقيقات القضائية، وصياغة مقترحات للتعويضات، وتقديم بتوصيات للإصلاح المؤسسي.
وقد شكل وضوح الهدف إلى جانب تحديد المهام والمدة الزمنية عاملًا داعمًا لعمل اللجنة، حيث انطلقت اللجنة من جلسات استماع شملت مختلف مناطق البلاد، وجمعت قرابة 17 ألف شهادة بينها 1,100 شهادة ممن اختبر تجربة الاحتجاز في السجون، واعتمدت على إنشاء قاعدة بيانات متطورة لتحليل المعلومات، وهو ما مكنها من الوصول إلى استنتاجات دقيقة حول أنماط العنف، وخلص تقريرها إلى أن عدد القتلى والمختفين قسرًا بلغ أكثر من 69 ألف شخص، كان بينهم نحو 75% من المتحدثين للغة غير رسمية ولغات السكان الأصليين، ووثقت وجود 4,600 مدفن سري.
تشير هاينر إلى أن العنف لم يكن يمارس بشكل متساوٍ على مختلف المناطق الجغرافية ولا بين مختلف الطبقات الاجتماعية، إذ كان معظم الضحايا من الفئات الأكثر فقرًا، ولا سيما من السكان الأصليين، وهو ما يشير إلى نمط استهداف قائم على الهوية والتهميش التاريخي.
في هذا السياق، لم تفهم نشأة الفصائل المسلحة بوصفها رد فعل آني على انسحاب الدولة فحسب، بل كنتيجة لتراكم طويل من الإقصاء الاجتماعي، والصراع الأيديولوجي وغياب الدولة عن مناطق واسعة، وهو ما خلق بيئة حاضنة للتمرد المسلح.
كانت هذه اللجنة أول لجنة حقيقة في أمريكا اللاتينية تعقد جلسات استماع علنية، وتوظف أدوات تحليل بيانات متقدمة، وتتعاون بشكل منهجي مع منظمات دولية ومحلية لتطوير عملها، كما أنها صاغت خطة تعويضات شاملة، تتسق مع الإطار الأوسع الذي ربط بين العدالة والتعويض والإصلاح المؤسسي الذي صممت له.
وفي تقريرها، لم تفسر العنف باعتباره سياسة دولة مركزية متماسكة، بل نتاج لدولة ضعيفة، مجزأة، وفاشلة في أداء وظائفها الرئيسية، وهو ما يصفه المركز الدولي للعدالة الانتقالية ICTJ بـ “العنف متعدد الأطراف في سياق تآكل القانون وغياب الدولة عن شرائح اجتماعية واسعة، وفي نفس الوقت حضورها عبر قوانين الطوارئ والاستجابة الأمنية”، بهذا المعنى فسرت لجنة البيرو العنف كنتيجة لفشل الدولة في منع العنف، وهو ما جعل إصلاح المؤسسات شرطًا مركزيًا لمنع تكرار الانتهاكات.
ماذا يعني هذا لسوريا؟
تتقاطع تجربتها غواتيمالا والبيرو في دلالة أساسي، مفادها أن العنف الواسع لا يمكن فهمه خارج موقع الدولة التي مارسته أو سمحت باستدامته، ففي كلتا الحالتين، لم يكن العنف مجرد نتيجة صراع مسلح، بل تعبيرًا عن خلال بنيوي في كيفية تشكل الدولة ووظائف مؤسساتهاـ هذا التقاطع يقدم إطارًا تفسيريًا بالغ الأهمية للحالة السورية، التي لا يمكن اختزال عنفها في نموذج واحد، بل تظهر كحالة هجينة تجمع بين سمات الدولتين معًا.
من جهة تتشابه سوريا مع غواتيمالا بوصفها دولة قوية أمنيًا ومغلقة سياسيًا، أعادت تكوين مؤسساتها ولا سيما الأمنية والقضائية لتعمل كأدوات إنتاج منهجي للعنف، لا كآليات ضبط أو حماية، في هذا النموذج لم يكن العنف نتاج فوضى وانهيار المؤسسي، بل ممارسة منظمة وممأسسة، حظيت بتغطية قانونية وإدارية وجعلت من الإفلات من العقاب جزء من منطقي الحكم ذاته.
ومن جهة أخرى، تتقاطع سوريا مع تجربة البيرو في كونها دولة ضعيفة في أداء وظائفها الأساسية، إذ فشلت في توفير الحماية المتساوية لمواطنيها، وضمان العدالة، وإدارة الخلاف السياسي بوسائل غير عنيفة مع الشعب، فقط تآكلت مؤسسات الدولة المدنية، وغابت قنوات التمثيل والمساءلة، وهو ما سمح للعنف بأن يتمدد ويتحول إلى نمط مستدام لا بفعل غياب الدولة كليا، بل بفعل عجزها البنيوي عن أداء وظائفها خارج الإطار الأمني.
المتحدث باسم لجنة التحقيق بأحداث الساحل “ياسر الفرحان”:
📌بدء المحاكمات العلنية للمتورطين في أحداث الساحل.
📌لجنة التحقيق أحالت 563 مشتبهًا به إلى القضاء وفق القوانين الوطنية والمعايير الدولية.
📌الإجراءات تهدف لمنع إفلات المتورطين من العقاب وضمان إنصاف الضحايا.
📌اللجنة… pic.twitter.com/EZILKJS8PX
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 18, 2025
بهذا المعنى، لا يظهر العنف في سوريا بوصفه مفارقة بين قوة الدولة وضعفها، بل كنتيجة مباشرة لاقتران دولة قوية في القمع وضعيفة في الحكم، وهو ما يجعل إصلاح مؤسسات الدولة ذاتها – لا فقط أفعالها وفاعليها – مدخلًا ضروريًا لفهم ما جرى. كما يضع لجان الحقيقة أمام مهمة تتجاوز التوثيق، إلى تفكيك هذا التكوين البنيوي الذي جمع بين القمع المُمأسس والفشل الوظيفي.
في هذا السياق، تبدو الحالة السورية أقرب إلى نموذج عنف مركب، فسوريا كما تشير سلوى إسماعيل في كتابها “حكم العنف٬ الذاتية، والذاكرة وإدارة السلطة في سوريا”، لم تكن دولة ضعيفة أو دولة فاشلة لكنها في الوقت ذاته لم تكن دولة قانون، ولم تكن مجرد جهاز قمعي، بل نظام حكم أعيد تشكيله حول العنف والأمن، وجعل الخوف أداة لتنظيم المجال السياسي والاجتماعي. فقبل عام 2011 بوقت طويل، كان العنف مدمجًا في بنية الدولة السورية عبر أجهزة أمنية فوق القانون، وقضاء منزوع الاستقلال، وإدارة عامة تعمل بمنطلق الطاعة لا المساءلة، ومع اندلاع الاحتجاجات، لم يبدأ العنف من فراغ، بل تكشّف عن منطق متجذّر جعل من القتل الجماعي والتعذيب والإخفاء القسري ممارسة ممكنة ومشروعها داخل مؤسسات الدولة نفسها.
أخيرًا، لا نستدعي تجارب غواتيمالا والبيرو كنماذج جاهزة لأجل تطبيقها في سوريا -فالعدالة الانتقالية عملية سياقية تتعلق بسياق العنف والدولة والصراع والانتهاكات التي جرت- بل باعتبارها دروسًا تحليلية تساعد على تسمية الخلل المؤسسي الذي سمح بإنتاج العنف ونظّمه، وعليه فإن الدور المأمول للجان الحقيقة في سوريا لا يقتصر على إدارة الماضي، بل يمتد إلى تفكيك منطلق العنف الذي حكم الدولة، وطرح أسئلة إصلاحية جذرية حول الأمن، والقضاء، والإدارة، والعلاقة ما بين الدولة والمجتمع.
وفقط عبر هذا الانتقال من كشف الانتهاكات إلى كشف الخلل، يمكن للعدالة الانتقالية أن تتحول من ممارسة رمزية إلى مسار فعلي يمنع إعادة إنتاج العنف ويؤسس لإمكانية دولة لا يكون العنف أحد شروط وجودها، وهو ما ينتظره السوريون من هيئة العدالة الانتقالية.
