ترجمة وتحرير: نون بوست
تحمل ثورات الربيع العربي معانٍ كثيرة بالنسبة لملايين الناس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي العالم بأسره. كانت الدعوات الواسعة المطالبة بالحريات المدنية والديمقراطية في المنطقة مثيرة للانقسام، إذ رأى البعض في هذه الانتفاضات مؤامرات إمبريالية، بينما اعتبرها آخرون لحظة طال انتظارها بالنسبة للمناضلين من أجل الحرية وأنصار الديمقراطية الذين عانوا طويلًا تحت حكم بعض أكثر الأنظمة استبدادًا في القرن العشرين.
لكن ما الذي كانت تعنيه تلك الاضطرابات المحلية والإقليمية بالنسبة للمنطقة، وحكامها المستبدين، والشعوب التي ترزح تحت حكمهم؟ وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للمستقبل؟
في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجًا على وحشية نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، دون أن يدرك أنه أطلق أكبر موجة للمطالبة بالديمقراطية في المنطقة منذ نهاية الاستعمار.
وخلال أشهر قليلة، امتدت الاحتجاجات ضد الأنظمة الاستبدادية إلى اليمن ومصر وليبيا والبحرين وسوريا، ما صدم العالم الذي اعتاد طويلًا على الاستفادة من القمع في تلك المنطقة. على سبيل المثال، كان يُنظر إلى نظام حسني مبارك في مصر منذ فترة طويلة باعتباره سدًا منيعًا في مواجهة الشارع العربي والتيارات القومية العربية والإسلامية التي اعتبرها كثيرون في الغرب تهديدًا لمصالحهم الإقليمية، وتحديدا تدفق الطاقة، وأمن إسرائيل، ومكافحة التطرف العنيف.
لكن المفارقة هي أن هذا الاستبداد نفسه هو الذي أدى إلى انهيار المعادلة الموالية للغرب، التي كانت تقوم عليها افتراضات الاستقرار الإقليمي. فمع تشديد حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إجراءاتها البوليسية، في ظل تفشي الفساد وسوء الإدارة والقمع السياسي، بدأت شعوب المنطقة، وخاصة الشباب العاطل عن العمل، بالتشكيك في الأنظمة التي تقمعهم لصالح قوى أجنبية ودوائر نخب ضيقة.
وهكذا، كان الانتشار السريع للحركات الثورية في المنطقة في الأيام الأولى للربيع العربي نتاجًا لأنظمة الماضي البالية وغير المستدامة. لكن للأسف، أثبتت تلك الأنظمة قدرتها على الصمود، لا سيما أنظمة الخليج العربي التي قادت في نهاية المطاف القوى المضادة للثورات ضد الانتفاضات الناجحة في تونس ومصر وغيرها.
في الواقع، تكمن الحقيقة المُرّة التي يمكن استخلاصها من فترة الربيع العربي في أن الصراعات القديمة والمناورات الجيوسياسية ذات المحصلة الصفرية على المستويين الدولي والإقليمي أثبتت أنها أقوى وأكثر رسوخًا من أي لحظة ديمقراطية منفردة.
اعتمدت القوى المضادة للثورات، بقيادة ممالك الخليج، بشكل أكبر على سياسة التكتلات، مُنافسةً بذلك القوى المُؤيدة للثورات في المنطقة، وتحديدًا تركيا وقطر. في الوقت نفسه، وسّعت إيران نفوذها في دول مُنهكة بالحروب، مثل سوريا والعراق واليمن، لتعزيز قوتها في الحرب الخفية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
تفسر هذه الديناميكية فشل الربيع العربي في إنتاج لحظة ديمقراطية حقيقية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في ظل مساعيها لهزيمة البُنى الاستبدادية القديمة التي شكّلت ملامح حقبة ما بعد الاستعمار، ولّدت الحركات المؤيدة للديمقراطية وحشية مضادة للثورات تعكس بشكل مباشر طبيعة تلك البُنى.
والأسوأ من ذلك، أنها زادت من حدة الصدوع الجيوسياسية التي أنتجت العنف المروع في جميع أنحاء المنطقة ووسعت نطاقه، مما أثار مخاوف من صراع إقليمي حقيقي بين الكتل المتنافسة جذب إليه قوى دولية وعالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا.
والأسوأ أنها صلّبت الانقسامات الجيوسياسية التي أنتجت ووسّعت العنف المروّع في المنطقة، وأثارت مخاوف من اندلاع صراع إقليمي حقيقي بين تكتلات متنافسة، بينما جذبت قوى عالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا.
ومع ذلك، فإن هذه الإخفاقات تحمل دروسًا مهمة شكّلت إرث الربيع العربي. وأهم هذه الدروس أن فكرة “الاستقرار الاستبدادي” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تكن خاطئة فحسب، بل كانت لها نتائج عكسية.
وبالتأكيد، هذا الدرس لا يصلح ليكون قاعدة عامة في كل السياقات. هناك الكثير من الحالات التي كان فيها الاستقرار -ولا يزال- أولوية على حساب مفاهيم مبهمة عن “الديمقراطية”. خذ سوريا في ظل الحكومة المؤقتة للرئيس أحمد الشرع كمثال: الرجل ليس ديمقراطيًا بالمعنى الغربي، لكنه قد يكون ضروريًا لضمان بقاء سوريا خلال انتقالها الهش.
لكن هذا الفارق الدقيق لا يلغي الدرس نفسه. فمع مرور الوقت، تنهار الأنظمة الاستبدادية تحت الضغوط التي تخلقها بنفسها. فالدولة غير الخاضعة للمساءلة، التي تحرم شعبها من الحريات المدنية الأساسية والمشاركة في الحياة العامة، وتفشل في الآن ذاته في توفير الظروف المادية اللازمة لإخضاع معظم مواطنيها، ستنهار مع مرور الوقت.
برميل البارود غير المشتعل يظل برميل بارود ينتظر شرارة فقط، ومشعلو الحرائق متأهبون دائما، فضلًا عن أولئك الشجعان المستعدين للنضال من أجل أبسط حقوقهم الإنسانية بالكلمات والتضامن فقط.
بهذا المعنى، يبدو أن الغرب لم يتعلم كل الدروس الممكنة من إرث الربيع العربي وإخفاقاته. الملكيات الخليجية في صعود، وقد أدرك قادتها أهمية تحسين الحياة المادية لشعوبهم، مع الحفاظ على العلاقات مع الغرب الذي وفّر لهم الحماية منذ تأسيس دولهم.
ولا تزال الاعتبارات السياسية قصيرة المدى هي التي تحدد المقاربات الغربية تجاه المنطقة، فيما يشكل الحكام المستبدون، ولا سيما أولئك الذين يملكون موارد طبيعية ورؤوس أموال ضخمة، مصدر قلق خاص، وأي محاولة لتعديل هذا الوضع تُفضي إلى عملية “تحوط استراتيجي“. أما الصين وروسيا فإنهما حريصتان على التعاون مع حكام الخليج دون شروط، ويسارع الخبراء الغربيون إلى تضخيم أثر هذه النتيجة.
هذا الخوف هو ما يحرك، ولو بشكل جزئي، التفكير الإمبريالي الغربي بشأن دول المنطقة. عندما يُتاح لهم الخيار، يختار المسؤولون في واشنطن ولندن وباريس وبرلين الطريق الأسهل، منتهجين سياسات يعتقدون أنها ستعود بالنفع على شعوبهم، وبالتالي نجاحهم السياسي وبقائهم في السلطة.
فمن الأسهل تمرير مشكلة غير مستدامة إلى الجيل التالي، خاصة عندما تقترن مثل هذه الصفقات بعوائد اقتصادية – عامة وشخصية على نحو متزايد – في غياب أي مساءلة لأولئك الذين دعموا تلك السياسات في الماضي.
لهذه الأسباب ترزح شعوب المنطقة تحت وطأة الاستبداد. ولهذه الأسباب أيضا لم يكتمل الربيع العربي، إذ لا يزال الإحباط الذي أشعل شرارة الانتفاضات ماثلا بين أنقاض حلب المدمرة وأطلال رابعة الملطخة بالدماء.
ليس السؤال المطروح حاليًا، هل ستحدث موجة جديدة من انتفاضات الربيع العربي – على غرار تلك التي شهدها السودان والعراق ولبنان عام 2019 -، بل متى ستحدث تلك الموجة. هي قادمة لا محالة، على غرار انتفاضتي سوريا في الثمانينيات والعقد الثاني من الألفية الجديدة، لأن الأسباب الجذرية التي أدّت إلى اندلاعها لم تتم معالجتها.
في عالمٍ بات أكثر قدرة واستعدادًا لقمع الشارع، يُقدّم الربيع العربي درساً قيماً. ثمة مسارٌ أفضل، تقوده الشعوب، يراعي آمال الأفراد والمجتمعات وتطلعاتهم وكرامتهم. لا يعني ذلك أن المجتمعات قابلة لإعادة التشكيل، أو ينبغي إعادة تشكيلها في إطار مشاريع بناء الدولة، بل يعني الإشارة إلى أن القيم لا تزال جزءًا من مصالح الدول وسياساتها الخارجية، وذلك في سبيل إعادة هيكلة العلاقات وفقًا لمصالحها مع دول خطيرة وضارة بطبيعتها، لكنها تتمتع بثقل استراتيجي. يبدأ ذلك بالاعتراف بالدروس المؤلمة للربيع العربي في الذكرى الخامسة عشر.
المصدر: ناشيونال إنترست
