شهدت مدينة آسفي، على الساحل الأطلسي للمغرب، في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2025 فيضانات مفاجئة خلّفت عشرات الضحايا ودمارًا واسعًا.
وقد أعلنت السلطات ارتفاع حصيلة القتلى إلى 37 شخصًا، فيما جرى إحصاء عشرات الجرحى ومئات المتضررين من خسائر مادية مباشرة، كما غمرت مياه السيول نحو 70 منزلًا ومتجرًا وجرفت سيارات وأغلقت طرقًا رئيسية.
ما زاد من وقع الحادثة أن السيول اجتاحت مساحات من المدينة القديمة خلال فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز ساعة، ما جعل قدرة السكان والجهات المحلية على الاستجابة محدودة للغاية، ففقدت عشرات الأسر مساكنها، عقب تضرر بنايات بشكل بالغ جعل بعضها غير قابل للإقامة، بينما باتت أخرى مهددة بالسقوط في أي لحظة، في مشهد يعكس حجم الصدمة التي خلّفتها الكارثة.
مغربي يطوف شوارع آسفي بقاربه محاولًا إنقاذ العالقين بعد غرق المدينة بسيول الأمطار. pic.twitter.com/GAzJva9UpI
— نون بوست (@NoonPost) December 16, 2025
وقد جاءت هذه الفيضانات لتكشف مرة أخرى عن هشاشة البنى التحتية في بعض المدن المغربية، حيث بدت شبكات صرف مياه الأمطار عاجزة عن مواكبة التدفق المفاجئ والكثيف للمياه، فغمرت السيول الأزقة الضيقة واقتحمت البيوت والمحلات التجارية في زمن قياسي. هذا الواقع أعاد طرح تساؤلات عديدة حول ضعف الصيانة وغياب رؤية استباقية حقيقية للتعامل مع أخطار الفيضانات، خاصة في المناطق التي تعرف كثافة سكانية عالية.
اختلالات في التدبير
تتعدد الأسباب التي فاقمت الخسائر البشرية والمادية، فمن جهة هناك اختلالات واضحة في شبكات تصريف مياه الأمطار، حيث لم تكن مدة التساقطات ولا حجمها الاستثنائي وحدهما سبب الكارثة، بقدر ما كان عجز البنية التحتية عن استيعاب كميات مركّزة من المياه في زمن وجيز. فخلال أقل من ساعة تحولت شوارع وأزقة المدينة، خاصة في المدينة القديمة، إلى مجارٍ مائية جرفت السيارات واقتحمت المحلات والمنازل، في سيناريو أكدته تقارير إعلامية دولية حيث أشارت إلى أن سرعة الانغمار تعود إلى انسداد القنوات وضعف قدرتها الاستيعابية، وليس فقط إلى شدة الأمطار.
عامل مفاقِم آخر تمثل في وضعية واد الشعبة، الذي يخترق مدينة آسفي، ويُعد أحد المنافذ الطبيعية الرئيسية لتصريف المياه نحو البحر. فقد كشفت تحليلات مختصين أن مصب الوادي كان مغلقًا بكتل خرسانية صناعية من النوع الذي يُستعمل لحماية السواحل من قوة الأمواج، وهو ما منع انسياب المياه وأدى إلى ارتداد السيول نحو داخل المدينة بدل تصريفها الطبيعي. هذا الخلل، الذي وُصف من طرف مهندسين بأنه “خطأ تقني جسيم”، أعاد إلى الواجهة مسؤولية القرارات المتخذة في التخطيط العمراني، والذي لا يراعي مثل هذه الظروف.
أما على مستوى التدبير الآني، فقد كشفت الساعات الأولى بعد الفيضانات عن ضعف في منظومة الإنذار المبكر والتدخل الاستعجالي، إلى جانب غياب صيانة دورية فعالة للمجاري والقنوات، إذ تحدثت شهادات محلية عن تأخر وسائل الدعم، وارتباك في التنسيق بين المتدخلين، ما سمح بارتفاع منسوب المياه داخل الأزقة الضيقة في زمن قصير.
هذه العناصر مجتمعة تُظهر أن تفاقم الخسائر، على المستويين البشري والمادي، كان نتيجة تراكم أخطاء هندسية وتنظيمية وتدبيرية، وهو ما دفع السلطات القضائية إلى فتح تحقيق للوقوف على الأسباب الحقيقية، وراء ما حدث، خاصة أن وسائل إعلام محلية نقلت شهادات للساكنة تحدثت عن فساد في منح رخص البناء لشركات شيّدت بنايات فوق معبر الوادي الذي يتم عبره تصريف مياه الفيضانات.
تلكؤ في إعلان آسفي “مدينة منكوبة”
تصاعدت، في الأيام الأخيرة، أصوات حقوقية وسياسية وبرلمانية، مُطالبة رئيس الحكومة المغربية بإعلان آسفي “منطقة منكوبة”، بما يترتب عن ذلك من إجراءات استعجالية لتعويض المتضررين.
وقد تقدمت الجمعية الوطنية للمحامين بالمغرب والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، بدعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية بالرباط، ضد الحكومة، وحمّلتها مسؤولية التقصير، لفشلها في اتخاذ إجراءات استباقية تُجنب المدينة ما حدث.
في ذات السياق أعلنت مجموعة من الفعاليات السياسية والمدنية والنقابية عن تأسيس “لجنة التضامن مع ضحايا فيضانات آسفي”، والتي تضم ممثلين عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وأطاك المغرب، وفيدرالية اليسار الديمقراطي، والحزب الاشتراكي الموحد، والجامعة الوطنية للتعليم (التوجه الديمقراطي)، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والجبهة الاجتماعية المغربية، حيث طالبت هي الأخرى بإعلان أسفي منطقة منكوبة، وربطت المأساة بتراكم “سنوات من الإهمال والتهميش البنيوي، وسوء تدبير البنية التحتية”، كما شددت على غياب سياسات عمومية تضع “سلامة المواطنين وحقهم في الحياة في صلب أولوياتها”.
ولحدود اللحظة لم تستجب حكومة عزيز أخنوش لهذه النداءات التي من شأنها أن تفتح الباب أمام المتضررين للاستفادة من تعويضات “صندوق الكوارث الطبيعية”، ذلك أن القانون رقم 110.14 المنظم للصندوق يشترط إعلان رئيس الحكومة أن ما وقع “كارثة وطنية” لاستفاد ضحايا الكوارث الطبيعية من هذه التعويضات.
لكن التعقيد الذي يواجه تطبيق هذا القانون يتمثل في أنه يربط التعويض بشروط تعجيزية، متمثلة أساسًا في تعرض المنطقة لـ 500 ساعة متتالية من الفيضانات، وهو شرطٌ قال عنه النائب البرلماني محمد أوزين بأنه “مثير للسخرية”.
وفي السياق ذاته أوضح والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أن البنك المركزي ينتظر الإجراءات الحكومية المرتقبة لمعالجة آثار هذه “الفاجعة”، مبرزًا أن القرارات المرتبطة بالدعم المالي أو بإعادة تأهيل البنيات التحتية ستحدد بشكل مباشر حجم الأثر على الميزانية العامة.
آسفي ليست الأولى
يعد المغرب وفق البنك الدولي من أكثر الدول المعرضة للكوارث الطبيعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويقدّر أن الكوارث مثل الفيضانات والزلازل ونوبات الجفاف تكلفه ما يفوق 575 مليون دولار كل عام.
وقد شهد البلد على مدار السنوات الماضية عدة كوارث منها زلزال الحوز في الثامن من سبتمبر سنة 2023، والذي أدى إلى مصرع حوالي 2960 وإصابة 6125، وفيضانات الجنوب الشرقي سنة 2024 التي أودت بحياة أكثر من 18 شخصًا، وتسببت بأضرار واسعة في البنية التحتية حيث قُطعت طرق رئيسية وانهار أو تضرر أكثر من 1200 منزل في المنطقة، بالإضافة التي تعاقب سنوات الجفاف التي أضرت بصورة مباشرة باقتصاد المملكة.
لقي 21 شخصًا مصرعهم على الأقل وأصيب أكثر من 30 آخرين إثر فيضانات مفاجئة ناجمة عن أمطار غزيرة ضربت إقليم آسفي الساحلي في المغرب أمس الأحد، مما أدى إلى غمر منازل وشوارع وجرف سيارات وتعطيل الحركة بحسب ما أعلنت عنه السلطات المحلية في المغرب.
وأضافت السلطات أن الأمطار الغزيرة استمرت… pic.twitter.com/1lvtA3tuUF
— نون بوست (@NoonPost) December 15, 2025
وتشير التحليلات إلى أن التغيرات المناخية، والتوسع العمراني السريع وغير المنظّم الذي تشهده عدة مناطق، مع تركيز السكان في أحياء منخفضة أو قرب مجاري الوديان، تزيد بشكل ملحوظ من حدة المخاطر على المجتمعات الحضرية.
كما شددت الدراسات قبل عدة سنوات على أن التكيف مع التغيرات المناخية لا يمكن أن يظل فقط خطابًا وطنيًا أو التزامات دولية، وإنما ينبغي تحويله إلى خطط محلية واضحة تشمل أنظمة الإنذار المبكر، والتواصل الفعّال مع السكان، وإجراءات الإخلاء الوقائي عند الحاجة. هذه الإجراءات، لو تم تفعيلها في وقتها، كان بالإمكان أن تحدّ من الخسائر البشرية والمادية التي شهدتها الفيضانات الأخيرة وفق متابعة خبراء ومحللين.
ويؤكد الباحثون أن التأخر في التكيف مع هذه المتغيرات المناخية سيكون مكلفًا على المستويين البشري والاقتصادي أكثر مما يُتصور، ما يجعل إعادة النظر في سياسات التعمير والتخطيط العمراني وإدارة الطوارئ ضرورة عاجلة لا تحتمل التأجيل.
خطة طموحة لكنها متأخرة
أمام هذا الوضع أطلق المغرب خطة طموحة لمواجهة الكوارث الطبيعية تروم أساسًا تعزيز سرعة الاستجابة ونجاعة التدخل عند الطوارئ. وفي هذا الإطار، أُطلق في شهر مايو/أيار الماضي مشروع “منصة المخزون والاحتياطات الأولية” بجهة الرباط سلا القنيطرة، تحت إشراف الملك محمد السادس، باعتبارها نموذجًا أوليًا سيُعمم لاحقًا على باقي جهات المملكة.
ويضم المشروع مستودعات مجهزة بمواد الإغاثة والتجهيزات الطبية والغذائية، إلى جانب مهبط مروحيات ونظام إدارة رقمي موحد، بما يتيح تدخلًا لا يتجاوز ست ساعات خلال الكوارث.
نساء مدينة آسفي يتجمعن في حملة تضامنية مع متضرري الفيضانات التي ضربت المدينة وخلفت عشرات الضحايا وخسائر مادية. pic.twitter.com/JXnaFvDdtt
— نون بوست (@NoonPost) December 19, 2025
هذه الخطوة، رغم تأخرها، تُعدّ إيجابية، لأن من خلالها سيتم تدارك التأخير الحاصل في تقديم المساعدات عند وقوع الكوارث، لكن السؤال الذي يُطرح في بعض المناطق، خاصة تلك البعيدة عن مدن المركز، يتعلق بمسؤولية الدولة ومن خلالها مسؤولية المجالس المنتخبة، عن التدخل الاستباقي قبل وقوع الكوارث، خاصة أن مخططات التعمير في بعضها لا يحترم مجاري الأودية ولم يتم العمل على تغييرها لحماية الأحياء السكنية، وذلك لأن هذه المخططات تنظر إلى انحسار هذه الأودية لعقود، لكنها أغفلت مقولة يرددها المغاربة في حياتهم اليومية مفادها أن الوادي لا ينسى مجراه أبدًا.
لقد كشفت فيضانات آسفي وقبلها فيضانات الجنوب الشرقي أن الحكومة بحاجة إلى التوجه إلى وضع خطط استباقية حتى لا تتفاقم الأضرار، ففي كل مرة يبرز خلل واضح في منظومة الطوارئ والإنقاذ، إلى درجة يمكن وصفها بأنها بحاجة عاجلة إلى إعادة هيكلة ومراجعة شاملة، إذ تميزت عمليات الإنقاذ بالبطء وعدم الانسيابية، مع غياب خطط وبرامج جاهزة لدى الجهات المكلفة، بالإضافة إلى ارتباكٍ ونقصٍ في التنسيق بين الفرق المختلفة، وعدم تحذير ساكنة الأحياء المتضررة رغم توقعات النشرات الجوية بهطول تساقطات استثنائية في بعض مناطق المملكة.