في خطوة تُجسّد التحول الأكثر صرامة في سياسة اللجوء الأوروبية منذ عقود، أقرّ وزراء الداخلية والعدل في الاتحاد الأوروبي مجموعة قرارات شاملة تهدف إلى إحكام السيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية وإعادة رسم خارطة التعامل مع طالبي اللجوء.
ورغم أن هذه الحزمة لا تزال بانتظار مصادقة البرلمان الأوروبي، فإنها تُمهّد عمليًا لمرحلة جديدة تُغلّب منطق الردع والفرز السريع على مبادئ الحماية واللجوء التقليدية.
وتتوزع الإجراءات المعتمدة على محاور رئيسية تُشكّل بمجموعها بنية جديدة لمنظومة الهجرة في القارة:
- مراكز عودة خارجية: السماح بإنشاء مرافق استقبال وترحيل خارج حدود الاتحاد، على غرار الاتفاق بين روما وتيرانا لإقامة مركز في ألبانيا، ما يتيح إعادة طالبي اللجوء الذين رُفضت طلباتهم دون إبقائهم داخل أوروبا.
- تشديد آليات الترحيل: اعتماد قواعد ملزمة تسرّع ترحيل المرفوضين، وتُجيز معاقبة من يمتنع عن المغادرة بالسجن.
- توسيع مفهوم “الدولة الثالثة الآمنة”: بحيث يمكن معالجة طلبات اللجوء في دول لا تجمعها صلة مباشرة بالطالب، مما يسمح برفض طلبات لجوء بناءً على عبور سابق أو ترتيبات ثنائية فقط.
- إقرار قائمة موحدة للدول الأصلية الآمنة: لأول مرة، اتُفق على قائمة أوروبية مشتركة تشمل سبع دول، منها تونس ومصر والهند، إضافة إلى جميع الدول المرشحة لعضوية الاتحاد، بما فيها تركيا.
- آلية تضامن مالي بديلة عن استقبال اللاجئين: تتيح للدول الرافضة استقبال حصتها من طالبي اللجوء دفع 20 ألف يورو عن كل حالة، تُستخدم لدعم دول الخط الأمامي كاليونان وإيطاليا.
القرارات أثارت انتقادات لاذعة من أكثر من 200 منظمة حقوقية أوروبية، اعتبرتها انقلابًا على مبادئ الحماية الإنسانية، وتفويضًا قانونيًا لصد المهاجرين خارج الحدود. لكن رغم الأصوات المعارضة، تُظهر سرعة التوافق بين العواصم الأوروبية اتجاهًا متزايدًا نحو تقنين الردع الجماعي، وسط توقعات بأن تدخل هذه السياسات حيّز التنفيذ في العام 2026، لتُرسي واقعًا جديدًا في ملف اللجوء على تخوم القارة.
تركيا على قائمة “الدول الآمنة”.. ما الذي يعنيه ذلك عمليًا؟
أدرج الاتحاد الأوروبي تركيا ضمن قائمة “الدول الأصلية الآمنة”، وهو تصنيف يعني –من الناحية الإجرائية– أن طلبات اللجوء المقدّمة من مواطنين أتراك داخل دول الاتحاد باتت عرضة للرفض السريع، ما لم يقدّم أصحابها أدلة دامغة على تعرضهم لخطر فردي محدق.
ويُستند في هذا التصنيف إلى حزمة معايير محددة، تشمل غياب النزاعات المسلحة، والحد الأدنى من احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، إضافة إلى انخفاض معدل قبول طلبات اللجوء من تلك الدولة إلى أقل من 20%.
بالنسبة لتركيا، تشير إحصاءات وكالة اللجوء الأوروبية إلى أن نسبة قبول طلبات الأتراك في نهاية 2024 لم تتجاوز 17%، مقارنة بـ54% في عام 2019، في مؤشر على تبدّل النظرة الأوروبية لمدى استحقاق الأتراك للحماية الدولية. وعلى سبيل المقارنة، بلغت نسب القبول في الفترة نفسها 90% للسوريين، و63% للأفغان، ما يبرز الفارق الجوهري في التقييم.
🇹🇷في ظل التحديات العالمية المتزايدة، تبرز #تركيا كدولة ضامنة للاستقرار، حيث أكد الرئيس رجب طيب #أردوغان أن بلاده قادرة على إنقاذ الاتحاد الأوروبي من أزماته الاقتصادية والدفاعية والسياسية. تعرف على دور أنقرة المحوري في تعزيز أمن #أوروبا. 👇🇹🇷 https://t.co/ZUXu3fwthI
— نون بوست (@NoonPost) March 30, 2025
المفوضية الأوروبية دافعت عن إدراج تركيا، باعتبارها دولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد، وهو ما يُفترض أن يعكس التزامًا مبدئيًا بمعايير سيادة القانون والحريات. وأوضح مسؤول في المفوضية أن لا مبرر قانونيًا لاستبعاد أنقرة من القائمة، باستثناءات محدودة كأن تكون الدولة تحت عقوبات أوروبية، أو إذا تجاوز معدل قبول طلبات لجوء مواطنيها الحدّ المسموح به. حاليًا، تبقى أوكرانيا الدولة المرشحة الوحيدة غير المدرجة، بسبب الحرب.
ويُتوقع أن تكون لهذا القرار تداعيات مباشرة على عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك الذين تقدّموا بطلبات لجوء خلال الأعوام الماضية، معظمهم في ألمانيا وفرنسا واليونان، وبينهم صحفيون ومعارضون سياسيون وأفراد من الأقليات. فمع اعتماد قائمة موحدة على مستوى الاتحاد، لن يتمكن طالبو اللجوء من تركيا من البحث عن “دولة أكثر تساهلًا”، إذ ستلتزم جميع دول الاتحاد بإجراءات موحدة وسريعة تجاه هذه الطلبات.
سياسيًا، قد لا تُبدي أنقرة اعتراضًا على هذا التصنيف، بل من المرجّح أن تعتبره إنجازًا غير مباشر، إذ لطالما اشتكت الحكومة التركية من استضافة عواصم أوروبية لمن تصفهم بـ”الإرهابيين الفارين من العدالة”، في إشارة إلى معارضين أكراد ومنتمين لحركة غولن. والآن، بعد تثبيت أن تركيا بلد “آمن”، ستُقابل طلبات لجوء هؤلاء بالرفض على الأرجح، ما لم تثبت حالتهم الفردية الاستثنائية.
لكن منظمات حقوقية حذّرت من تبعات هذا التصنيف، واعتبرته تجاهلًا متعمدًا للتراجع المستمر في وضع الحريات وحقوق الإنسان داخل تركيا، مقابل الحصول على تعاونها في ضبط حدود الهجرة. واللافت أن الاتحاد الأوروبي كان قد حاول عام 2015 إدراج تركيا ضمن قائمة الدول الآمنة، إلا أن الخلافات السياسية والحقوقية آنذاك أفشلت المسعى. أما اليوم، فإن صعود التيارات المتشددة في العواصم الأوروبية، وتزايد الضغوط على ملف الهجرة، وفّر الأرضية السياسية لتمرير القرار بعد عقد من الجدل.
تركيا كممر للهجرة: هل تتغير قواعد اللعبة الأوروبية؟
لم يكن الموقع الجغرافي لتركيا يومًا عاملًا هامشيًا في خريطة الهجرة الدولية، بل شكّل طوال العقد الماضي محورًا استراتيجيًا في إدارة واحدة من أعقد أزمات اللاجئين التي شهدتها أوروبا.
مجاورتها لسوريا والعراق وإيران، وتمركزها على مفترق الطرق بين آسيا وأوروبا، جعلا منها بوابة طبيعية وممرًا رئيسيًا لطالبي اللجوء. ومع تصاعد موجات النزوح إثر الحرب السورية في 2011 وأزمة المهاجرين الكبرى عام 2015، تحولت تركيا إلى محطة عبور لا غنى عنها للملايين ممن يحلمون بعبور بحر إيجه إلى الضفة الأخرى من المتوسط.
استدرك الاتحاد الأوروبي مبكرًا مركزية الدور التركي، فعُقد “اتفاق مارس 2016” الذي مثّل لحظة مفصلية في علاقة الطرفين. تركيا التزمت حينها بمنع الانطلاق غير النظامي نحو الجزر اليونانية، وإعادة المهاجرين الذين يصلون إلى أراضي الاتحاد من سواحلها، مقابل دعم مالي تجاوز 6 مليارات يورو، وتعهدات أوروبية بمرونة في ملفات الانضمام إلى الاتحاد وإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة شنغن. وبالرغم من الجدل السياسي والحقوقي الذي رافق الاتفاق، نجح فعليًا في تقليص أعداد العابرين إلى مستويات غير مسبوقة.
اليوم، في ضوء الحزمة الجديدة من السياسات الأوروبية، يتّضح أن بروكسل ماضية في تعزيز فكرة “تحصين الحدود من الخارج”. توسعة مفهوم “الدولة الثالثة الآمنة” لتشمل دول العبور – وفي مقدمتها تركيا – تعني فعليًا أن أي طالب لجوء مر عبر الأراضي التركية قد يُمنع من تقديم طلبه داخل الاتحاد بحجة أنه كان بإمكانه طلب الحماية هناك. بمعنى آخر، تُراد لتركيا أن تتحول إلى “منطقة عازلة” تحتجز عندها الموجات البشرية قبل أن تبلغ الضفة الأوروبية.
لتنفيذ هذا التوجه، تُطرح خيارات تشمل توقيع اتفاقات جديدة أو تحديث الترتيبات القائمة، بحيث تُرحّل ملفات طالبي اللجوء إلى تركيا أو تُعالج هناك مباشرة. هذا ما ألمح إليه وزير الهجرة الدنماركي حين تحدث صراحة عن “إمكانية إبرام اتفاقات مع دول آمنة خارج الاتحاد لمعالجة الطلبات على أراضيها”، في تلميح لا يخلو من واقعية سياسية تجاه الدور التركي.
لكن تحويل هذه الرؤية إلى واقع قانوني وتنفيذي يصطدم بعدة عوائق، أولها موافقة أنقرة. فالقانون الدولي لا يجيز إعادة طالبي اللجوء إلى دولة ثالثة إلا إذا كانت مستعدة رسميًا لاستقبالهم وتوفير ضمانات حماية ملائمة لهم. وتجربة السنوات الماضية أظهرت أن تعاون تركيا لم يكن دومًا مضمونًا؛ ففي عام 2020 فتحت أنقرة حدودها مع اليونان كأداة ضغط سياسي، ما كشف هشاشة التفاهمات القائمة. كما أن القضاء اليوناني نفسه أبطل في 2025 تصنيف تركيا كبلد آمن لإعادة اللاجئين، قبل أن تعود أثينا لاحقًا لتؤكد التصنيف متحدّية الحكم، في مؤشر على تباين الرؤى داخل الاتحاد نفسه.
رغم ذلك، تسعى بروكسل حاليًا لتوفير إطار قانوني موحد يُلزم الدول الأعضاء، ويتجاوز التعطيلات الوطنية السابقة، لكن كل ذلك يبقى مرهونًا بإرادة أنقرة وقدرتها على استيعاب مزيد من اللاجئين والمبعدين. خاصة أن اتفاقيات إعادة القبول السابقة جُمدت أو شُلّت خلال السنوات الأخيرة، وتحتاج إلى تفعيل سياسي وعملي جديد.
سيناريوهات المستقبل: بين الشراكة والاشتباك
مع اقتراب دخول التشريعات الأوروبية الجديدة بشأن الهجرة واللجوء حيّز التنفيذ عام 2026، يقف كل من الاتحاد الأوروبي وتركيا عند مفترق طرق حاسم، في لحظة تتشابك فيها الحسابات الجيوسياسية مع ضغوط الداخل والتحديات العابرة للحدود. وبين التفاؤل الحذر والهواجس المتصاعدة، تبرز ثلاثة مسارات محتملة ترسم ملامح العلاقة المقبلة بين الطرفين:
استقرار مقابل مكاسب استراتيجية
في هذا السيناريو، ينجح الجانبان في التوصل إلى اتفاق شامل جديد يعيد هيكلة التعاون في ملف الهجرة، حيث تواصل تركيا دورها الحيوي في ضبط الحدود البحرية والبرية، وتُبدي مرونة أكبر في استقبال طالبي اللجوء المبعدين من أوروبا بناءً على مفهوم “الدولة الثالثة الآمنة”.
في المقابل، يترجم الاتحاد الأوروبي التزامه عبر حزمة دعم مالي ثالثة بمليارات اليوروهات، تعزّز قدرات أنقرة في إدارة ملف اللاجئين. يُضاف إلى ذلك تقدّم ملموس في ملف إعفاء الأتراك من تأشيرة شنغن، وتفعيل مفاوضات تحديث الاتحاد الجمركي، ما يمنح الاقتصاد التركي دفعة نوعية.
هذا السيناريو من شأنه أن يرسّخ استقرار تدفقات الهجرة نحو أوروبا، ويحول تركيا إلى شريك رسمي ومفصلي في إدارة الحدود والملف الإنساني. لكنه يفترض توفر عنصرين نادرين: الثقة المتبادلة، واستعداد أوروبا لكسر الجمود في ملفات سياسية ظلت معلّقة لسنوات، وهما شرطان لا يزالان موضع اختبار.
تعاون هش وتفاهمات ظرفية
هنا، يستمر التعاون التركي–الأوروبي لكن في حدوده الدنيا، وبمنطق الإجراءات لا التفاهمات الكبرى. تُطبّق بروكسل حزمة القوانين الجديدة، بما فيها تسريع رفض طلبات اللجوء من تركيا وتفعيل “آلية التضامن” التي تفرض 20 ألف يورو على كل دولة ترفض استقبال طالب لجوء. وتواصل أنقرة مراقبة حدودها من دون أن تتوسع في التزاماتها، مكتفية بمنع الانفلات لا بإعادة الاستقبال.
النتيجة: وضع مرقّع، يتفادى الانفجار لكنه يفتقر للمعالجة الجذرية. أي أزمة مفاجئة – دبلوماسية أو ميدانية – قد تعيد التصعيد، خصوصًا في حال تغيّرت تركيبة الحكومة التركية أو تصاعدت الضغوط الشعبية المطالِبة بترحيل اللاجئين.
ومع استمرار عوامل الهجرة من مناطق الصراع والفقر، تبقى احتمالات التسلل قائمة، وقد تفرز طرقًا ومسارات جديدة خارج قدرة الضبط. في هذا السيناريو، يُدار الملف بالحدّ الأدنى من الإجماع، لكنه يظل هشًّا وقابلًا للانفجار عند أول منعطف.
حدود بلا اتفاق، وأوروبا على حافة الفوضى
في أسوأ الاحتمالات، تفشل المفاوضات بين الطرفين، وتتعثر أي محاولة لتجديد أو تحديث التفاهمات. قد يُجهض البرلمان الأوروبي أو بعض العواصم المبادرات بحجج تتعلق بالحريات أو التوترات الجيوسياسية، أو ربما تتعرض تركيا نفسها لأزمات داخلية – سياسية أو اقتصادية – تجعل استمرار التعاون مستحيلًا أو غير أولوية. حينها، قد تنسحب أنقرة عمليًا من تعهداتها، وتتوقف عن ضبط الحدود، ما يفتح المجال أمام موجات هجرة جماعية باتجاه أوروبا.
الرد الأوروبي، وفق هذا السيناريو، سيكون مزدوجًا: تشديد عسكري غير مسبوق للحدود باستخدام قوات “فرونتكس” والعوائق المادية، بالتوازي مع مساعٍ حثيثة لعقد اتفاقات بديلة مع دول مثل تونس أو ليبيا أو ألبانيا.
وتعيد هذه المشاهد إلى الذاكرة أزمة عام 2015، لكن في مناخ سياسي أكثر عدائية للمهاجرين، وأكثر تفتتًا داخل البيت الأوروبي. هذا السيناريو لا يستبعد استغلال أطراف دولية لهذا التوتر، ما يُهدد بتدويل الأزمة ويزيد من كلفتها الاستراتيجية على الطرفين.
في الخلاصة، يجد كل من الاتحاد الأوروبي وتركيا نفسيهما أمام اختبار معقد: فبالنسبة لأوروبا، التحدي يتمثل في تحويل خطاب التضامن إلى سياسة موحدة وفاعلة، دون التفريط بمبادئها أو الانزلاق نحو سياسات العزل الجماعي.
أما تركيا، فمطالبة بتحديد تموضعها: هل تواصل أداء دور “الحارس الحدودي” مقابل شراكة حقيقية ومكاسب ملموسة، أم تُعيد ترتيب أولوياتها على وقع التحولات الداخلية والإقليمية؟
العامان المقبلان سيكونان حاسمين، فمع دخول ميثاق الهجرة الجديد حيز التنفيذ، وتبلور ملامح ما بعد الحرب في سوريا، ستتضح طبيعة الأدوار وحدود النفوذ، وسيتبين ما إذا كانت أوروبا قد نجحت في “تحصين” نفسها بالقانون، أم أن جذور أزمة الهجرة لا تزال أعمق من أن تُعالج بجدران ولوائح. وفي كل الحالات، ستبقى تركيا في قلب المعادلة، بين أن تكون شريكًا استراتيجيًا، أو عقدة صراع جديدة على تخوم القارة.