مع اقتراب شمس عام 2025 من المغيب، تجد الجغرافيا السياسية السورية نفسها أمام واحد من أخطر منعطفاتها منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024.
فبينما كانت الآمال معقودة على أن يشكل “اتفاق 10 مارس/آذار 2025” بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) خريطة طريق لإنهاء حالة التشظي العسكري والانقسام الجغرافي، صدرت تحذيرات تركية لتقرع جرس الإنذار من جديد.
وبلهجة غير مسبوقة، حذر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 18 ديسمبر 2025، من أن “صبر الأطراف المعنية ينفد”، متهمًا قسد بالمماطلة والرهان على متغيرات إقليمية، في إشارة واضحة للدور الإسرائيلي المتصاعد في الجنوب السوري.
فما بنود اتفاق مارس ولماذا تواصل “قسد” المماطلة، وما خيارات سوريا وتركيا لمعالجة هذا الملف، وأبرز السيناريوهات المرتقبة لحله خلال عام 2026؟
اتفاق 10 مارس.. النصوص والخلافات
يُعد اتفاق 10 مارس الوثيقة التأسيسية للعلاقة بين الدولة الجديدة برئاسة الرئيس أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية بزعامة مظلوم عبدي، حيث وقعه الطرفان بهدف تعزيز وحدة البلاد واستقرارها، وتنتهي الفرصة الممنوحة لتنفيذه بانقضاء العام 2025.
إلا أن هذا الاتفاق الذي يقوم على مبدأ “الاندماج مقابل الشراكة”، تحول إلى ساحة ألغام سياسية وعسكرية بسبب رفض “قسد” تنفيذ بنوده والمراوغة في تفسيرها.
وبناءً على التسريبات ومحاضر الاجتماعات، يمكن تفكيك بنود الاتفاق ومواطن الخلاف الجوهرية في الجدول التحليلي التالي، الذي يوضح الهوة الشاسعة بين “التفسير المركزي” لدمشق وأنقرة، و”التفسير اللامركزي” لـ”قسد”:
|
المحور |
نص الاتفاق (الإطار العام) |
تفسير دمشق |
تفسير قسد |
حالة التنفيذ |
|
الهيكلية العسكرية |
دمج قوات قسد في الجيش | الذوبان الفردي: تفكيك قسد كوحدات، وتجنيد المقاتلين كأفراد وتوزيعهم على قطع الجيش لمنع تشكيل كتل متمردة | الاندماج الفيلقي: انضمام قسد ككتلة واحدة (فيلق مستقل) بقيادة خاصة، مع الحفاظ على تراتبيتها الداخلية وسلاحها | تعثر تام: قسد ترفض التفكيك، ودمشق ترفض “جيشين في دولة واحدة” |
|
الموارد الاقتصادية |
تسليم حقول النفط والغاز والمعابر للدولة |
السيادة المركزية: وزارة النفط بدمشق تدير الآبار والمعابر، وتصب العائدات في الخزينة المركزية وتوزع عبر الموازنة |
الإدارة المشتركة: بقاء الموارد تحت إدارة محلية فنية مع تحويل جزء من العائدات لدمشق مقابل موازنة تشغيلية لقسد |
جمود: قسد تستخدم النفط كورقة ضغط تفاوضية |
|
الانتشار الأمني |
بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي |
دخول الجيش إلى كافة المدن (القامشلي، الحسكة، الرقة)، ورفع العلم السوري فقط |
انتشار الجيش على الحدود الخارجية فقط، مع بقاء الأمن الداخلي لقسد (الأسايش) مسؤولًا عن المدن |
انتشار رمزي محدود جدًا للجيش لم يغير الواقع الأمني |
| نظام الحكم | ضمان حقوق جميع المكونات | الإدارة المحلية: تطبيق قانون الإدارة المحلية (اللامركزية الإدارية) ضمن دولة مركزية قوية | الفيدرالية/اللامركزية السياسية: الاعتراف بالإدارة الذاتية ككيان دستوري بصلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة |
خلاف دستوري عميق يعطل المسار السياسي |
“العرض الأخير”.. ورقة الـ 13 بندًا
في محاولة لكسر الجمود قبل انقضاء مهلة 31 ديسمبر، كشفت رويترز عن تقديم دمشق عرضًا نهائيًا يتضمن 13 بندًا، وُصف بأنه “الفرصة الأخيرة”.
يتضمن هذا العرض تنازلًا تكتيكيًا من دمشق بقبول دمج قسد في ثلاث فرق عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، لكنه يشترط في المقابل:
- السماح لفرق أخرى من الجيش السوري (غير الكردية) بالانتشار داخل مناطق شرق الفرات.
- تبعية قادة هذه الفرق الثلاثة مباشرة لوزير الدفاع في دمشق، مع صلاحية نقله وعزله للقادة.
- التسليم الفوري والكامل للمعابر الحدودية مع العراق وتركيا.
“قسد”.. أبرز عوامل المماطلة
رغم التهديدات الوجودية، تسير “قسد” ببطء شديد نحو تنفيذ التزاماتها، أو ما وصفه هاكان فيدان بـ “المماطلة وشراء الوقت” منطلقة من عدة عوامل:
1- ورقة تنظيم الدولة: تستخدم “قسد” هذه الورقة ببراعة لتأخير الاندماج، فكلما تصاعد الضغط السوري الرسمي أو التركي، تلوح بأن أي زعزعة لهيكليتها ستؤدي إلى فلتان أمني وعودة التنظيم، أو انفلات آلاف المعتقلين من سجونها. وحذر فيدان من أن هذا التكتيك بات مكشوفًا ومستهلكًا.
2- إستراتيجية “الغموض الأمريكي”: رغم رفع العقوبات عن دمشق، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقوات في شرق سوريا، كما يتسم موقفها بالازدواجية التي تغذي المماطلة، فمن جهة يدفع المبعوث الأمريكي توم باراك نحو دمج “قسد” في الدولة السورية لضمان الاستقرار ومنع عودة تنظيم الدولة، ومن جهة أخرى، تقدم واشنطن تطمينات بأنها لن تسمح بعملية عسكرية تركية ساحقة ضدها ما يدفعها للتصلب في مواقفها.
3- الدور الإسرائيلي: أخطر ما في تصريحات فيدان هو الربط العضوي بين تعنت “قسد” والتحركات الإسرائيلية، والتي ألمح فيها إلى أن “تل أبيب” مخرب صامت في المعادلة السورية وأن قوات سوريا الديمقراطية تتلقى “إشارات مختلفة” من “تل أبيب” تشجعها على عدم الاندماج، حيث تلتقي مصالح الطرفين في إضعاف الدولة وتقسيم البلاد (كانتون درزي في الجنوب، وكردي في الشمال)، مما يمنع نهوض دولة قوية حليفة لتركيا.

موقف تركيا والدولة السورية
بالنسبة لأنقرة، لا تقتصر المسألة على مجرد ترتيبات حدودية، بل هي قضية أمن قومي وجودية، إذ ترى تركيا في انهيار نظام بشار الأسد وتولي إدارة الشرع “فرصة تاريخية” لإنهاء الكابوس الكردي المسلح على حدودها الجنوبية بشكل نهائي.
وبدوره، يواجه الرئيس أحمد الشرع اختبارًا صعبًا لقيادته، فهو يحتاج لاستعادة “الشمال الشرقي” لسببين: الشرعية (توحيد البلاد) والاقتصاد (النفط والقمح)، لكنه يسير على حبل مشدود بين حليفه التركي، وراعيته الدولية الجديدة (الولايات المتحدة)، وعدوه المتربص (إسرائيل).
ويتبنى الشرع سياسة مركبة تجاه “قسد” عبر:
1- الاحتواء والضغط
- الاحتواء: عبر تقديم عروض الدمج (مقترح الـ 13 بندًا) والاعتراف بالحقوق، مستغلًا الغطاء الأمريكي الذي يشجع على الحل السلمي.
- الضغط: عبر التنسيق الأمني مع تركيا، والتلويح باستخدام القوة العسكرية لاستعادة السيادة إذا فشلت الدبلوماسية.
2- ورقة العشائر
يدرك الشرع أن نقطة ضعف “قسد” هي المكون العربي في مناطق سيطرتها (دير الزور والرقة). لذا، تعمل دمشق بنشاط على استمالة العشائر العربية، وفتح قنوات تواصل مباشرة مع “مجلس دير الزور العسكري” وقوات “الصناديد” (قبيلة شمر)، عارضة عليهم الاندماج المباشر في الجيش السوري بمعزل عن قيادة قسد.
هذه الاستراتيجية تهدف إلى تفكيك “قسد” من الداخل وسحب البساط العشائري من تحت أقدامها، مما يجعل قوات سوريا الديمقراطية معزولة جغرافيًا وديمغرافيًا.
سيناريوهات 2026
بناءً على تحليل المعطيات المتشابكة (الإنذار التركي، الاجتياح الإسرائيلي، المماطلة الكردية، والواقعية السورية)، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل هذا الملف في العام 2026:
1- “الإذعان التكتيكي” (الاندماج المشروط)
- المسار: تحت وطأة التهديد التركي الجدي والضغط الأمريكي، تقبل قيادة “قسد” صيغة معدلة لاتفاق 10 مارس.
- الشكل: يتم دمج قوات قسد في الجيش، مع احتفاظها ببعض الخصوصية المناطقية ولكن تحت إمرة دمشق العملياتية، وتتسلم دمشق المعابر والنفط، وتنسحب تركيا من التهديد المباشر.
- المحفز: حاجة الشرع للموارد، وحاجة “قسد” للحماية من الاندثار، ورغبة واشنطن في دمشق مستقرة.
2- “الجراحة العسكرية” (التصعيد المحدود)
- المسار: ترفض قسد التنازلات الجوهرية، وتشن تركيا عملية جوية وبرية محدودة في مناطق محددة مثل تل رفعت ومنبج لكسر شوكتها، بالتزامن مع تحرك عشائري مدعوم من دمشق في دير الزور.
- الشكل: خسارة “قسد” لمناطق حيوية، مما يجبرها لاحقًا على العودة لطاولة المفاوضات بشروط “المهزوم” وليس “الشريك”.
- المحفز: تقارير تركية تفيد بأن دمشق قد تشن عملية عسكرية وتدعمها أنقرة إذا انتهت المهلة دون اتفاق.
3- “حرب الوكالة الكبرى” (الفوضى الشاملة)
- المسار: تدفع “إسرائيل” الأمور نحو الانفجار بالتحرك نحو اجتياح مناطق أوسع في الجنوب، مشجعة “قسد” على التمرد الشامل، وترد تركيا باجتياح واسع، وتدخل دمشق على الخط لاستعادة الأراضي.
- الشكل: تحول سوريا إلى ساحة حرب إقليمية مفتوحة، انهيار العملية السياسية، وعودة التنظيمات المتطرفة (داعش) مستفيدة من الفوضى الأمنية. هذا السيناريو هو الكابوس الذي تحاول واشنطن منعه بكل ثقلها.
- المحفز: تحذيرات فيدان المتكررة من أن “قسد” تراهن على “أزمات إقليمية أخرى” (في إشارة للتحركات الإسرائيلية) للتهرب من التزاماتها.
ويبقى العامل الإسرائيلي هو المتغير الأخطر والأكثر غموضًا، خاصة أن قدرة الدولة السورية الجديدة على تحييده أو التعامل معه ستحدد ليس فقط مصير “قسد”، بل مصير وحدة الأراضي السورية ككل في عام 2026.