ترجمة وتحرير: نون بوست
باتت الصهيونية اليوم شكلا محدثًا من معاداة السامية! فهي تحظى بترحيب من الحكومة الإسرائيلية ومن الصهاينة في كل مكان باعتبارها مكسبًا للدولة اليهودية المعلنة. وعلى النقيض، فإن معاداة الصهيونية، التي تبناها معظم اليهود وغير اليهود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وما زال يتبناها كثير من اليهود وغير اليهود اليساريين منذ ذلك الحين، تُصوَّر من قبل الصهاينة على أنها تجسيد لمعاداة السامية.
في الواقع، أي موقف ينتقد إسرائيل أو الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، أو حتى يدعم بشكل معتدل الحقوق الفلسطينية المعترف بها دوليًا، يُعتبر اليوم معاداة السامية. لكن عقب مجزرة الأحد في سيدني، التي أودت بحياة ما لا يقل عن 15 شخصًا خلال احتفال بعيد الحانوكا على شاطئ بوندي، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باللوم على نظيره الأسترالي أنتوني ألبانيز في حمام الدم، مستشهدًا بقرار حكومته الاعتراف بدولة فلسطينية غير موجودة في سبتمبر/ أيلول الماضي.
بدلًا من أن يُحمِّل نفسه وحكومته المسؤولية عن تصاعد معاداة السامية عالميًا – إذ إنهم يصوّرون جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين على أنها دفاع عن اليهود في كل أنحاء العالم، وليس كأفعال تهدف إلى حماية الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي – يُصر نتنياهو على أن الاعتراف بدولة فلسطينية “يصب الزيت على نار معاداة السامية… ويشجع أولئك الذين يهددون اليهود الأستراليين ويغذي كراهية اليهود التي تجوب شوارعكم الآن”.
بما أن إسرائيل تدّعي سلطة على اليهود في كل مكان، على الرغم من أنها لم تُنتخب يومًا لتمثلهم أو تتحدث باسمهم، فإن معادي السامية يقبلون هذا الادعاء ويهاجمون اليهود غير الإسرائيليين باعتبارهم متواطئين في جرائم تتحمل الحكومة الإسرائيلية وحدها مسؤوليتها. أما معظم مناهضي الصهيونية، فيرفضون ادعاء إسرائيل تمثيل جميع اليهود. ويؤكدون أن إسرائيل لا تتحدث باسم اليهود كجماعة، وأن جرائمها وإنجازاتها تمثلها هي وحكومتها، لا الشعب اليهودي. وهذا بالضبط هو الفارق الذي يسعى الخطاب المؤيد للصهيونية إلى إخفائه.
الغضب الانتقائي
عندما يحتفي الصهاينة بالغارات الإسرائيلية وجرائم الحرب باعتبارها “إنجازات يهودية”، تهلل لهم إسرائيل ومؤيدوها. ولكن حين يدين مناهضو الصهيونية تلك الغارات والجرائم نفسها بوصفها أفعالًا صادرة عن الحكومة الإسرائيلية، ولا تمثل الشعب اليهودي، فإن إسرائيل وأنصارها من الصهاينة يصفونهم بـ”معادي السامية”.
يتضح التطبيق الانتقائي لهذه التهمة في الإدانات الأخيرة لشخصيات يمينية مثل تاكر كارلسون وكانديس أوينز، اللذين كانت مواقفهما السابقة المؤيدة لإسرائيل يُحتفى بها باعتبارها شكلًا من أشكال “الفيلوسامية” (تمجيد اليهودية). لكن تحوّلهما اللاحق إلى إدانة إبادة إسرائيل في غزة وُصف بأنه “معاداة للسامية”. ومهما كانت وجاهة هذه الاتهامات أو ضعفها، فإن الحقيقة تبقى أن كارلسون وأوينز لم يغيّرا جذريًا مواقفهما تجاه اليهود، بل ما تغيّر هو موقفهما من إسرائيل.
وبالمثل، فإن معاداة السامية الفعلية التي يعبّر عنها أولئك المتمسكون بالصهيونية لا يُتسامح معها فحسب، بل يتم التواطؤ معها بشكل فعّال. وعلى الرغم من سجل رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب الحافل من التصريحات التي أُدينت على نطاق واسع باعتبارها معادية للسامية، إلا أنه لا يزال يحظى بتقدير القيادة الإسرائيلية وأقوى أنصارها. وقد تم الترحيب به في البرلمان الإسرائيلي باعتباره “عملاقًا”، و”شخصية كبرى في التاريخ اليهودي”، و”الزعيم الأكثر استحقاقًا لجائزة نوبل للسلام في التاريخ”.
وربما لا يوجد مثال أوضح على كيفية تجاهل معاداة السامية حين تتوافق مع إسرائيل من تهنئة نتنياهو العلنية لرئيس تشيلي المنتخب حديثًا، اليميني المتطرف والمؤيد لإسرائيل، خوسيه أنطونيو كاست، المعجب بدكتاتورية بينوشيه وابن مسؤول نازي سابق هرب إلى أمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية.
جذور الصهيونية
بغض النظر عن مدى كشف الحجج المعادية لليهود التي شكّلت أساس الصهيونية البروتستانتية منذ القرن السادس عشر، والصهيونية اليهودية منذ القرن التاسع عشر، إلى جانب التحالفات والتعاون الذي عززته المنظمة الصهيونية مع معادي السامية منذ تأسيسها عام 1897، لا يمل الصهاينة من الادعاء الكاذب بأن معاداة الصهيونية، وليست الصهيونية نفسها، هي التي تحركها معاداة السامية.
وفي حين أن معظم مناهضي الصهيونية، من اليهود وغير اليهود على حد سواء، مدفوعون تاريخيًا بمناهضة الاستعمار ودعم الديمقراطية والمعتقدات اليهودية الأرثوذكسية الراسخة، فإن بعض مناهضي الصهيونية قد تبنّوا بالفعل معاداة السامية. مع ذلك، يبقى الأمر صحيحًا بشكل لا لبس فيه اليوم، كما كان طوال تاريخ الصهيونية البروتستانتية واليهودية، أن المروّجين الرئيسيين للأيديولوجيا المؤيدة للصهيونية – بخلاف أنصار معاداة الصهيونية – كانوا دائمًا من معادي السامية. وقد وُجّهت إلى تيودور هرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية، اتهامات بمعاداة السامية قبل تأسيسه لها في نهاية القرن التاسع عشر. ومعاداته للسامية ليست محل خلاف في الدراسات الأكاديمية الجادة، باستثناء الأيديولوجيين المؤيدين للصهيونية.
أوضح هرتزل نفسه في كتيّبه الصادر عام 1896 بعنوان “الدولة اليهودية” أن المشروع الصهيوني يشترك مع معادي السامية في الرغبة في إفراغ أوروبا من يهودها وإرسالهم إلى إقليم استعماري خارجها. ووصف اليهود بمصطلحات معادية للسامية صريحة باعتبارهم “شعبًا برجوازيًا“، وأصرّ على ألّا تكون العبرية لغة “دولة اليهود”، ولا اليديشية التي سخر منها باعتبارها “لغة الغيتو ولهجة بائسة ومتخلفة”، أو “ألسنة السجناء الخفية”. وكان يفضّل اللغة الألمانية. وفي يومياته كتب هرتزل أن معاداة السامية أكثر من كونها مفهومة، فهي “مفيدة” و”نافعة للطابع اليهودي”، وتشكّل “تعليمًا لجماعة على يد الجماهير”. وأضاف أنه من خلال “الضربات القاسية” سيظهر “تقليد دارويني”.
تعرضت أعمال هرتزل المسرحية، التي كتبها قبل تأسيس المنظمة الصهيونية، لانتقادات من قبل معاصريه اليهود بسبب تصويرها لليهود على أنهم مسيحيون. كما أنه استخدم في كثير من الأحيان أوصافًا معادية للسامية، حيث وصف منتقديه اليهود بـ”الآفات اليهودية” أو “الماوشيل اليهودية“. وقد أعلن هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية” تصريحًا شهيرًا مفاده أن “حكومات جميع الدول التي تعاني من معاداة السامية ستكون مهتمة بشدة بمساعدتنا على نيل السيادة التي نريدها”.
وكتب في يومياته لاحقًا: “سيصبح المعادون للسامية أصدقاءنا الأكثر قربًا، والدول المعادية للسامية حلفاءنا”. ولهذا السبب، وصف لوسيان وولف، المحامي اليهودي البريطاني المدافع عن الحقوق المدنية لليهود، الصهيونية منذ عام 1904 بأنها ليست ردًا على معاداة السامية، كما صوّرها بعض أنصارها، بل “الحليف الطبيعي والدائم لمعاداة السامية وأقوى مبرر لها”. وإذا كان الحكم على هرتزل بأنه معادٍ للسامية يُعتبر “متحيزًا” استنادًا إلى هذا السجل، فلا شك أن من يصدرون مثل هذا الحكم يعملون وفق تعريف لمعاداة السامية يختلف تمامًا عن ذلك الذي يستخدمه معظم الباحثين.
معاداة السامية المقبولة
على عكس رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، الذي لم يُتَّهم يومًا بإطلاق تصريحات معادية لليهود، فإن الرئيس الأمريكي يطلقها باستمرار، في انعكاس لتقليد طويل من معاداة السامية المؤيدة للصهيونية.
وقد تم تجاهل إدانة ترامب في يوليو/ تموز الماضي للمصرفيين عديمي الضمير بوصفهم “شايلوك وأناسا سيئين” باعتبارها زلة لسان ناجمة عن جهله المزعوم بالطبيعة المعادية للسامية للإشارة إلى شخصية شايلوك في مسرحية شكسبير. ولم تكن هذه زلة معزولة من الرجل الذي يصف نفسه بأنه “أقل شخص معادٍ للسامية قد تراه في حياتك كلها”.
وفي كلمة ألقاها عام 2019 أمام المجلس الإسرائيلي الأمريكي في فلوريدا أمام “قاعة مليئة باليهود”، اشتكى ترامب من اليهود الأمريكيين الذين “لا يحبون إسرائيل بما يكفي”، مضيفًا: “الكثير منكم يعمل في مجال العقارات، لأنني أعرفكم جيدًا. أنتم قتلة شرسون، لستم أناسًا طيبين على الإطلاق… لكن عليكم أن تصوتوا لي – ليس أمامكم خيار آخر”.
أُصيبت الجماعات اليهودية بالذهول من تصريحاته المعادية للسامية. علاوة على ذلك، عندما قال ترامب لليهود الأمريكيين في حفل حانوكا بالبيت الأبيض في ديسمبر/كانون الأول 2018 إن نائبه يكنّ محبة كبيرة لـ”بلدكم”، أي إسرائيل، لم تعترض الأخيرة. ولم تعترض أيضًا حين قال ترامب لمجموعة من اليهود الأمريكيين في عام 2019 إن نتنياهو هو “رئيس وزرائكم”. وكان هتاف القوميين البيض المؤيدين لترامب في مسيرة شارلوتسفيل عام 2017 هو: “اليهود لن يحلّوا محلنا”. وقد دافع ترامب عن المسيرة بشكل مشين، معلنًا أن هناك “أناسًا طيبين جدًا على الجانبين”. وكان أحد القوميين البيض المعادين للسامية هو من هاجم كنيسًا يهوديًا في بيتسبرغ عام 2018، وقتل 11 يهوديًا.
وبينما حمّل أعضاء من الجالية اليهودية في بيتسبرغ ترامب مسؤولية نشر الكراهية واعترضوا على أن زيارته المزمعة لمدينتهم ستزيدالتوترات اشتعالًا، لم يوجّه نتنياهو أي اتهامات مماثلة للرئيس. وعلى خلاف ألبانيز، الذي جرى نزع الشرعية عن موقف حكومته المؤيد لإسرائيل على نطاق واسع بسبب اعترافها بدولة فلسطينية مستقبلية تُدار عبر متعاونين مع السلطة الفلسطينية، يُنظر إلى ترامب باعتباره أقوى داعم لإسرائيل عالميًا، وبالطبع – وفقًا لتوصيفه هو – “أقل شخص معادٍ للسامية في العالم”.
العنصرية المعادية لليهود
لم يتردد نتنياهو، شأنه شأن قادة الصهيونية منذ هرتزل، في التحالف مع معادين حقيقيين للسامية، ما داموا مؤيدين بقوة لإسرائيل. ومن اللافت أنه عندما اعتمد الاتحاد الأوروبي في عام 2016 التعريف العملي لمعاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، والذي تضمّن “مظاهر… تستهدف دولة إسرائيل باعتبارها جماعة يهودية”، ودمج فعليًا المواقف المناهضة للصهيونية وانتقاد إسرائيل ضمن تعريفه، كان ذلك بدفع قوي من الحكومة النمساوية اليمينية – التي ضمّت أعضاء من حزب نازي جديد.
في المجر، ذهب نتنياهو إلى حد توبيخ سفير إسرائيل في بودابست بسبب إصداره بيانًا أعرب فيه عن قلق طفيف إزاء عنصرية رئيس الوزراء فيكتور أوربان المعادية لليهود. وبناءً على أوامر نتنياهو، سحبت وزارة الخارجية الإسرائيلية البيان على الفور. أما أوربان، فقد رفض لاحقًا اعتقال نتنياهو، المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، خلال زيارته الأخيرة إلى المجر.
وفي أوكرانيا، قامت إسرائيل بتسليح ودعم ميليشيات نازية جديدة، أبرزها كتيبة آزوف. وقد صرّح قائدها، أندري بيليتسكي، عام 2010 بأن “المهمة التاريخية لأمتنا… هي قيادة الأعراق البيضاء في العالم في حملة صليبية نهائية من أجل بقائها. حملة ضد الأجناس الدنيا التي يقودها الساميون”. وفي ألمانيا، أثار صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، الذي يتصدر استطلاعات الرأي حاليًا، قلقالجالية اليهودية في البلاد. وقد اتهمه النقاد بالترويج لأفكار نازية جديدة، واصفين إياه بأنه “ملاذ للمعادين للسامية والمتطرفين اليمينيين”. وفي الوقت نفسه، يدعم الحزب إسرائيل بقوة.
وقالت نائبه، بياتريس فون ستورش، حفيدة آخر وزير مالية لهتلر، في مقابلة مع تقرير القدس عام 2017 إن “إسرائيل يمكن أن تكون نموذجًا يُحتذى به لألمانيا” باعتبارها دولة “تبذل جهودًا للحفاظ على ثقافتها وتقاليدها الفريدة”. ويعكس هذا الإعجاب خطاب الديماغوجي الأمريكي النازي الجديد ريتشارد سبنسر، الذي وصف مهمته بأنها “نوع من الصهيونية البيضاء”، مضيفًا أن إسرائيل “هي الدولة الإثنية الأهم وربما الأكثر ثورية، وهي التي ألجأ إليها للحصول على التوجيه”. ولم يُدن القادة الإسرائيليون مثل هذه التصريحات قط.
إلقاء اللوم على الآخرين
تبنّي الخطاب الصهيوني المستمر للحجج المعادية لليهود، بما يكرر مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1948 ويخلط بين إسرائيل واليهود، هو تحرك مؤسف معاد للسامية. فمن خلال تصوير إسرائيل على أنها الممثل لجميع اليهود، يتم تحويل مسؤولية جرائم الدولة الإسرائيلية إلى الشعب اليهودي بأسره.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، يبدو أن المسؤولية عن الهجوم الدموي في سيدني تقع على عاتق مؤيدي تنظيم الدولة – وهو تنظيم إرهابي محظور استهدف وقتل المسلمين على نحو واسع. وقد تم تحديد هوية المنفذين بأنهما مواطن هندي وابنه الأسترالي.
بدا أن نتنياهو غير مدرك أن الرجل الذي نزع سلاح أحد المهاجمين وأنقذ حياة العديد من اليهود بينما أصيب بعدة طلقات أثناء فعل ذلك سوري مسلم أسترالي يُدعى أحمد الأحمد، الذي وصف نتنياهو فعله بأنه مثال على “البطولة اليهودية“.
في نظر نتنياهو، فإن رجلاً سوريًا تُقصف بلاده يوميًا تقريبًا من قبل إسرائيل، ما يؤدي إلى مقتل العديد من المدنيين السوريين، بينهم أطفال، وسرقة أراضيهم، سيكون مرشحًا غير محتمل لـ”البطولة اليهودية”.
وتمييز أحمد الواضح بين اليهود الأستراليين والحكومة الإسرائيلية هو الأمر الوحيد الذي يعجز نتنياهو عن فهمه.
ولهذا السبب حمّل رئيسَ وزراء أستراليا المسؤولية، رغم أنه – على عكس كوكبة القادة الصهاينة المسيحيين واليهود، وعلى عكس من يصف نفسه بأنه “أقل شخص معادٍ للسامية قد تراه في حياتك” – لم يُعرف عنه، بحسب التقارير، أنه أدلى في أي وقت من حياته بتصريح معادٍ لليهود.
المصدر: ميدل إيست آي