يمثل كتاب «الدروع البشرية: تاريخ من الناس في خط النار» (Human Shields: A History of People in the Line of Fire) للباحثين نيف غوردون ونيكولا بيروجيني، والذي صدر عن المركز العربي للأبحاث بترجمة محمود الحارثي، قفزة نوعية في فهم الكيفية التي يتم بها توظيف الأجساد البشرية في النزاعات المسلحة، ليس فقط كأدوات مادية للردع، بل كشخصيات قانونية وأخلاقية تُشكل جوهر قوانين الحرب الحديثة. ينطلق هذا العمل من فرضية مركزية مفادها أن “الدرع البشري” ليس مجرد تكتيك عسكري هامشي، بل هو “سيزموغراف” (مقياس زلازل) دقيق يسجل القيمة الأخلاقية والقانونية والسياسية المنسوبة لمجموعات معينة من البشر في لحظات جغرافية وتاريخية مختلفة.
عبر تتبع تاريخي يمتد لأكثر من مائة وخمسين عاما، يكشف المؤلفان كيف تحول “الضعف البشري” من كونه عائقا أمام العنف إلى سلاح يُستخدم لتبريره، وكيف أصبح المدنيون المحاصرون في مناطق النزاع أكثر عرضة للخطر نتيجة لـ “أنسنة” العنف القانوني. في سياق حرب الإبادة الحالية في غزة، يكتسب الكتاب أهمية استثنائية، حيث تُستلهم مفاهيمه لتفكيك الخطاب الذي يحول مجتمعا بأكمله إلى “درع بشري” لشرعنة محوه في إطار قانوني دولي.
سياسات الضعف وتراتبية البشرية
بدايةً، يقدم غوردون وبيروجيني إطارا نظريا يعيد تعريف “الإنسانية” بوصفها مقولة سياسية متغيرة وليست قيمة عالمية محايدة كما يُروج لها في الخطابات الحقوقية التقليدية، إذ يجادل المؤلفان بأن فعالية الدرع البشري تعتمد كليا على اعتراف الطرف المهاجم بإنسانية هذا الدرع؛ فلكي يعمل الجسد البشري كحاجز فعال ضد الرصاص أو القذائف، يجب أن يمتلك قيمة أخلاقية تدفع المهاجم للتوقف، وهذا ما يسميانه “سياسات الضعف”، حيث يتم تسليح الهشاشة الجسدية لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية. ومع ذلك، فإن التاريخ يُظهر أن البشرية ليست موزعة بالتساوي؛ فالأجساد المستعمَرة أو الملونة غالبا ما تُستثنى من هذه الحماية، ما يحولها في نظر الجيوش القوية إلى مجرد “أشياء” أو “عقبات” مادية لا يجب الاعتبار لها.
أما في ما يخص ظاهرة التترس البشري، فهي ترتكز على مفاهيم أساسية تتداخل لتشكل واقع المدنيين في الحروب؛ أولها التترس الإجباري الذي يتمثل في إكراه المدنيين أو الأسرى على حماية هدف عسكري تحت تهديد السلاح، وهو فعل يفترض في الضحية السلبية المطلقة. أما النوع الثاني، وهو التترس الطوعي، فيشمل المدنيين الذين يختارون بوعي وضع أجسادهم كـ “جدار حي” ضد الحرب نفسها، وهو ما يطلق عليه المؤلفان “سلاح السلام”.
هذا النوع يتحدى منطق الحرب ويجعل الممارسين له عرضة للتصنيف كـ “مقاتلين غير شرعيين” بسبب فقدانهم صفة السلبية القانونية التقليدية. وفي الحروب الحضرية المعاصرة، برز مفهوم التترس المكاني (Proximate Shielding)، حيث يُصنف المدنيون كدروع لمجرد وجودهم في فضاءاتهم الخاصة القريبة من أهداف عسكرية، دون أن يفعلوا شيئا أو يُكرهوا على شيء. ومن خلال هذه الديناميكية، يتحول الجسد البشري من كائن حي إلى “بيانات قانونية” و”كائن ليمينالي” (برزخي) يعيش في المنطقة الرمادية بين المدني والمقاتل، ما يوفر للجيوش القوية مساحة لتبرير القتل عبر اتهام الخصم بخرق القواعد.
المسح التاريخي: مائة وخمسون عاماً من الأجساد في خط النار
يمتد السرد التاريخي في الكتاب ليغطي ممارسات الدروع البشرية عبر قارات وصراعات متعددة، مبينا أن هذه الظاهرة جزء أصيل من تطور “أنسنة” العنف، حيث يبدأ المؤلفان من الحرب الأهلية الأمريكية (1863) بظهور “مدونة ليبر” التي نظمت التعامل مع المدنيين كعناصر في الحسابات العسكرية، حيث يلاحظ المؤلفان أن “النساء والأطفال” لم يكونوا أبطالا في اتهامات التترس آنذاك كما هم اليوم. وتطور الأمر في الحرب الفرانكو-بروسية (1871) عبر استخدام الجيش الألماني للوجهاء الفرنسيين كدروع في القطارات العسكرية لردع هجمات المقاومة الشعبية (الفرنك-تيرور).
وفي أوائل الثلاثينيات، ظهر مفهوم “جيش السلام” خلال الحرب الصينية اليابانية، حيث اقترحت ناشطات سلام غربيات تشكيل وحدات من المتطوعين العزل للوقوف بين المتحاربين كحواجز أخلاقية. ومع ذلك، شهدت نفس الحقبة خلال الغزو الإيطالي لإثيوبيا استهداف مرافق الصليب الأحمر بحجة تترس القوات خلف الشعار الإنساني، وهو ما كشف عن جذور عنصرية في تقييم من يستحق الحماية.
View this post on Instagram
وأيضا، يمثل عقد الستينيات إبان حرب فيتنام نقطة تحول كبرى؛ حيث واجهت الولايات المتحدة صعوبة في التمييز بين المقاتل والمدني في سياق “حروب التحرير الشعبية” التي وصفتها الدعاية الأمريكية بأن المقاتلين فيها مثل “السمك في الماء”. هنا، بدأ الخطاب العسكري الغربي في تصوير مجتمعات بأكملها كـ “دروع بشرية” لشرعنة القصف الشامل للمناطق المأهولة بالنابالم والكيماوي. وأخيرا، شهد غزو العراق عام 2003 بروز حركات “الدروع البشرية الطوعية” الدولية التي انتقلت من لندن إلى بغداد في محاولة لمنع القصف الجوي الغربي.
القانون الدولي وأنسنة العنف: “التفكير المزدوج”
أيضا، يتناول الكتاب بالنقد الجذري والحاد “القانون الدولي الإنساني” (IHL)، واصفا إياه بأنه لا يهدف دائما لحماية الضحايا بقدر ما يهدف إلى “تنظيم القتل” وجعله مقبولا أخلاقيا عبر ممارسات “التفكير المزدوج”، فيجادل المؤلفان بأن قوانين الحرب توفر “مجموعة أدوات” للجيوش القوية لتبرير المجازر عبر التلاعب بمصطلحات “التمييز” و”التناسب”. كما يبرز مفهوم “المدني السلبي” كحجر زاوية في اتفاقيات جنيف لعام 1949، حيث يتم تجريد الشعوب تحت الاحتلال من حق المقاومة؛ فبمجرد رفض إخلاء المنزل، يُصنف الفرد كـ “درع طوعي” يفقد حمايته.
ويتجلى ذلك بوضوح في سياسة “تدمير المستشفيات”؛ فبموجب المادة 19 من اتفاقية جنيف الرابعة، تفقد المستشفيات حمايتها إذا استُخدمت “لأعمال ضارة بالعدو”. وتعكس الإحصائيات المروعة لعام 2016 كيف تم استغلال هذه الثغرة؛ حيث هوجمت المستشفيات في سوريا 108 مرات، وفي أفغانستان 119 هجمة، وفي اليمن 93 هجمة، بذريعة تترس المقاتلين خلف الطواقم الطبية، وعبر هذا التاريخ الطويل، يخلص المؤلفان إلى أن الحل الوحيد هو “حظر مطلق” لقصف المستشفيات كحظر التعذيب، لإغلاق ثغرة “التترس” للأبد.
كذلك، يتوسع الكتاب في تحليل التجليات المعاصرة للدروع البشرية في الفضاء الافتراضي والتقني، إذ يرون أن “حرب المعلومات” تستخدم “الدرع البشري” كصورة فيروسية تهدف إلى تجريد الضحية من إنسانيتها. وفي “ألعاب الكمبيوتر”، يتم تدريب اللاعبين على التعامل مع المدنيين كـ “عقبات” يجب تجاوزها للوصول إلى الهدف، ما يساهم في بناء ثقافة عالمية تُطبع مع فكرة التخلص من “الدروع”. هذا التوجه يمهد الطريق لـ “التترس ما بعد الإنساني”، حيث يتم تصنيف البشر عبر خوارزميات الطائرات بدون طيار كـ “أعداء قُتلوا في المعركة” لمجرد وجودهم في منطقة جغرافية معينة، محولين الإنسان إلى مجرد إشارة إلكترونية أو بيانات رقمية بلا روح.
الحالة الفلسطينية: غزة كمختبر عالمي لـ “التترس الإبادي”
في صلب اهتمام غوردون وبيروجيني تبرز القضية الفلسطينية بوصفها المختبر الأوضح لتطوّر تكتيكات الدروع البشرية، حيث يجري قلب منطق القانون ذاته ليُعاد توظيفه في خدمة المشروع الاستعماري الاستيطاني. تاريخيًا، وثّقت منظمات حقوق الإنسان الاستخدام المنهجي الذي مارسه الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، كما في ما عُرف بـ”إجراء الجار”. غير أنّ حرب الإبادة على غزة خلال الأعوام 2023–2025 شهدت انتقالًا نوعيًا أكثر رعبًا، إذ أدخلت إسرائيل ثلاث ممارسات “مبتكرة” تجاوزت كل ما سبقها من حيث القسوة والانتهاك.
أولى هذه الممارسات تتمثل في ما يمكن تسميته بـ”الشيئية” وبروتوكول “الشواويش”. فقد كشفت التحقيقات عن قيام الجيش الإسرائيلي باختطاف مدنيين فلسطينيين، وإجبارهم على ارتداء بزات عسكرية إسرائيلية، وتثبيت كاميرات على أجسادهم، ثم دفعهم إلى دخول الأنفاق أو المباني المفخخة بوصفهم “طُعمًا”. في هذا السياق، لا يعود منطق التترس التقليدي قائمًا؛ فبدل الاعتماد على “وضوح المدني” كوسيلة للردع، يجري إخفاء المدني وتحويله بصريًا إلى مقاتل لاستدراج النيران، في ممارسة تجمع في آن واحد بين جريمتين حربيتين: استخدام الدروع البشرية والغدر العسكري.
أما الممارسة الثانية، فتتجسَد في تعميم اتهام التترس على نطاق كلي، إذ وسّعت إسرائيل هذا الاتهام ليشمل كامل قطاع غزة بذريعة وجود “شبكة أنفاق”. وبهذا الادعاء، يتحول كل «شيء» قائم فوق الأرض، من مستشفيات ومدارس ومساجد ومخابز وشقق سكنية، من أعيان مدنية محمية إلى دروع بشرية محتملة. والنتيجة، هي محو صفة “المدنية” عن غزة بأكملها، وإعادة تعريفها باعتبارها “هدفًا عسكريًا واحدًا” عملاقًا.
وتتمثل الممارسة الثالثة في ما يمكن وصفه بـ”عنصرية العمارة”، حيث لا تُعامَل البنى التحتية بوصفها منشآت وظيفية، بل ككيانات “مؤنسنة” تُسقَط عليها هوية عرقية محددة. فالبيت الفلسطيني، لا يُرى في المخيال العسكري باعتباره مأوى لعائلة، بل يُعاد تصويره كـ”خلية إرهابية” كامنة. هذا التصور يسهّل على الجمهور الغربي تقبّل فكرة أن الفلسطينيين، الذين وُصفوا بأنهم “حيوانات بشرية” على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي، يستخدمون حياتهم وحياة أطفالهم كأدوات مادية، وهو ما ينقل عبء المسؤولية من القاتل إلى الضحية.
View this post on Instagram
وقد بلغ هذا المنطق ذروته أمام محكمة العدل الدولية، حين جادل الفريق القانوني الإسرائيلي بأن البنية التحتية في غزة تمثل أكثر “معقل إرهابي” تعقيدًا في تاريخ الحروب. بهذا الادعاء، ينقلب القانون الدولي الإنساني من إطار وُضع لحماية البشر إلى أداة لتبرير إبادتهم؛ إذ إن اللحظة التي يُعتبر فيها كل ما فوق الأرض درعًا بشريًا هي ذاتها اللحظة التي يُعلن فيها “موت المدني الفلسطيني” قانونيًا. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم أوامر الإخلاء التي طالت نحو 1.1 مليون إنسان في شمال القطاع بوصفها إجراءً إنسانيًا، بل باعتبارها سلاح طرد جماعي يحوّل كل من يبقى في المكان إلى درع بشري مباح القتل.
نهاية، لا يقف كتاب “الدروع البشرية” عند حدود التوثيق التاريخي لجرائم الحرب، بل يفتح هوّة سحيقة من التساؤلات الفلسفية حول ماهية “الإنسان” في عصر العنف السيادي المُشرعن. إنه يضعنا أمام الحقيقة العارية التي كشفها “سيزموغراف” الدروع البشرية: أن الإنسانية ليست قيمة جوهرية ثابتة، بل هي عقد سياسي هجين ومتقلب، يُمنح للبعض كدرع حماية، ويُسحب من الآخرين ليتحول ضعفهم إلى مبرر لقتلهم .
كما أن الكتاب يواجهنا بأسئلة مفتوحة على مستقبل القانون والأخلاق: إذا كان القانون الدولي الإنساني قد تحول في يد القوة إلى “جهاز تتبع” (GPS) يوجه القذائف نحو الأجساد بدلا من حمايتها، فهل لا يزال من الممكن إصلاحه من الداخل؟ وهل يمكننا حقا اجتراح “سياسة إنسانية” جديدة تتجاوز مفهوم “المدني السلبي” لتعيد للضحية فاعليتها دون أن تسلبها حصانتها؟ والأكثر إيلاما، كيف يمكن للعالم أن يستعيد قدسية “الضعف البشري” كحاجز أخلاقي منيع، في زمن أصبحت فيه أشلاء الأطفال في غزة تُقرأ كـ “بيانات قانونية” تبرئ القاتل وتدين الضحية؟
تظل مأساة “الدرع البشري” هي التكثيف الأشد لمأساة الإنسان المعاصر؛ الشخص الذي يُقتل مرتين: مرة حين تخترق القذيفة لحمه العاري، ومرة حين تخترقه اللغة القانونية لتجرده من صفة الضحية وتحمله مسؤولية هلاكه. إن نداء المؤلفين، غوردون وبيروجيني، هو نداء للبحث عن لغة جديدة للعالم، لغة ترفض “شيئية” البشر وتتصدى لخوارزميات الإبادة، لعلنا نجد مخرجا من هذا البرزخ القانوني الذي أصبحت فيه الإنسانية سلاحا ضد الإنسان.