على مقهى “الأسطورة” في قلب الهرم بالجيزة، جلس عبد الله، الشاب السوداني (27 عامًا) يتأمل فنجان قهوته كما لو كان يتأمل وطنًا بعيدًا، في عينيه ارتعشت صور الخرطوم، وفي صمته كانت تهتف الشوارع من جديد، سبع سنوات مرّت، لكن ديسمبر لم يغب؛ عاد إليه حيًّا، نابضًا، كما خرج أول مرة من بين الحناجر والصدور.
كان عبد الله يستعيد خطواته في التظاهرات الأولى، منذ اليوم الذي قرر فيه أن يكسر الخوف، حتى لحظة سقوط عمر البشير، حوله جلس العشرات من مناطق مختلفة وأعمار متباينة، لا يجمعهم مكان واحد بقدر ما تجمعهم ذاكرة واحدة، كانوا يصغون إليه، إلى حديث امتزج فيه الحنين بالحماسة، وكأن كلماته تفتح بوابة خفية تعيدهم جميعًا إلى تلك الأيام.
وفجأة، نهض عبد الله واقفًا، ارتفع صوته في المقهى كأنه قادم من شارع الستين أو من قلب الاعتصام، معلنًا أن الثورة لم تنتهِ، وأن روحها ستظل حيّة في النفوس مهما طال الزمن، قال إن ثورة ديسمبر لم تكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل عهدًا مقدسًا بين الشعب وتضحيات شهدائه وجرحاه ومفقوديه.
وأضاف بصوت يهدهده الحنين إن الوفاء لهذا العهد لا يكون بالكلمات وحدها، بل بالدفاع عن قيم الثورة: الحرية، والسلام، والعدالة؛ بمقاومة الحرب بكل أشكالها؛ بالوقوف إلى جانب النساء والمهمشين؛ وبالتشبث بحلم الدولة المدنية الديمقراطية.
لم يحتمل المكان هذا الشحن العاطفي طويلا، وفجأة ضجّ المقهى بالهتافات التي خرجت من أعماق الذاكرة: “حرية… سلام… عدالة… الثورة خيار الشعب”، “سقطت ما سقطت… صابنها”، تحوّل المقهى للحظات إلى ساحة ثورية مصغّرة، وكأن ديسمبر قد عبر الحدود ليحل ضيفًا على الجيزة.
قبل سبع سنوات، خرج ملايين السودانيين ملتفين حول حلم واحد، وراية واحدة، وهدف واحد: إنهاء نظام جثم على صدورهم لعقود، واقتلاع عصر الديكتاتورية والسلطوية من جذوره، كان حينها الحلم بسيطًا وعظيمًا في آن، سودان جديد، يحترم الإنسان، ويصون حق المواطن، ويقدّس الحرية، ويعيد للكرامة معناها، صحيح أن الحلم لم يكتمل، لكن الأصح أنه لم يمت.
واليوم، والسودانيون في المنافي، بأجساد بعيدة عن تراب الوطن وقلوب معلّقة بأسفاره، يعود السؤال ملحًّا مع كل ذكرى لديسمبر: ماذا تبقى من تلك الروح في نفوس الملايين الذين دفعتهم حرب الجنرالات وصراعهم على السلطة إلى الرحيل؟ ربما لم يعد الوطن قريبًا، لكن ديسمبر ما زال يسكنهم… فكرةً، وحنينًا، ووعدًا مؤجلًا بالعودة.
حاضر لا ذكرى، ومستقبل لا ماضي
“من قال إن ديسمبر مجرّد ذكرى؟”.. هكذا فاجأنا أحمد كنان، الأكاديمي بجامعة الخرطوم، ذو الخمسة والخمسين عامًا، والمقيم حاليًا في القاهرة، حين سألناه عن الذكرى السابعة للثورة، لم يكن السؤال عابرًا، بل جاء كصرخة فكرية تهزّ المعنى ذاته، قالها بثقة من عاش التجربة ويدرك ثقلها: ديسمبر حاضر لا يجوز اختزاله في ذكرى، ومستقبل لا يمكن دفنه في الماضي.
تحدّث كنان وكأن ديسمبر كائن حيّ، يتنفس مع السودانيين أينما كانوا، أكّد في حديثه لـ”نون بوست” أن الثورة باقية ما بقي هذا الشعب، وأنها النقطة الأكثر إشراقًا في تاريخ السودان المعاصر، والأمل النادر الذي جمع السودانيين رغم اختلافاتهم الفكرية والأيديولوجية، هي الدرب الذي سيسيرون عليه، مهما كثرت العثرات وطالت الطرق.
هذا الرأي لم يكن معزولًا. شاركته ناهد، الخمسينية، والموجهة بالتربية والتعليم، والمقيمة في منطقة الهرم بالجيزة، تحدثت بهدوء يحمل قوة التجربة، مؤكدة أن ديسمبر تسكن وجدان النساء السودانيات على نحو خاص. بالنسبة لهن، لم تكن الثورة مجرد صراع سياسي، بل مواجهة مباشرة مع نظام استباح كرامتهن، وسلب حقوقهن، وحوّل التمييز ضدهن إلى سياسة دولة.
بعد سبعة أعوام على تلك الانتفاضة التي وُلدت نقية كالحلم، تبدو الصورة أكثر وجعًا، تحولت البلاد من مسار ثورة شعبية إلى ساحة صراع جنرالات، وحرب نفوذ ومكاسب، يدفع ثمنها السودانيون وحدهم من دمهم وأمنهم ومستقبلهم.
📍ماذا تبقى من الثورة؟ وماذا بقي في قلوب السودانيين من عبقها، غير… pic.twitter.com/gAD3ss2MA2
— نون بوست (@NoonPost) December 20, 2025
وفي مشهد إنساني بالغ الدلالة، كشفت ناهد في حديثها لـ”نون بوست” أنها تصرّ على تدريس الثورة بكل تفاصيلها للأطفال في روضة الأطفال التي تديرها في مصر، تفعل ذلك لا بوصفها درس تاريخ، بل كبذرة أمل، تحاول أن تزرع في قلوب الصغار ما عجز الكبار عن حمايته، تؤمن أن ما تعثر في جيل، قد يكتمل في جيل آخر، وأن الطريق إلى سودان ديمقراطي حر قد يبدأ من حكاية تُروى لطفل، ومن حلم صغير يكبر مع الزمن.
هكذا، لا تبدو ديسمبر ذكرى تُستدعى في عقول وأرواح أبنائها، بل روحًا تُقاوم النسيان، وتصرّ على البقاء، في الكلمات، وفي الذاكرة، وفي عيون الأطفال الذين لم يعيشوها بعد، لكنهم ربما سيكونون من يكملون مسيرتها.
ثورة سرقها الجنرالات
“كانت الأمور تمضي كما حلمنا… كما رسمها الثوار في خيالهم ودمائهم، إلى أن جاء العسكر وقلبوا الطاولة، وأعادوا السودان سنوات طويلة إلى الخلف”.. بهذه العبارة المثقلة بالخذلان افتتح المحامي والحقوقي السوداني أسعد الميرغني حديثه معنا، وكأن الكلمات نفسها تحمل أنقاض حلمٍ لم يُكتب له الاكتمال.
أعاد الميرغني ما يعيشه السودان اليوم إلى جوهر الأزمة، أطماع الجنرالات التي لم تتوقف يومًا حدًا، في حديثه لـ”نون بوست”، بدا صوته أقرب إلى شهادة على زمن انكسر، قال إن العسكر لم يطيقوا فكرة أن تؤول البلاد إلى حكمٍ مدني، يعيدهم إلى ثكناتهم كما طالبت الثورة.
كان ذلك يعني تجريدهم من الامتيازات السلطوية التي راكموها عبر عقود طويلة من السيطرة. ومن هنا، لم يكن الانقضاض على الثورة مجرد رد فعل، بل خيارًا واعيًا، وراية التفّ تحتها الجيش والدعم السريع معًا.
لكن ما إن سقطت الحكومة المدنية بقيادة عبد الله حمدوك، حتى انكشفت الشقوق داخل الجدار العسكري نفسه، تسللت الصراعات إلى صفوفهم، وبدأ التنازع على “الكعكة”، كل طرف أراد السلطة كاملة لنفسه، بلا شريك ولا حساب، لتدخل البلاد — كما يقول الميرغني — في دوامة عنف مفتوحة، لا تلوح لها نهاية قريبة.
ويذهب المحامي السوداني أبعد من ذلك، مؤكدًا أن ما جرى لم يكن وليد اللحظة، كل ما حدث كان مخططًا له سلفًا، فتماهي العسكر مع الثورة في بداياتها لم يكن سوى قناعٍ مؤقت، ومحاولة لاحتواء الشارع وتفادي الصدام معه، لكن حين اقتربت لحظة الخطر الحقيقية، لحظة انتقال الحكم إلى سلطة مدنية، سقطت الأقنعة دفعة واحدة، وظهر الوجه الحقيقي للعسكر، بلا مواربة ولا تردد.
ورغم هذا السواد، لا يخلو حديث الميرغني من ومضة أمل، يُصرّ على أن ما يعيشه السودان اليوم، بكل قسوته، لا يقتل ديسمبر، بل يستدعيها من جديد، فهناك، في روح تلك الثورة، يكمن الخلاص، منها تبدأ أولى خطوات التحرر من إرث الماضي الثقيل، ومن أذناب الديكتاتورية بوجهيها، وكأنها، رغم الجراح، لا تزال النداء الأخير الذي يرفض أن يصمت.
ديسمبر.. طريق الخلاص
لم تكن كلمات كنان وعبدالله وناهد والميرغني سوى مرآة صادقة لوجدانٍ سودانيٍ عام، يتردد صداه في بيانات القوى المدنية والسياسية، وفي أحاديث المنافي، وفي صمت البيوت المهدّمة. الجميع، رغم اختلاف المواقع واللغة، اجتمع على يقين واحد: أن طريق الخلاص يبدأ من ديسمبر.
فالثورة، بعد سبع سنوات، لم تتحول إلى ذكرى باهتة، بل ما تزال حيّة في الضمير الجمعي، تشكّل البوصلة الوطنية الوحيدة للخروج من الأزمة الشاملة التي تغرق فيها البلاد.
هذا الإجماع يتقاطع مع صوت السودانيين في الخارج، أولئك الذين أُبعدوا عن الوطن قسرًا وبقيت قلوبهم معلّقة به، مطالبهم واضحة وبسيطة حدّ الألم: الالتزام بأهداف الثورة — الحرية، والسلام، والعدالة، والحكم المدني الديمقراطي — ووقف الحرب فورًا، والانخراط في عملية سياسية شاملة تحفظ وحدة السودان وسيادته، وتعيد للإنسان السوداني حقه في الحياة الآمنة والكرامة.
في هذا السياق، جاء موقف حزب الأمة القومي مثقلاً بوقع المأساة، قال إن ذكرى الثورة تحل هذا العام والسودان يعيش حربًا مدمّرة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث، خلّفت قتلى ونازحين وانتهاكات واسعة بحق المدنيين، ودمّرت مقدرات الدولة، وهددت وحدة النسيج الوطني ذاته.
حذّر الحزب من أن هذه الحرب ليست سوى محاولة خطيرة لإجهاض ثورة ديسمبر والالتفاف على مكتسباتها، ومنزلقًا نحو صراعات إقليمية ودولية وحروب بالوكالة. ومع ذلك، جدّد تمسكه بمسار الثورة، داعيًا السودانيين في الداخل والخارج إلى التوحد خلف مشروع ديسمبر، ورفض أي خطاب يبرر استمرار الحرب أو يدفع نحو تقسيم البلاد، مطالبًا طرفي النزاع بتحمل مسؤوليتهما الأخلاقية والتاريخية ووقف القتال.
أما حزب المؤتمر السوداني والقوى المدنية الأخرى، فقد أعادوا التذكير بجوهر ديسمبر، كونها ثورة صنعت تحولًا عميقًا في تاريخ السودان، وأسقطت ثلاثة عقود من القمع، وفتحت باب الأمل نحو حكم مدني ديمقراطي، قبل أن يُغلقه الانقلاب وتفتح الحرب أبواب الجحيم.
أكدوا أن الحرب أعادت السودان إلى العزلة، واستنزفت موارده، ومزقت نسيجه الاجتماعي بخطاب الكراهية والعنصرية، لكنهم شددوا في المقابل على أن ديسمبر كانت — وستظل — خيارًا أخلاقيًا ومشروعًا وطنيًا جامعًا.
وفي ختام مواقفهم، بدت الرسالة واحدة: قد تحاصر الحرب الحاضر، لكن ديسمبر ما تزال تسكن المستقبل، راسخة في وجدان السودانيين، وخيارهم الأساسي لبناء دولة الحرية والسلام والعدالة.
في المنافي البعيدة، حيث تتشابه المقاهي وتختلف الوجوه، تسكن روح ديسمبر مخيلة السودانيين كملاذ أخير من اليأس، هناك، في القاهرة، ونيروبي، وأديس أبابا، وعواصم أبعد، لم تعد الثورة حدثًا يُستعاد، بل ذاكرة حيّة تُعاش كل يوم، يحملها السودانيون معهم في لهجتهم، في أغانيهم، في نقاشاتهم الطويلة عن وطنٍ خُذل ولم ينكسر.
أربعة أعوام مضت منذ أن سُلب الحلم على أيدي العسكر، لكنهم فشلوا في سرقة جوهره؛ فديسمبر بقيت فكرة تقاوم، وجرحًا مفتوحًا يرفض أن يلتئم على الظلم، ووعدًا مؤجلًا لا يسقط بالتقادم.
وهكذا، لا يرى السودانيون في الخارج طريقًا للخلاص سوى العودة إلى ديسمبر، لا بوصفها حنينًا عاطفيًا، بل مشروعًا وطنيًا وحيدًا لاستعادة ما ضاع، دولة تحترم الإنسان، وسلطة مدنية تنحاز للشعب، وسلام يعيد الناس إلى بيوتهم وذكرياتهم.
يؤمنون أن الحلم الذي انتزعه العسكر بالقوة يمكن استرداده بالإصرار، وأن الثورة التي تعثرت لم تُهزم، بل تنتظر لحظتها القادمة، فديسمبر، في وجدانهم، ليست نهاية قصة، بل بدايتها الحقيقية… الطريق الوحيد كي يستعيد السودانيون وطنهم، ويكتبوا حلمهم بأيديهم من جديد.