مع نهاية عام 2025، يقف لبنان عند مفترق سيادي وأمني حاسم، إذ ترفع رئاستا الجمهورية والحكومة شعار حصر السلاح بيد الدولة بوصفه مدخلًا لإعادة بناء السلطة واستعادة القرار، فيما يصرّ “حزب الله” على التمسك بسلاحه، باعتباره ركنًا من “معادلة الردع والحماية”.
وتواجه المؤسسة الرسمية ضغطًا دوليًا وإقليميًا يضع مهلًا واضحة ويربط أي مسار إنقاذ مالي واقتصادي بتقدم ملموس في ملف السلاح، كما يتعرض لبنان لضربات إسرائيلية تُبقي وقف إطلاق النار هشًّا، بما يوسّع هامش المخاطر ويضيّق مساحة القرار الداخلي.
في قلب هذا المشهد، جاء اجتماع باريس الثلاثي (الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية) في 18 ديسمبر/كانون الأول، ليحول الضغط الخارجي إلى “خريطة طريق” تُحمّل الدولة اللبنانية مسؤوليات تنفيذية واضحة، ما يجعل ملف السلاح اختبارًا لقدرتها على فرض قرارها ضمن توازنات شديدة الحساسية.
اجتماع باريس الثلاثي
الأطراف المشاركة: شارك في الاجتماع كلا من المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان والمبعوثة الأمريكية الخاصة مورغان أورتاغوس، والمبعوث السعودي يزيد بن فرحان والسفير الأمريكي في بيروت ميشال عيسى، وقائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل، الذي استدعي لتقديم إحاطة عملياتية دقيقة حول قدرات الجيش وخططه.
الهدف المركزي: الانتقال من “احتواء” حزب الله إلى “نزع سلاحه” عبر خريطة طريق زمنية محددة، وقد صاغ المجتمعون معادلة جديدة مفادها أن وقف إطلاق النار لعام 2024 لن يصمد دون آلية تحقق صارمة تمنع الحزب من إعادة بناء ترسانته التي تضررت بشدة خلال الحرب.
أبرز النتائج: اتفق المشاركون على “تشكيل فريق عمل ثلاثي لإعداد مؤتمر دولي لدعم القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي في فبراير/شباط 2026. ومع ذلك جرى ربط نجاح هذا المؤتمر وتدفق الأموال بمدى التزام الجيش بتنفيذ بنود خريطة الطريق خلال الشهرين الأولين من العام.
كما أفضى الاجتماع إلى اتفاق على “توثيق جدي وبالأدلة” لجهود الجيش اللبناني، مما يشير إلى أزمة ثقة عميقة بين المانحين الدوليين والسلطات اللبنانية بشأن جدية إجراءات نزع السلاح السابقة.
ويعكس الاجتماع تقاطع مصالح دقيق بين القوى الثلاث:
- فرنسا: تسعى لحماية ما تبقى من نفوذها في لبنان وتجنيب البلاد حربًا شاملة قد تدمر قوات اليونيفيل الأممية، مع محاولة تقديم الجيش اللبناني كبديل موثوق.
- الولايات المتحدة: تتبنى موقفًا أكثر تشددًا، حيث ألغت زيارة سابقة للعماد رودولف هيكل إلى واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 كرسالة استياء من “بطء” الجيش في التعامل مع سلاح حزب الله. وجاء حضور أورتاغوس في باريس لفرض شروط صارمة وربط المساعدات بالنتائج الملموسة.
- السعودية: تمثل الثقل المالي والسياسي العربي، وتربط أي مساهمة في إعادة الإعمار بالتفكيك الكامل لحزب الله، مستندة إلى اتفاق الطائف والقرارات الدولية الأخرى.
خريطة الطريق لنزع السلاح – البنود والآليات
تمخض اجتماع باريس عن بلورة “خريطة طريق” عملياتية، وافقت عليها الحكومة اللبنانية مبدئيًا في سبتمبر/أيلول 2025، ولكن تم تشديد آليات تنفيذها في اجتماع ديسمبر، وتتضمن نهجًا مرحليًا يهدف إلى تفكيك قدرات حزب الله تدريجيًا لتجنب الانفجار.
1- مراحل التنفيذ
| المرحلة | النطاق الجغرافي | الأهداف العملياتية |
حالة التنفيذ (ديسمبر 2025) |
|
| المرحلة الأولى | جنوب الليطاني | إخلاء المنطقة من أي سلاح خارج إطار الدولة وتفكيك الأنفاق والمخابئ؛ بسط سيادة الجيش واليونيفيل حصرًا |
“أيام قليلة على الاكتمال” وفقًا لرئيس الوزراء اللبناني |
|
| المرحلة الثانية | شمال الليطاني | قطع خطوط الإمداد اللوجستي، مصادرة مخازن الصواريخ المتوسطة المدى، منع حركة المسلحين |
قيد التخطيط؛ تواجه رفضًا قاطعًا من حزب الله |
|
| المرحلة الثالثة | بيروت والضاحية | فرض الأمن الرسمي، إنهاء المربعات الأمنية، سحب السلاح الثقيل |
مرحلة عالية المخاطر؛ احتمال صدام مرتفع |
|
| المرحلة الرابعة | البقاع والحدود السورية | ضبط المعابر غير النظامية؛ تفكيك معسكرات التدريب ومخازن الصواريخ الباليستية |
تتطلب تنسيقًا دوليًا لضبط الحدود |
2- “الآلية الثانية” للتحقق
أخطر ما نتج عن اجتماع باريس هو الاتفاق على إنشاء “آلية ثانية” للمراقبة، تعمل بالتوازي مع أو ضمن إطار لجنة مراقبة وقف إطلاق النار الحالية.
وتهدف هذه هذه الآلية إلى سد الفجوات التي عانت منها اليونيفيل سابقًا، من خلال:
- التوثيق الجنائي: طُلب من الجيش اللبناني تقديم أدلة مادية (صور، إحداثيات، محاضر ضبط) لكل مخزن سلاح يجري تفكيكه أو نفق يتم ردمه.
- المشاركة الدولية المباشرة: تتضمن الآلية مقترحًا بدمج خبراء عسكريين من فرنسا والولايات المتحدة (وربما دول أخرى) لمرافقة وحدات الجيش أو التحقق من تقاريرها ميدانيًا، وهو ما يمثل تدويلًا مباشرًا لعملية نزع السلاح.
- العلنية: على عكس رغبة الرئيس جوزيف عون في إبقاء العملية طي الكتمان لتجنب إحراج حزب الله، تضغط باريس وواشنطن لجعل النتائج علنية لإثبات التقدم للمانحين.

موقف حزب الله وحلفاؤه
1- استراتيجية مزدوجة
- جنوب الليطاني (المرونة التكتيكية): أبدى حزب الله، ومعه حليفه نبيه بري رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل، مرونة واضحة في تطبيق المرحلة الأولى من خريطة الطريق (جنوب الليطاني). إذ تشير التقارير إلى أن الحزب سحب مقاتليه وأسلحته الثقيلة من هذه المنطقة، مفسحًا المجال للجيش اللبناني، في خطوة تكتيكية لتجنب إعطاء “إسرائيل” ذريعة لاجتياح بري جديد، وللحفاظ على ما تبقى من حاضنته الشعبية التي دُمرت قراها.
- شمال الليطاني (الرفض الاستراتيجي): هنا يرسم الحزب خطه الأحمر، فقد صرح الأمين العام للحزب نعيم قاسم، بوضوح في ديسمبر 2025 أن الحزب يرفض تسليم سلاحه في العمق اللبناني، معتبرًا أن اتفاق وقف إطلاق النار ينحصر فقط في الجنوب، ويرى الحزب أن نزع السلاح في البقاع والضاحية “استسلام” غير مقبول ومشروع “فتنة داخلية”.
2- السردية السياسية والبدائل المطروحة
يحاول حزب الله وحلفاؤه (حركة أمل) صياغة سردية مضادة للضغط الدولي:
- توازن الردع: يجادل الحزب بأن الجيش اللبناني، بوضعه الحالي، غير قادر على حماية لبنان من الأطماع الإسرائيلية، مستشهدًا بالخروقات المستمرة واستمرار احتلال “إسرائيل” لخمس نقاط استراتيجية.
- التهدئة مقابل الانسحاب: يطرح الحزب بديل “الاحتواء” بدلًا من “نزع السلاح”، حيث يقترح تجميد أنشطته العسكرية مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المحتلة ووقف الانتهاكات الجوية.
- تغيير وجهة السلاح: يتهم الخصوم حزب الله بأنه بات يستخدم وهج سلاحه للترهيب الداخلي وللتأثير على الاستحقاقات السياسية القادمة (انتخابات 2026)، وهو ما أشار إليه رئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل بوضوح.
ما المتوقع خلال عام 2026؟
بناءً على معطيات ديسمبر/كانون الأول 2025 ومخرجات اجتماع باريس، يمكن رسم مسارين للبنان عام 2026، بهذا الخصوص:
- الاحتواء المتدرج: ينجح الجيش اللبناني مدعومًا بتمويل مؤتمر باريس، في بسط سيطرة كاملة جنوب الليطاني وتثبيت الهدوء، فيما يتوصل الفرقاء الداخليون إلى “تسوية أمر واقع” تقبل فيها الأطراف الدولية والإقليمية إلى جانب “إسرائيل”، تجميد نشاط حزب الله العسكري شمال الليطاني وسحب سلاحه من المدن دون تسليمه علنًا، مقابل تخفيف الضغط المالي.
- انهيار التهدئة: تضغط واشنطن و”تل أبيب” لتسريع المرحلة الثانية (شمال الليطاني) بالقوة، يرفض حزب الله الخضوع، معتبرًا الأمر مؤامرة وجودية، ويجد الجيش نفسه عاجزًا عن المواجهة مما قد يؤدي إلى انهيار التهدئة الهشة مع “إسرائيل” واستمرار القصف وتعليق مؤتمر باريس.
ولذلك فإن 2026 لم يكون مجرد عام آخر في روزنامة الأزمات اللبنانية، بل قد يكون العام الذي يتقرر فيه ما إذا كان لبنان سيستعيد هويته كدولة، أو سيتلاشى كساحة نفوذ مفتوحة على المجهول.