مع سقوط نظام الأسد ودخول سوريا مرحلة ما بعد التحرير، برز تحول سريع وعميق في موقع المساجد ودورها في الحياة العامة، فبعد عقود من التقييد والمراقبة الأمنية، استعادت المساجد حريتها وغدت فضاءات مفتوحة للعبادة والتعليم والحوار والدعم الاجتماعي، وتسهم الآن في إعادة بناء الثقة بين المجتمع والمؤسسة الدينية.
وفي الأشهر الأولى التي تلت التحرير، شهدت المساجد عودة واسعة لحلقات العلم الشرعي والدروس الحرة، وتزامن ذلك مع إطلاق مبادرات تعليمية استهدفت جميع الفئات العمرية، من الأطفال والشباب إلى النساء وكبار السن، شملت هذه المبادرات ورشًا في القراءة والكتابة واللغات، وبرامج لتنمية المهارات الحياتية والتقنية، إلى جانب ندوات وجلسات حوارية ناقشت قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية.
مع توسع تلك الأنشطة، انتقلت المساجد تدريجيًا من المبادرات العفوية إلى العمل المنظم، حيث وُضعت برامج أسبوعية وشهرية، وخصصت مساحات للأطفال وأنشطة رياضية للشباب.

وقد رافق هذا التحول صعود طبقة جديدة من العلماء المستقلين والمصلحين الشباب، الذين جمعوا بين التعليم الديني الحر والعمل التربوي والمبادرات الاجتماعية والثقافية، وأسهموا في جعل المسجد فاعلًا حقيقيًا في تطوير الحياة الاجتماعية والثقافية والتعليمية في مرحلة ما بعد التحرير.
بالتوازي، شهد الخطاب الديني تحولًا نوعيًا في المضمون والأسلوب، إذ أُعيدت صياغته ليواكب التحديات المعاصرة ويخاطب الواقع مباشرة، مع اعتماد أساليب تفاعلية كالحوارات المفتوحة بين الأئمة والشباب، واستخدام الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الحديثة.
وفي مجال التعليم الشرعي، برز نشاط ملحوظ تمثل في افتتاح ثانويات ومعاهد شرعية جديدة في العديد من المحافظات، بما فيها ثانويات للبنات في درعا ودمشق وحمص، مع اختيار كفاءات تعليمية مؤهلة لتطوير المناهج.
كما أُقيمت مسابقات قرآنية كبرى على مستوى المحافظات، تُوجت بحفلات في دمشق، إلى جانب إطلاق حملات دعوية عامة مثل حملة “استمطار خيرات السماء”، وقد ترافقت هذه التحولات مع برامج لإعادة إعمار المساجد ولا سيما الأثرية، وإعادة تفعيل المكتبات الوقفية. كما أولت وزارة الأوقاف اهتمامًا خاصًا بتطوير دور المرأة في العمل المسجدي والتعليمي، سواء عبر افتتاح ثانويات شرعية للبنات أو تنظيم ندوات ودورات تدريبية نسائية في مختلف المساجد.
أما على الصعيد الخارجي، برز حضور وزارة الأوقاف في البعد الدولي بعد التحرير من خلال زيارات رسمية إلى دول عدة، منها السعودية وتركيا وماليزيا وإندونيسيا والبرازيل وموريتانيا، وقد عززت هذه الزيارات دور سوريا في الفضاء الإسلامي وفتحت آفاقًا للتعاون العلمي والدعوي حول العالم.
في ظل هذه التحولات العميقة، يقدم هذا التقرير رؤية شاملة للمشهد المسجدي في سوريا بعد التحرير، مسلطًا الضوء على التحولات الجوهرية في الخطاب وتنوع أنشطة المساجد واتساع وظائفها، وكيف أصبحت فضاءات حية تجمع بين الدين والتعليم والثقافة والخدمة المجتمعية.
موضوعات المساجد بعد التحرير
بعد سقوط نظام الأسد، بدأت المساجد تشهد تحولًا نوعيًا في دورها ووظائفها، توسَّع نطاق الدروس الدينية التقليدية ليشمل قضايا معاصرة تمس حياة الناس مباشرة، مثل قضايا المرأة، والمواطنة، والعلاقة بين الدين والسياسة، ما منح الخطاب المسجدي بعدًا عمليًا مرتبطًا بالواقع الاجتماعي والتحديات المعاصرة.
في الأشهر الأولى بعد التحرير، نظمت المساجد محاضرات ودروس متخصصة لتعميق الفهم الشرعي، شملت شروحًا للفقه وعلوم الحديث والقرآن والسيرة النبوية، إلى جانب ورش تدريبية في السياسة الشرعية والتنمية القيادية. كما تطور النشاط ليشمل عقد ندوات وملتقيات ثقافية، وتنظيم مجالس للحوار بين الأئمة والشباب، مع التركيز على موضوعات ما بعد النصر ودور المجتمع في صيانة المكتسبات وبناء سوريا الجديدة.
وشملت خطب الجمعة خطابًا جامعًا ومطمئنًا، جمع بين استحضار الذاكرة الثورية والدعوة إلى البناء، ففي مسجد عمر بن الخطاب بحمص استُحضرت مأساة الغوطة وتضحيات الأهالي وصمودهم، وفي الجامع الأموي بدمشق طُرح “الميثاق الأخلاقي لسورية الجديدة” ومسؤولية كل مواطن في بناء مجتمع يقوم على العدل.

بينما تناول مسجد الأنوار بحلب أهمية الكلمة في الإسلام وخطورتها، وفي جامع بني أمية الكبير، جاءت خطبة بعنوان “عامٌ على النصر والشام تبقى حصنًا للأمة”، حيث تم التأكيد على واجب الحفاظ على الإنجازات وتعزيز الوحدة الوطنية.
كما استثمر الشيخ عبد القادر عثمان المنبر لتعزيز قيم الانتماء والعمل بعد النصر، مؤكدًا على أهمية الوعي في بناء المجتمع المحلي. وقد احتوت العديد من الخطب على رسائل تهدف إلى توحيد الصفوف وإبراز قيمة النصر كتتويج لتضحيات شعب صابر ومتمسك بقضيته، من بينها خطبة “المسؤولية المجتمعية بعد النصر” للشيخ عبد الله طرشة في مسجد الرحمن بإدلب، وخطبة حول العناية الربانية بأهل الشام في المسجد الأموي بدمشق.
وقد ركزت المساجد على تعزيز الانتماء من خلال إبراز بطولات الشهداء كمثال على التضحية، وتجسد ذلك في مسابقة “أفضل قصة شهيد”، التي يُراد لها أن تكون أداة لدمج الذاكرة الجماعية للثورة في نشاط المساجد، رغم الجدل الذي رافق إطلاقها بسبب اللبس في فهم عنوانها.
كما عقدت في العديد من المساجد لقاءات مع معتقلين شاركوا تجاربهم وما عايشوه في سجون نظام الأسد، ويعكس انعقاد هذه اللقاءات داخل المسجد تحول الأخير إلى فضاء عام للوعي والذاكرة، يحتضن سرديات الألم والصمود والنجاة.

بالتوازي، تحولت المساجد إلى فضاءات دينامية متكاملة للتنشئة الفكرية والتعليمية، تستهدف الأطفال والشباب والنساء، مع تخصيص مساحات للأنشطة النسائية، والرياضية. وأطلقت وزارة الأوقاف برامج تعليمية وحلقات نقاش ركزت على حقوق وواجبات المواطنين، وربط القيم الدينية بمفاهيم المواطنة، والعدالة، والمسؤولية الاجتماعية.
لقد شهد الخطاب المسجدي انتقالًا واضحًا من الوعظ التقليدي إلى التأصيل الفكري والأخلاقي لفكرة الدولة والمواطنة، كما في ندوة “بناء الوطن.. سوريا نموذجًا” التي استحضرت المرحلة المدنية من السيرة النبوية كنموذج لبناء مجتمع تعددي قائم على التعاقد والقيم.
في مختلف المحافظات، شهدت المساجد حراكًا علميًا ودعويًا واسعًا، تنوعت فيه المحاضرات والدروس الشرعية، إلى جانب موضوعات معاصرة مثل السياسة الشرعية، والمسؤولية المجتمعية بعد النصر، وتنمية المهارات القيادية والإدارية، والحوار مع المخالف، وأسهم في هذا الحراك علماء ودعاة من اتجاهات متعددة، ما أضفى على النشاط المسجدي تنوعًا وحيوية غير مسبوقة.
وفي هذا الإطار، أُقيمت محاضرات وندوات نوعية في عدد من المساجد الكبرى، حيث ألقى الدكتور عبد الكريم بكار في المسجد النوري الكبير بحمص محاضرة بعنوان “أسس العيش المشترك لبناء دولة قوية”، كما قدم درسًا لطالبات الثانوية الشرعية في بلدة تير معلة حول أهمية العلم والنجاح. وفي حماة، قدّم الشيخ عبد الرزاق المهدي دروسًا في مصطلح الحديث بمسجد صلاح الدين، بينما ألقى الشيخ قاسم الشحادات درسًا في تزكية النفس بمسجد بلال الحبشي في درعا.
كما شهدت المساجد نشاطًا لافتًا في مجال التأصيل الفكري، إذ قدم الدكتور عصام عبد المولى دورة بعنوان “مقدمات في السياسة الشرعية” في مسجد الأتاسي بحمص، وكررها في جامع النوري الكبير. وفي السياق نفسه، تناولت خطب الجمعة في عدد من المساجد موضوعات ذات صلة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وميزان الأولويات، والمسؤولية الفردية والمجتمعية في تحقيق العدالة.
وتنوعت المحاضرات العلمية والدروس الشرعية بين قضايا التأهيل العلمي والأخلاقي، فقد ألقى الشيخ غازي التوبة محاضرة بعنوان “صفات العالِم” في جامع النوري الكبير، وتناول الشيخ عبد المنعم حليمة ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فيما قدم الدكتور منذر السقار محاضرة في مسجد السعيد الجابري بحماة تناولت موضوع الأخطاء في المسائل الشرعية، بينما استعرض الشيخ مصطفى جبان في حلب حياة الصحابة ومواقفهم في الثبات والدعوة، وركز الشيخ ماهر درويش في مسجد السلمية بحماة على عوامل نجاح الداعية المسلم.
وفي سياق تعزيز التعليم المنهجي، تواصلت السلاسل العلمية التي تقيمها دائرة شؤون المساجد التابعة للأوقاف، من خلال شرح كتاب “مختصر المجموع” للدكتور محمد ديب العباس في مسجد النوري الكبير، إلى جانب تنظيم مجالس علمية لقراءة متن الأربعين النووية في عدد من المساجد.
وعلى مستوى بناء القدرات المؤسسية، نظمت مديرية أوقاف دمشق محاضرة بعنوان “تنمية المهارات الإدارية والقيادية” للمدرّب حمزة الحمزاوي، كما أُقيمت محاضرات متخصصة في مهارات الحوار، من بينها محاضرة كيف تستفيد من الحوار مع المخالف؟ للدكتور حذيفة عكاش في المسجد النوري الكبير بحمص. كما أُقيمت دورة “كن داعيًا ناجحًا” للدكتور منقذ السقار في مسجد عمر بن الخطاب في حماة، بهدف تطوير مهارات الخطاب الدعوي وأساليب التأثير والإقناع.

وقد تخلل هذا الحراك عددٌ من الندوات والخطب ذات الطابع التربوي والتاريخي، من أبرزها ندوة “عام هجري جديد” التي أُقيمت في جامع المريجة بحمص، بمشاركة الشيخ عبد القادر سويد والشيخ عبد الرحمن عكيش.
وفي السياق نفسه، أُلقيت خطبة بعنوان “لا تكن إمعة” في مسجد سعد بن أبي وقاص بمدينة إدلب، وضمن سلسلة محاضرات “نجوم العلماء”، ألقى الدكتور علي جاموس محاضرة تناولت سيرة الإمام عبد الله بن المبارك.
أيضًا شهدت الساحة المسجدية عودة عدد من المشايخ السوريين المؤثرين إلى مدنهم وقراهم، حيث باشروا نشاطهم الدعوي بشكل مباشر داخل المساجد بعد سنوات من الغياب القسري، وقد أسهم حضور هؤلاء المشايخ بما يمتلكونه من رصيد علمي في إعادة تنشيط الحياة المسجدية، ومن بينهم عبد الكريم بكار ومنقذ السقار وغيرهم كثير.
وإلى جانب عودة هؤلاء المشايخ، شهدت المساجد حضور مشايخ ودعاة من بلدان إسلامية مختلفة ألقوا محاضرات وخطبًا في عدد من المساجد، وبعضهم شارك في المؤتمر الحديثي العالمي لسماع صحيح البخاري.

بالتوازي مع هذه الأنشطة التعليمية والدعوية، انطلقت حملات مجتمعية ذات طابع رمزي، أبرزها حملة “بيت الله منزلنا” التي نُفذت في مختلف المحافظات السورية، بمشاركة واسعة من الأئمة وطلاب العلم ورواد المساجد.
وفي الإطار نفسه، أعلنت وزارة الأوقاف عن تنظيم سلسلة مهرجانات دعوية تفاعلية، كان من بينها مهرجان “عيشها صح” في محافظة درعا، الذي جمع بين الفقرات الوعظية والأنشطة التفاعلية والأناشيد والجوائز.
كما عقدت وزارة الأوقاف سلسلة من اللقاءات التنظيمية والاجتماعات التنسيقية لمتابعة شؤون المساجد والحلقات التربوية، وتطوير آليات الإشراف الإداري والدعوي، مع التركيز على تعزيز دور المسجد كمؤسسة تربوية فاعلة في المجتمع. واستمرت الوزارة في تفعيل الشراكة المجتمعية من خلال تسليم تبرعات المساجد إلى صندوق التنمية السوري، ودعم المشاريع الخدمية والإنسانية.
منابر النور تعود.. إقامة أول صلاة جمعة في المسجد الكبير بمعرة حرمة بعد الترميم
ورافقت هذه الأنشطة خطة لإعادة ترميم المساجد التي دمرها النظام السابق، ولا سيما الأثرية، إضافة إلى افتتاح عدد من المساجد الجديدة في مختلف المحافظات. ويبدو واضحًا أن إعادة إعمار المساجد تأتي باعتبارها جزءًا من إعادة الاعتبار للذاكرة الجماعية للثورة، كما أن إشراف الأوقاف بشكل مباشر على ترميم المساجد يعكس تحول المؤسسة الدينية إلى فاعل مؤسسي في إعادة الإعمار.
في المحصلة، تكشف هذه التحولات انتقال المساجد بعد التحرير من دور محدود إلى مؤسسات مجتمعية نشطة، تربط الدين بالقيم الوطنية والاجتماعية، وتجمع بين التعليم والحوار والخدمات العامة. وقد أصبحت مساجد سوريا اليوم منصات أساسية لإعادة بناء الوعي والمجتمع كما جسدت خطبة وزير الأوقاف حول “البناء بعد التحرير” هذا التوجه، مؤكدة أن المساجد تمثل فضاءات فاعلة لإعادة بناء المجتمع.

المسابقات القرآنية ومتاحف النبي محمد عليه السلام
بعد التحرير، شهدت المساجد في سوريا توسعًا كبيرًا في حلقات تحفيظ القرآن، مصحوبة بمبادرات مؤسسية منظمة ومسابقات قرآنية متنوعة. وقد توج هذا النشاط بتنظيم المسابقات القرآنية الكبرى على مستوى المحافظات، اختُتمت بحفل مركزي في دمشق تم خلاله تكريم الفائزين على مستوى الجمهورية، إضافة إلى تكريم الكوادر الإدارية والإعلامية ولجان الاختبارات، في مشهد يعكس الانضباط المؤسسي والتكامل في العمل القرآني.

وفي السياق ذاته، أقامت مديرية أوقاف محافظة حمص حفلًا لتكريم عدد من حفظة القرآن الكريم، كما شهدت ثانوية الشيخ عبد القادر بدران الشرعية في مدينة دوما حفلًا مماثلًا، تزامن مع افتتاح المعرض الأول الذي عرض فيه عدد من الطلاب الذين أتموا حفظ القرآن نماذج من مشاريعهم.
كذلك كرمت مديرية أوقاف حمص 2659 شابًا من الملتزمين بصلاة الفجر خلال شهر رمضان، ضمن مسابقة “فرسان الفجر”. وفي بعدٍ تربوي مكمل وبرعاية الأوقاف نُظمت رحلات ترفيهية لحفظة القرآن الكريم.
مديرية أوقاف حلب تفتتح معرض السيرة النبوية الأول في حلب
خلال نفس الفترة، برز اهتمام ملحوظ بالسيرة النبوية، حيث أُقيمت معارض تعليمية وثقافية في محافظات حلب وحماة واللاذقية وحمص، هدفت إلى التعريف بمراحل حياة النبي الكريم محمد ومواقفه، وتسليط الضوء على القيم التي جسدها. وتألفت معارض “بالنبي أقتدي” من فعاليات ركزت على التطبيق العملي للسنة النبوية في الحياة اليومية، مع تشجيع الشباب على الاقتداء بالنبي محمد.
الدورات التخصصية في علوم القرآن والتجويد
بعد التحرير، شرعت وزارة الأوقاف في تعزيز التعليم القرآني وتطوير كفاءة الكوادر الشرعية من خلال سلسلة مبادرات علمية وتدريبية متخصصة، ضمن رؤية مؤسسية تهدف إلى تنظيم العمل القرآني وربطه بمعايير علمية.
وفي هذا الإطار، أطلقت وزارة الأوقاف عددًا من المشاريع الهادفة إلى تطوير التعليم القرآني، من أبرزها تشكيل مجلس علمي لشؤون القرآن الكريم، وتلا ذلك تعزيز التواصل المؤسسي مع مديريات الأوقاف في المحافظات، عبر زيارات تنسيقية متبادلة، مثل زيارة وفد أوقاف درعا لوزير الأوقاف والمفتي لتفعيل التعليم القرآني بشكل أكثر تخصصًا.

في هذا السياق، شهدت المساجد فعاليات قرآنية نوعية، منها كرسي القرآن الكريم وعلومه بإشراف نخبة من العلماء والقراء، على رأسهم الشيخ يحيى الغوثاني، إضافة إلى تنظيم ملتقيات قرآنية مثل ملتقى الصنمين تحت عنوان “مساجدنا منبع نهضتنا”، الذي جمع المشايخ ووجهاء المدينة وطلبة العلم، واختُتم بتكريم الحفظة الحاصلين على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم.
تزامن ذلك مع إطلاق برامج تدريبية استهدفت العاملين في الحلقات القرآنية، حيث أقامت دائرة الحلقات التربوية بوزارة الأوقاف دورة بعنوان “إحكام” لتأهيل المشرفين والمعلمين في الحلقات المسجدية، تلتها دورة “المنهجية الأنجح في العمل القرآني” التي قدمها الشيخ أحمد الخلوف.
واستكمالًا لهذا المسار، أطلقت الوزارة دورة علمية متخصصة بعنوان “التحفة المرضية في شرح المقدمة الجزرية المتكاملة”، بالتعاون مع مؤسسة البركة الخيرية ومركز سبيل الرشاد، قدّمها الشيخ سعد عبد الحكيم الأُبرش المجاز بالقراءات العشر الصغرى، وذلك لتعزيز علوم التجويد والقراءات.
وتوج هذا الحراك العلمي بإطلاق الدورة التخصصية الأولى في علم رسم المصحف الشريف، والتي نُظمت للمرة الأولى في دمشق ضمن فعاليات كرسي القرآن الكريم وعلومه في جامع العثمان، وقدمها الشيخ محمد علبي. وكل ذلك يعكس التطور المستمر في التعليم القرآني ومأسسته بشكل متكامل.
إحياء علوم الحديث ومجالس السماع
بعد التحرير، شهد الجامع الأموي في دمشق نشاطًا علميًا مميزًا على مستوى علوم الحديث، حيث بدأت وزارة الأوقاف بتنظيم مجالس سماع موطأ الإمام مالك في الجامع الأموي، ضمن جهود لإحياء السنة النبوية واستعادة الدور التاريخي لدمشق كمركز علمي وديني بارز في العالم الإسلامي.
واستمر انعقاد هذه المجالس بحضور نخبة من طلاب العلم والمهتمين بالفقه والحديث، في أجواء علمية أكدت حرص الوزارة على إعادة تفعيل منهج الإسناد وبث روح التعلم من أمهات كتب التراث الإسلامي.
وفي سياق متصل، أُطلقت مبادرة مجالس سماع صحيح البخاري، التي هدفت إلى تمكين الطلاب من التلقي المباشر عن أهل العلم وربطهم بسلسلة الإسناد العلمية وفق الأصول المعتمدة في التراث الإسلامي.
بالتوازي، أقيم برنامج “في ظلال الأحاديث” في عدد من المساجد، حيث قدم نخبة من العلماء شرح 16 بابًا من صحيح الإمام مسلم، لتعزيز الفهم العلمي والتفاعل المباشر مع النصوص الحديثية.
وتوج هذا الحراك العلمي بانعقاد المؤتمر الحديثي العالمي الأول برعاية وزارة الأوقاف تحت شعار “بلاد الشام إشراقة ميراث النبوة”، حيث أُعلن خلاله عن مشروع عالمي لسماع صحيح البخاري بمشاركة محدثين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وقد شكل هذا المؤتمر محطة مفصلية أكدت مكانة بلاد الشام ودمشق تحديدًا كمركز محوري في خدمة الحديث النبوي.
دورات تعليمية مدرسية وأسرية
بعد التحرير، وسعت وزارة الأوقاف ومديرياتها في المحافظات دور المساجد ليشمل برامج تربوية واجتماعية تهدف إلى تعزيز الوعي الأسري، في المرحلة الأولى، أُطلقت برامج تأهيلية للحياة الزوجية، أبرزها دورة “خير متاع الدنيا” ألقاها الشيخ عبد القادر السقا في جامع النوري الكبير.
وتزامن ذلك مع إطلاق برامج تربوية موجهة للفتيات، فقد نُفذ برنامج “القراءة العربية السليمة – الجزء الرشيدي” في عدد من مساجد حمص، وفي خطوة لتوسيع مفهوم التربية ليشمل البعد البدني والقيمي، أطلقت دائرة الحلقات التربوية في مديرية أوقاف حماة بالتعاون مع مديرية الرياضة دوري نجوم الحلقات المسجدية بمشاركة 19 فريقًا من طلاب حلقات المساجد.
وفي مرحلة متقدمة، أطلقت الأوقاف بالتعاون مع جمعية إعفاف الدورة التخصصية “صناعة المصلح الأسري” بحضور وزير الأوقاف محمد أبو الخير شكري، وشارك فيها خمسة عشر محاضرًا متخصصًا في الجوانب الشرعية والنفسية.

في الواقع، شهدت المساجد في سوريا إطلاق موجة واسعة من المبادرات التعليمية وبرامج شاملة تستهدف جميع الفئات العمرية، من الأطفال والشباب إلى النساء وكبار السن، ففي مرحلتها الأولى، اعتمدت هذه المبادرات أساليب تعليمية مبتكرة، شملت التعلم التفاعلي، المناقشات الجماعية، استخدام الوسائط الرقمية والعروض المرئية، إلى جانب تنظيم ورش عمل تطبيقية ومسابقات تعليمية تهدف إلى تنمية التفكير وتعزيز مهارات حل المشكلات لدى المتعلمين.
لاحقًا، توسعت البرامج لتشمل دروس دعم دراسي في المواد الأساسية لطلبة المدارس، بالإضافة إلى ورش علمية وتجريبية، وبرامج مراجعة مكثفة لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم واللغتين العربية والفرنسية، وتوجت هذه الجهود بإطلاق مبادرة “علمٌ يُنتفع به” لتقديم دورات مراجعة مجانية دعمت آلاف الطلاب قبيل امتحاناتهم الدراسية.
وفي سياق موازٍ، أُطلقت برامج تعليمية للكبار شملت محو الأمية، وتعلم اللغات الأجنبية، إلى جانب دورات في الأخلاق العامة، وتظهر هذه البرامج في عامها الأول بعد التحرير إمكانات كبيرة لدور المسجد.
المرأة بعد التحرير: دور فاعل في الحياة الدعوية والتربوية والمسجدية
شهد العمل الدعوي النسائي بعد التحرير تطورًا ملحوظًا، حيث تولت الكوادر النسائية في المساجد دورًا فاعلًا في تعزيز الوعي الديني والثقافي بين النساء والفتيات. شملت هذه الجهود تنظيم محاضرات توعوية ودورات تدريبية وورش عمل تعليمية تناولت القيم الإسلامية والتربية الأسرية، إلى جانب الإشراف على حلقات القرآن الكريم والأنشطة الثقافية والمسابقات التعليمية.
توسع هذا الدور لاحقًا عبر إطلاق مبادرات نوعية مثل “امرأة تبني أمة” ومبادرة “وقل اعملوا” التي ركزت على تعزيز المشاركة النسائية في النشاطات التربوية والدينية، كما نظم مكتب الدعوة النسائية التابع للأوقاف دورات ومحاضرات تحت عنوان “كوني قدوة”.

وشهدت المحافظات السورية فعاليات متنوعة، ففي مسجد الدروبي قُدمت محاضرة بعنوان “كوني قدوة في العلاقات الاجتماعية” قدمتها شفيقة عبد المطلب، تناولت فيها الالتزام بالأخلاق وبناء العلاقات الأسرية والمجتمعية المتوازنة. وفي حماة، أُقيمت ندوة فكرية بعنوان “الغزو الفكري وسؤال الهوية” قدمتها الدكتورة ناهد باشوري والدكتورة أسماء الغباني، وامتدت إلى عدة مساجد في المحافظة.
وفي حمص، أقيمت ندوات حوارية بعنوان “القلب المؤمن في زمان التحدي” وأدوار النساء في المرحلة الانتقالية”، بينما نظم ملتقى دعوي نسائي في جامع عمر بن الخطاب باللاذقية. كما قدمت الداعية آسيا الشيخ محاضرة بعنوان “العُروة الوثقى” في المسجد الكبير ببلدة تيزين بحماة.
وترافقت هذه الأنشطة مع مسابقات ثقافية وعروض مرئية في العديد من المساجد، مثل ملتقى “المداومة على العمل الصالح.. شعار المؤمن”، ومحاضرات حول الوسطية في ضوء الكتاب والسنة في اللاذقية، وملتقيات دعوية في حمص، ودورات حول مهارات التواصل.
وبالتالي يمكن القول، إن المرأة أصبحت المرأة بعد التحرير شريكًا في الحياة المسجدية، وأنها تجاوزت دورها التقليدي كمعلمة، لتصبح فاعلة في الأنشطة التربوية والثقافية والاجتماعية.

صعود المصلحين الشباب بعد التحرير
شهد المشهد الديني بعد التحرير تحولاً نوعيًا في دور الدعاة والعلماء، مع بروز جيل جديد من المصلحين الشباب الذين اتسموا بالاستقلالية والقدرة على التفاعل، ولم يقتصر دورهم على إلقاء الدروس، بل شمل إطلاق برامج تعليمية ومبادرات متكاملة، تضمنت برامج تربوية للأطفال والشباب، إضافة إلى الإشراف على أنشطة ثقافية وفنية ورياضية داخل المساجد.
كيف تقيم المراكز الدعوية الاحتياجات الشبابية والفكرية في سوريا بعد التحرير؟
وتكشف هذه الديناميكية عن مشهد مسجدي جديد قائم على توازن وتكامل بين ثلاث فئات رئيسية، العلماء التقليديون الذين أشرفوا على الدروس الدينية التقليدية، والناشطون التربويون الذين قدموا برامج تعليمية حديثة وورش تدريبية، والدعاة الإصلاحيون الذين قاموا بتحديث الخطاب الديني ليواكب الواقع المعاصر.
وفي الواقع، عملت وزارة الأوقاف على تمكين الشباب المستقلين من الانخراط في العمل الدعوي والمسجدي، خاصة عبر التعاون مع مركز منار المصلحين الذي يديره شباب صغار مفعمون بالحيوية، وقد أطلق المركز بالتعاون مع الوزارة برامج تدريبية وحلقات تعليمية تنموية لصقل مهارات الأطفال والشباب.
كيف أعادت وزارة الأوقاف تعريف دورها بعد التحرير؟
يمكن القول إن أبرز ما يميز وزارة الأوقاف بعد التحرير هو تكيفها مع الواقع الاجتماعي والنفسي للشباب، واهتمامها بقضاياهم المعاصرة، حيث انتقلت الوزارة ومؤسساتها من إدارة الشأن الديني كنشاط محدود الوظيفة إلى فاعل مؤسسي متكامل يعمل على المستويات الدعوية والتعليمية والاجتماعية والثقافية.
في البداية، انصب الجهد على إعادة تنظيم التعليم الشرعي وتطوير بنيته المؤسسية، ولم تعد حلقات التحفيظ نشاطًا تقليديًا، بل جرى توسيعها لتشمل أنشطة جماعية، وورش عمل، ورحلات ثقافية، وبرامج تربوية.

كما أعيد افتتاح الثانويات الشرعية في عدد من المحافظات، مثل درعا والغاب وحمص، ويعبر افتتاح ثانويتي سمية بنت الخياط وعمار بن ياسر الشرعيتين في منطقة الغاب، إلى جانب الثانوية الشرعية للبنات في بلدة نمر بدرعا، وثانوية القصير في حمص، عن انتقال التعليم الشرعي إلى مرحلة التأسيس المؤسسي المنظم، وتوجهًا واضحًا من الوزارة نحو الوصول إلى المناطق الريفية، وعدم حصر التعليم الديني في المراكز الحضرية.
وفي المرحلة التالية، ركزت الوزارة على توحيد المرجعيات التعليمية والدينية وربط التعليم الشرعي بالمشروع الوطني للدولة الجديدة، ولذا عُقدت اجتماعات مركزية وميدانية شملت وزير الأوقاف ومديري الأوقاف والمفتين، لتطوير المناهج وتحسين البيئة التعليمية، ورفع كفاءة المعلمين والإداريين.
كما جرى تنفيذ جولات ميدانية في مختلف المحافظات لمتابعة واقع العمل الدعوي والتعليمي، ومتابعة أداء الأئمة والخطباء، والوقوف على احتياجات المراكز الدينية والمجتمعية، وعقدت الأوقاف سلسلة اجتماعات مع عدد من الأئمة والخطباء، والاستماع إلى آراء ومقترحات الأئمة، إضافة إلى طرح أبرز المعوقات التي تواجههم في الميدان والعمل على معالجتها.

كما واصلت الوزارة سلسلة واسعة من الدورات والبرامج التدريبية لتطوير الأداء الإداري والدعوي للعاملين، شملت دورات في صناعة المصلح الأسري، والتخطيط الاستراتيجي للعمل المسجدي، وإعداد معلم القرآن التربوي القيادي.
على صعيد العمل الدعوي، نشطت الوزارة في تعزيز الدور الروحي والرمزي للمساجد، عبر حملات مثل “استمطار خيرات السماء”، وإقامة صلوات الاستسقاء والخسوف في مختلف المحافظات. كما قامت وفود من وزارة الأوقاف بواجبات رمزية ومجتمعية، مثل تقديم العزاء لأهالي الشهداء في بيت جن.
وفي مجال تمكين المرأة، أولت وزارة الأوقاف اهتمامًا متزايدًا بدور الكوادر النسائية في العمل الدعوي والمسجدي من خلال اجتماعات مباشرة مع المعلمات والمدرسات، وتنظيم دورات وملتقيات دعوية نسائية في محافظات عدة.

وعلى المستوى المعرفي والثقافي، مثل إحياء المكتبة الوقفية في حلب نقطة تحول نوعية، فقد عُقدت ورش عمل ومؤتمرات داخل سورية وخارجها، بمشاركة وزارتي الأوقاف والثقافة ومؤسسات أكاديمية دولية لبحث سبل ترميم المكتبة وتفعيلها، ويعكس هذا التوجه كسر الفصل بين الدين والثقافة، وإعادة دمجهما ضمن مشروع وطني يعيد للتراث دوره.
كما شهد العام الذي أعقب التحرير نشاطًا خارجيًا لافتًا، شمل زيارات رسمية للملكة العربية السعودية وقطر وتركيا ومورتنيا، وإندونيسيا والبرازيل، عُقدت لقاءات موسعة مع مسؤولين ومؤسسات دينية ركزت على فتح مسارات جديدة للتبادل العلمي والدعوي.
تعكس هذه التحركات والزيارات الدولية استراتيجية منهجية لإعادة تموضع سوريا دينيًا بعد التحرير، وتوجهها نحو تعزيز الانفتاح على العالم الإسلامي والمجتمعات المسلمة في مختلف القارات، وبناء شبكة علاقات دينية وثقافية في العالم الإسلامي.
أما في الجانب الرقمي، أطلقت وزارة الأوقاف مجموعة من المبادرات الإلكترونية الدعوية المبتكرة، كان أبرزها منصة إرشاد التي تهدف إلى تقديم محتوى ديني للمجتمع عبر الوسائط الرقمية، وتتيح المنصة للمستخدمين الاطلاع على المحاضرات والدروس، وطرح الأسئلة الشرعية، والحصول على الإجابات من العلماء والمتخصصين.
على المستوى المؤسسي، افتتحت مديرية أوقاف محافظة حماة مبنى جديدًا بحضور رسمي وشعبي. كما شارك جناح الوزارة في معرض دمشق الدولي بعروض مبتكرة تسلط الضوء على مشروعاتها ومبادراتها المجتمعية.
في إطار تفعيل العمل الخيري والتنموي، قدمت وزارة الأوقاف دعمًا ماليًا بقيمة ثلاثة مليارات ليرة سورية لصالح مشفى المواساة والمجتهد، ضمن حملة تبرعات تشرف عليها الوزارة. وبالتوازي، وسع فريق “تناصح” التابع للأوقاف نشاطاته الميدانية في حمص عبر توزيع هدايا على الناس في الأسواق خلال شهر رمضان لتعزيز التواصل مع المجتمع، بجانب مبادرات توعوية ميدانية في المدن الجامعية، وتزويد الكليات بمصليات ومكتبات.
أما في مجال الحج، فقد اعتمدت الوزارة ضوابط وشروطًا واضحة لحج 1447 هـ، ما يعكس الانتقال من إدارة الأزمات إلى التنظيم المؤسسي، والحرص على الشفافية وتكافؤ الفرص، واستعادة الدور الإداري للوزارة.
مديرية أوقاف ريف دمشق تفتتح مسجد معلولا الكبير بعد ترميمه
كما برز توجه واضح نحو ترسيخ التعايش الفكري ضمن السياسة الدينية، من خلال اعتماد مقاربة إدماجية تقوم على التسامح مع مختلف التيارات والمذاهب الإسلامية، كالسلفية والصوفية والأشعرية، ما دامت تلتزم بتجنب خطاب الإقصاء والتفرقة.
وقد حرص الشرع ودائرته الداخلية على صياغة توازن دقيق من خلال وضع كل من الشخصيات السلفية والأشعرية على التوازي، وعدم فرض رؤية دينية واحدة أو توحيد المجال الديني قسرًا، بل سعوا إلى تهدئة التوترات، والحد من الصراعات العقائدية.

في النهاية، يكشف مجموع هذه المبادرات والدورات والبرامج انتقال وزارة الأوقاف بعد التحرير إلى دور مؤسسي متكامل، ينسج صلة واضحة بين الدعوة والتعليم والأسرة والثقافة والبعد المجتمعي، ويعيد تعريف المؤسسة الدينية بوصفها شريكًا فاعلًا في بناء الإنسان والمجتمع.
كما يعكس هذا التحول سعيًا جادًا لاستعادة الثقة بالمؤسسة الدينية كمركز للتوجيه والتثقيف وخدمة الصالح العام، لا كأداة ضبط أو خطاب معزول كما كان في النظام البائد، في دلالة واضحة على انطلاق مرحلة جديدة من العمل الديني في سوريا.