فرضت بريطانيا عقوبات على فصائل وقياديين متورطين في أعمال عنف ضد مدنيين وقعت في الساحل السوري خلال مارس/آذار 2025، من بينهم القياديان محمد الجاسم (أبو عمشة) وسيف بولاد (أبو بكر)، وفصائل “السلطان سليمان شاه” و”السلطان مراد” و”الحمزة”، وهي جهات انضوت تحت مظلة وزارة الدفاع السورية التي لا تزال في طور التأسيس بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
وتضع هذه العقوبات مطبّات وتحديات أمام مسار بناء المؤسسة العسكرية، لا سيما أن الأسماء نفسها سبق أن خضعت لعقوبات أمريكية وأوروبية على خلفية انتهاكات، ما يفرض تداعيات سياسية وأمنية محتملة على عمل وزارة الدفاع وبنية الجيش السوري الجديد، ويعيد طرح خيارات الحكومة وإجراءاتها في التعامل مع عقوبات جزئية تتقاطع مع ملف الانضباط والمساءلة داخل الجيش.
في 19 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أعلنت الخارجية البريطانية فرض عقوبات على ستة أفراد وثلاثة فصائل موزعة على أربعة أفراد وثلاث كيانات لدورها في ارتكاب فظائع يُشتبه في أنها وقعت خلال ذروة الحرب في سوريا، وفي أعمال عنف شهدتها محافظتي اللاذقية وطرطوس مطلع عام 2025. كما فرضت عقوبات على شخصين قدّما دعمًا ماليًا لنظام الأسد.
وتشمل العقوبات تجميد الأصول، وحظر السفر، وعدم الأهلية لشغل مناصب إدارية، وطالت كلًا من:
- غياث دلا – قائد عسكري سابق في نظام الأسد، وقائد ميليشيا موالية له (قوات الغيث).
- مقداد فتيحة – قائد عسكري سابق للنظام، وقائد ميليشيا موالية له.
- مدلل خوري – رجل أعمال سوري/روسي ساعد في تمويل أنشطة نظام الأسد.
- عماد خوري – رجل أعمال سوري/روسي ساعد في تمويل أنشطة نظام الأسد.
- محمد الجاسم – قائد فرقة “السلطان سليمان شاه” (قائد الفرقة 62 في الجيش السوري الجديد).
- سيف بولاد – قائد فرقة “الحمزة” (قائد الفرقة 76 في الجيش السوري الجديد).
ووفق العقوبات، تخضع الفصائل التالية لتجميد الأصول:
- فرقة “السلطان مراد”، ويقودها فهيم عيسى (العقوبات لم تشمل فهيم عيسى بشكل شخصي).
- فرقة “السلطان سليمان شاه”، يقودها محمد الجاسم.
- فرقة “الحمزة” (الحمزات)، يقودها سيف بولاد.
“ماضل في جيش تخافو منه هذا الجيش أبنائكم وأولادكم”.. كلمة العميد محمد الجاسم “أبو عمشة” في ذكرى التحرير من أمام محافظة حماة. pic.twitter.com/WbZlC6pPxd
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 8, 2025
واعتبرت الخارجية البريطانية أن حزمة الإجراءات والعقوبات الجديدة تشكل جزءًا من التزامها بالسعي إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات المرتكبة ضد الشعب السوري، سواء من قبل نظام الأسد السابق أو من قبل جهات فاعلة أخرى.
وقالت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر إن العقوبات تبعث برسالة واضحة إلى كل من يسعى لتقويض مستقبل جميع السوريين السلمي والمزدهر، مضيفة أن المملكة المتحدة ما تزال تقف إلى جانب الشعب السوري وتدعم الحكومة السورية في تحقيق انتقال سياسي شامل، معتبرة أن المساءلة والعدالة لجميع السوريين أمران حيويان لضمان التوصل إلى تسوية سياسية ناجحة ومستدامة في سوريا.
وشهد الساحل السوري توترات أمنية واشتباكات بين عناصر من وزارة الدفاع وفلول النظام السابق، بدأت بكمين نفّذه مسلحون موالون للأسد استهدفوا عناصر حكومية، قبل أن تتوسع المواجهات وتتخللها انتهاكات ذات طابع طائفي وانتقامي، وأسفرت عن مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون خلال الفترة الممتدة من 6 إلى 10 مارس/آذار 2025.

ولا تعد العقوبات البريطانية الأولى من نوعها، إذ أدرج الاتحاد الأوروبي في مايو/ أيار الماضي، محمد الجاسم وسيف بولاد وفصائل “السلطان سليمان شاه”، و”الحمزة” و”السلطان مراد” على قوائم عقوباته بسبب مسؤوليتهم عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الساحل السوري، رغم نفي “أبو عمشة” ارتكاب عناصر فرقته أي انتهاكات.
وفي أغسطس/آب 2023، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مماثلة على فرقة “السلطان سليمان شاه” وقائدها محمد الجاسم وشقيقه وليد الجاسم، وفرقة “الحمزة” وقائدها سيف بولاد لتورطهم في انتهاكات بالشمال السوري، وقد اعتبر “أبو عمشة” حينها أن هدف العقوبات “سياسي بحت” وأنه لا يعيرها أي اهتمام.
مخاطر بثلاثة أبعاد
بعد سقوط نظام الأسد، كان تأسيس جيش جديد أحد الملفات الرئيسية التي عملت عليها الإدارة السورية الجديدة، واتخذت خطوات مبكرة لذلك، بدءًا من اجتماع الرئيس السوري أحمد الشرع مع قيادات الفصائل لبدء عملية انخراطها في الجيش، ثم الإعلان عن حل التشكيلات العسكرية، وصولًا إلى الشروع في هيكلة الجيش الجديد وإجراء تعيينات ضمن قياداته.
وبعد منح رتبة عميد لكل منهما، جرى تعيين محمد الجاسم قائدًا لـ”الفرقة 62″ وتعيين سيف بولاد قائدًا لـ”الفرقة 76″ ضمن صفوف الجيش السوري الجديد، وظهرا خلال لقاءات رسمية، وتدريبات واجتماعات عسكرية، وفعاليات مجتمعية.
وتأتي العقوبات البريطانية على شخصيات وفصائل، بعضها منضوٍ ضمن مؤسسات الدولة، في وقت تشهد فيه سوريا انفتاحًا دوليًا في مرحلة ما بعد الأسد، بالتوازي مع مساعي الإدارة السورية الجديدة لإعادة ترتيب علاقاتها الخارجية، وإعادة تقديم سوريا على الساحة الدولية، والعمل على إطلاق مسار التعافي الاقتصادي بعد إزالة عقوبات واسعة النطاق أثقلت كاهل البلاد.
ويقول الخبير العسكري والاستراتيجي العميد عبد الله الأسعد لـ”نون بوست” إن العقوبات تؤثر بشكل كبير على آلية عمل وزارة الدفاع، وعلى عملية الإمداد القتالي، وكذلك على تفاعل الجيش وتعامله مع جيوش العالم ودول الجوار، إضافة إلى انعكاسها على منظومتي التأمين القتالي والإداري، معتبرًا أن هذه التداعيات تثير قلقًا بالغًا.

أما المتخصص في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان، المعتصم الكيلاني، فيرى أن العقوبات البريطانية على شخصيات وفصائل منضوية في الجيش السوري الجديد تشكل خطرًا حقيقيًا على تدريب وتمكين الجيش ككل، حتى لو كانت العقوبات “جزئية”، مشيرًا إلى أن التجربتين العراقية والليبية تثبتان أن وجود وحدات معاقَبة داخل الجيوش يؤدي إما إلى تدريب مجتزأ وضعيف كما حدث في العراق، أو إلى شلل شبه كامل في بناء جيش وطني كما حصل في ليبيا.
ويلخص الكيلاني في حديثه لـ”نون بوست” مخاطر وتداعيات هذه العقوبات في ثلاث نقاط رئيسية وهي:
- تأثير مباشر على التدريب والتمكين العسكري، لأن وجود أفراد وفصائل معاقَبة داخل الجيش يخلق ما يُعرف دوليًا بـ”تلوّث قانوني للمؤسسة”، ما يمنع المملكة المتحدة والدول المتحالفة قانونيًا من تقديم أي دعم أو تدريب، حتى غير القتالي، للوحدات أو القادة المدرجين على قوائم العقوبات، ويشمل ذلك التدريب على القيادة والسيطرة، والانضباط العسكري، والقانون الدولي الإنساني، وبناء الهياكل المؤسسية، وفق ما نصت عليه أنظمة العقوبات البريطانية (UK Sanctions and Anti-Money Laundering Act – SAMLA) ولوائح سوريا التنفيذية.
- تعطيل الاعتراف الدولي بالمؤسسة العسكرية، فالعقوبات لا تقتصر على تجميد الأصول أو حظر السفر، إنما تحمل حكمًا سياسيًا وأخلاقيًا بأن الجهات المعاقَبة لم تُظهر التزامًا كافيًا بالمحاسبة وحماية المدنيين، ووجود هذه الفصائل داخل الجيش يضعف الثقة الدولية بأي “جيش وطني جديد” ويجعل الدول الغربية تتعامل بحذر شديد أو تمتنع عن التعاون الأمني، وهذا ما يفسر تكرار العقوبات الأمريكية والأوروبية والبريطانية على نفس الأسماء.
- مخاطر التفكك الداخلي وضعف التوحيد العسكري، إذ يمكن أن تؤدي العقوبات إلى جيش غير متجانس يتكوّن من وحدات “نظيفة قانونيًا” وأخرى معاقَبة أو مثقلة بملفات انتهاكات، ما يترجم عمليًا إلى تفاوت في التدريب، واختلاف في العقيدة والانضباط، وصعوبة في القيادة والسيطرة الموحدة.
ما خيارات دمشق؟
عقب اشتباكات الساحل السوري، شكّلت الحكومة السورية لجنة للتحقيق في الأحداث ومسبباتها، وأعلنت توقيف واعتقال عدد من المتورطين، حيث أكد الرئيس الشرع التزام سوريا بمحاسبة كل من يعتدي على المدنيين باعتبارها دولة قانون، فيما بدأت جلسات محاكمة المتورطين في أحداث الساحل في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول الحالي، ولا تزال مستمرة.
تواصل “نون بوست” مع مكتب العلاقات الصحفية في وزارة الدفاع السورية لطلب توضيح وتعليق حول العقوبات البريطانية الأخيرة، إلا أنه لم يتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.
ويرى الخبير القانوني المعتصم الكيلاني في حديثه لـ”نون بوست” أن أمام الحكومة السورية عدة خيارات وسيناريوهات للتعامل مع العقوبات البريطانية، تختلف في آثارها على مسار بناء المؤسسة العسكرية، ويستند في ذلك إلى تجارب دولية سابقة، وهي:
أولًا، سيناريو العراق “العزل الجزئي”، حيث استمر تدريب الجيش العراقي بدعم أمريكي وأطلسي، مع استبعاد فصائل منضوية في “الحشد الشعبي” والمُدرجة على قوائم العقوبات من أي برامج تدريب أو تمكين، وأسفر هذا النموذج عن تدريب جزئي وبنية عسكرية غير متجانسة، إلى جانب بطء في عملية الإصلاح المؤسسي. وهذا السيناريو ممكن في سوريا في حال جرى عزل الفصائل المعاقَبة فعليًا عن التدريب ومواقع القيادة، لكن دون حل جذري لملف المحاسبة.
ثانيًا، سيناريو ليبيا “الجمود شبه الكامل”، فقد أدى وجود ميليشيات معاقَبة وغير منضبطة داخل المشهد العسكري إلى فشل محاولات الدمج الحقيقي، وامتناع دولي شبه كامل عن تقديم التدريب أو التمكين. وكانت النتيجة تعثر بناء جيش وطني محترف، واستمرار الاعتماد على ترتيبات أمنية هشة، وهو سيناريو يُعد الأسوأ في حال بقيت الفصائل المعاقَبة ضمن الجيش دون محاسبة أو فصل حقيقي.
ثالثًا، مسار التصحيح وهو الأفضل لتفادي العقوبات، كما أنه المسار الذي تطلبه عمليًا بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ويقوم على عدة نقاط منها فصل تنظيمي وقانوني واضح للشخصيات والفصائل، ودمج كامل في الجيش السوري، وذلك من أجل عدم التأثير على التدريب والتمويل والقيادة، وإجراء مسار محاسبة موثوق يتمثل بتحقيقات حقيقية، وإحالات قضائية، أو عزل رسمي معلن، واستخدام القنوات القانونية لمراجعة العقوبات عبر تقديم طلبات رسمية لمراجعة أو إلغاء قرارات الإدراج.
رابعًا، بناء الثقة الدولية التدريجية، ويرتكز هذا الخيار على التعاون مع المنظمات الحقوقية، والسماح بعمليات التوثيق، وتعزيز الشفافية المؤسسية، وهو السيناريو الوحيد الذي يفتح الباب مستقبلًا أمام التدريب الدولي، والتمكين المؤسسي، وتوسيع نطاق الاعتراف بالجيش السوري الجديد.