مع حلول الذكرى الـ 74 لاستقلال ليبيا في 24 ديسمبر، يبدو المشهد السياسي في البلاد أبعد ما يكون عن الاحتفال، فقد تحول هذا التاريخ الرمزي، الذي كان يُفترض أن يشهد منذ عام 2021 ولادة سلطة منتخبة، إلى تذكير سنوي بالفشل المستدام.
وفيما يغرق الشارع الليبي في أزمات لا حصر لها، تدور في الكواليس معركة صامتة لكنها شرسة، بين مجتمع دولي يتطلع لتعظيم نفوذه، وقوى أمر واقع محلية تحصنت خلف تحالفات المصالح والنفط لتقويض أي تغيير قادم.
لكن، في إحاطة نارية أمام مجلس الأمن الدولي يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2025، قلبت المبعوثة الأممية “هانا تيته” الطاولة على الجميع، لتعلن انتهاء زمن المهل الدبلوماسية، مبينة أنه لا ينبغي أن تحتجز العملية السياسية رهينة تقاعس “أصحاب مصلحة”.
أين تكمن العقدة السياسية؟
جوهر الأزمة لم يعد تقنيًا بقدر ما هو سياسي: تعثر الاتفاق على القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية، وتحديدًا في مسألتين:
شروط الترشح للرئاسة: الخلاف يدور حول أهلية مزدوجي الجنسية والعسكريين وآليات “التخلي” عن الصفة/الجنسية، وهي نقطة تُقرأ في الداخل على أنها صياغة قواعد ترشح تفصل على مقاس فاعلين بعينهم.
من يدير المرحلة التنفيذية حتى الانتخابات؟: مجلس النواب في الشرق يشترط حكومة موحدة/بديلة قبل الاقتراع، بينما حكومة الوحدة في الغرب ترفض عمليًا إخراج الملف من يدها دون ضمانات.
وبحسب ما نُقل عن إحاطة تيته، فإن مهمتين محوريتين لم تتحققا:
- إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات (HNEC)
- تعديل الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات
وأسفر ذلك عن غياب الثقة المتبادلة بين المؤسسات، ما يدفع كل طرف للتعامل مع “الانتقال” كأداة لضمان البقاء، لا كجسر نحو شرعية انتخابية.

خيارات البعثة الأممية لحلحلة الأزمة
1- ضغط سياسي عبر “آلية بديلة”
في تطور لافت يمثل تصعيدًا في لهجة البعثة الأممية، أعلنت هانا تيته نيتها تقديم “آلية بديلة” لتجاوز مجلسي النواب والدولة (الجسمين التشريعيين في البلاد) وذلك في إحاطتها المقبلة في فبراير/شباط 2026.
كيف تُصاغ الآلية؟
لم تُعلن تفاصيل الآلية بعد، لكن بناء على سوابق الأمم المتحدة في ليبيا، فيمكنها أن تتخذ أشكالًا مختلفة أبرزها:
- سحب صلاحية صياغة القوانين الانتخابية من مجلسي النواب والدولة، ونقلها إلى لجنة فنية أو سياسية موسعة.
- قد تلجأ البعثة إلى طرح قاعدة دستورية جاهزة للاستفتاء أو الاعتماد المباشر، مدعومة بقرارات مجلس الأمن.
- تشكيل لجنة عليا للإشراف على الانتخابات تتمتع بصلاحيات تنفيذية محدودة، تتجاوز الحكومتين المتصارعتين.
2- مظلة اجتماعية عبر “الحوار الهيكلي”
كجزء من استراتيجيتها للضغط على الأجسام السياسية، أطلقت بعثة الأمم المتحدة مبادرة “الحوار الهيكلي” منتصف ديسمبر 2025 في طرابلس، وهي جلسة ضمت 124 مشاركًا يمثلون طيفًا واسعًا من المجتمع الليبي، بما في ذلك الأحزاب، المجتمع المدني، الأكاديميين.
الهدف الاستراتيجي من هذا الحوار تمثل في خلق “كتلة حرجة” مجتمعية تضغط باتجاه الانتخابات، وتوفر أيضا غطاءً شعبيًا لـ “الآلية البديلة” التي تعتزم تيته طرحها.
واجهت هذه المبادرة معارضة فورية من معسكر الشرق بقيادة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح واللواء الانقلابي خليفة حفتر وداعميه.
فقد انتقدها المندوب الروسي في مجلس الأمن بشدة، مشيرًا إلى أن المناطق الشرقية والجنوبية كانت “ممثلة تمثيلًا سيئًا” وحذر من أن مثل هذه المبادرات قد تخلق “خطوط صدع إضافية” بدلًا من الحل.
تقاسم الكعكعة
ولأن المسار السياسي متعثر بين حكومة الغرب برئاسة عبد الحميد الدبيبة والشرق برئاسة أسامة حماد ومن خلفه صالح وحفتر، تتجه النخب إلى تسويات اقتصادية مالية لتأمين المصالح وتخفيف أدوات الضغط، وهو ما يفسر سبب ظهور اختراق اقتصادي كبير بينما ظلت السياسة مكانها.
ففي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أعلن عن اتفاق بين ممثلين عن مجلسي النواب بالشرق والدولة بالغرب بخصوص “برنامج التنمية الموحد”، والذي أسفر عن “إنشاء إطار واضح لتوحيد قنوات الإنفاق وتخصيص الأموال لمشاريع التنمية”.
وسوق مصرف ليبيا المركزي الاتفاق على أنه خطوة لتعزيز الاستقرار المالي وتوحيد جهود التنمية، في إعادة رسم لخريطة التحالفات والمصالح.
وكان الإنفاق التنموي تاريخيًا قناة مركزية للتنافس على عوائد النفط بين السلطات المتنازعة. ورأت وكالة رويترز أن الاتفاق قد يتحول عمليًا إلى آلية لتقاسم العوائد، خاصة أنه يأتي في سياق انتعاش إنتاج النفط الليبي الذي اقترب من 1.4 مليون برميل يوميًا أواخر 2025.
وتنبع أهمية الاتفاق للأطراف في أنه يخلق “تهدئة مصلحية” تقلل دوافع التصعيد، فكل طرف يحصل على حصة/مسار إنفاق، ما يجعل تعطيل الانتخابات أقل كلفة على النخب، لكنه قد يجعل الدولة أقرب إلى تقاسم وظيفي طويل الأمد.
وفي ظل هذا التقاسم المحلي والدولي للكعكة الليبية، يعيش المواطن الليبي واقعًا مغايرًا. فرغم الحديث عن “برنامج تنمية موحد” ومليارات النفط، يعاني الليبيون من أزمة سيولة متكررة وتضخم في الأسعار.
وتسود تخوفات من أن “التنمية” الموعودة ستتركز في مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تستفيد منها الشركات الأجنبية والمحلية المرتبطة بالنخبة، دون أن تنعكس تحسنًا مباشرًا في الخدمات الأساسية والقدرة الشرائية.

دور أمريكي مزدوج
ولعل المتغير الأكثر تأثيرًا في المشهد الليبي في أواخر 2025 هو التحول الجذري في السياسة الأمريكية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
إذ تخلت واشنطن عن نهج “القيادة من الخلف” أو التركيز الحصري على القيم الديمقراطية، متبنيةً استراتيجية “المسار المزدوج” التي يقودها شخصيتان رئيسيتان: مسعد بولس وستيف ويتكوف.
مسعد بولس
- رجل أعمال لبناني أمريكي وصهر ترامب ومستشاره للشؤون العربية والأفريقية، برز كمهندس للسياسة الأمريكية الواقعية في ليبيا.
- ينطلق من قناعة بأن استقرار ليبيا لا يجري عبر صناديق الاقتراع التي قد تأتي بخصوم، بل عبر “إشباع المصالح الاقتصادية” للمتصارعين.
- شكلت زيارته إلى طرابلس وبنغازي في يوليو/تموز 2025 نقطة تحول بعد أن التقى حفتر والدبيبة كاسرا المحرمات الدبلوماسية السابقة.
- خلال اللقاءات، طرح الدبيبة مقترحًا لشراكة اقتصادية ضخمة بقيمة 70 مليار دولار مع الولايات المتحدة، تشمل مشاريع البنية التحتية والطاقة.
- لم تكن هذه مجرد وعود، فقد رعى بولس توقيع عقد بقيمة 235 مليون دولار لشركة Hill International الأمريكية لتطوير البنية التحتية للغاز.
- رحبت السفارة الأمريكية ومسعد بولس شخصيًا باتفاق “برنامج التنمية الموحد” في دعم صريح يضفي غطاءً أمريكيًا على صفقة المحاصصة.
ستيف ويتكوف
- يتولى المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف إدارة الملف الجيوسياسي ضمن رؤية ترامب للمنطقة، بخلاف بولس الذي يدير “البازار الداخلي”.
- صرح ويتكوف علنًا بأن ليبيا مرشح محتمل للانضمام إلى “اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل”.
ويبدو أن الاستراتيجية الأمريكية تقوم على مقايضة تغض فيها واشنطن الطرف عن الفساد الداخلي وغياب الديمقراطية (مهمة بولس)، مقابل تعاون ليبي كامل في ملفات الطاقة، طرد “الفيلق الأفريقي” الروسي، والانخراط في مسار التطبيع (مهمة ويتكوف).
وتعمل العقيدتان بتكامل ظاهري: بولس يهدئ الجبهة الداخلية بالمال والاستثمار، مما يخلق الظروف لويتكوف للتحرك استراتيجيًا.
السيناريوهات المستقبلية
بناءً على معطيات ديسمبر/كانون الأول 2025، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية للعام 2026:
1- ترسيخ التقسيم الوظيفي: تستمر تسويات الإنفاق/النفط كبديل عن الحسم الانتخابي، وتتحول الانتخابات إلى وعد مؤجل.
2- صدام مؤسسي إذا فُرضت آلية بديلة: البعثة تدفع لمسار جديد، فترد الأجسام المتضررة بتعطيل الاعتراف/التعاون، وربما استخدام أدوات ضغط اقتصادية.
3- اختلال توازنات خارجي: أي ضغط خارجي “أعلى من اللازم” على ملفات سيادية/تحالفات قد يفتح باب تصعيد أمني؛ وفق رويترز.
في المحصلة، لم يعد المشهد الليبي قابلًا للاختزال في ثنائيات تقليدية من قبيل “الشرعية مقابل التمرد” أو “الديمقراطية مقابل الاستبداد”، فما يتبلور اليوم هو نموذج أكثر براغماتية، تُدار فيه الأزمة بوصفها منظومة مصالح متشابكة، لا أزمة انتقال سياسي مؤقت.
وقد أظهرت النخب السياسية والعسكرية الليبية قدرة عالية على إعادة إنتاج نفسها، ليس فقط عبر تعطيل الاستحقاقات الانتخابية، بل أيضًا عبر استيعاب الضغوط الدولية وتفريغها من مضمونها، إلى حد يمكن وصفه بـ”تدجين” المجتمع الدولي داخل معادلة الاستقرار الشكلي.
في هذا السياق، تبدو “الآلية البديلة” التي تلوّح بها الأمم المتحدة محاولة أخيرة لاستعادة منطق الحلول المعيارية القائمة على الشرعية الانتخابية وبناء المؤسسات، غير أن هذه المقاربة تصطدم بواقع دولي متحوّل، تتراجع فيه الاعتبارات القيمية لصالح سياسات الصفقات وتوازنات المصالح.