“لو جرّبتِ الحزن لما كنتِ بهذه القوّة.. الكلام سهل، ومن ينصح ليس كمن عاش”. بهذه الكلمات واجهت امرأة مكلومة ضيفةَ إحدى جلسات الدعم النفسي، من دون أن تعلم أنّها تخاطب ناجيةً بدأت بالكاد تستعيد قدرتها على الوقوف في وجه الفقد. ناجية خرجت حيّة من تحت الأنقاض، بعد مجزرة سلبتها زوجها وابنها وأمّها وأخاها، وأكثر من عشرين شخصًا من أحبّتها، وحرمتها لفترة من البصر والحركة معًا.
هنادي سكيك، مديرة وحدة الاستشارات والتدريب في مؤسسة مريم، ورئيسة قسم الدعم النفسي في مؤسسة سمير، حين تنفّست الحياة من جديد، أدركت أنّ ألمها الشخصي يمكن أن يتحوّل إلى سند لنساء يشبهنها، فاختارت أن تمضي في طريق الدعم، لا من موقع الوعظ، بل من قلب التجربة نفسها.
في “نون بوست” نحاور هنادي سكيك حول حياة زوجات الشهداء في غزة، كما تراها وتعيشها يوميًا، في ظل إبادةٍ دامت أكثر من عامين، فقد خلالها القطاع نحو 70 ألفًا من أبنائه، وخلّفت خلفهم حزنًا لا يُحصى، و211,93 أرملة بحسب المكتب الإعلامي الحكومي.
هؤلاء النساء يعشن الفقد كحياة كاملة من الأوجاع المتراكمة، يبدأ الألم بلحظة استشهاد الزوج، ولا ينتهي عندها؛ إذ تتوالى المسؤوليات الثقيلة والنزوح والمجاعة والضيق الاقتصادي وانعدام الأمان، وكأنّ الرحيل وحده لا يكفي. حياةٌ تُفرض عليهنّ بكل تفاصيلها القاسية، في زمن لم يعد فيه للحزن مساحة.
العنقاء تعود
كانت ضيفتنا تعيش حياة هانئة، مع زوج مُحب، في “أسرة سعيدة” كما يصفها الكل في محيطها، تتشوق لولادة توأم لابنها البكر، وتنتظر أيام الأربعاء لتعد ألذ الأطعمة لأبنائها في بيتها، كان هذا حتى الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين استهدف الاحتلال بيت أهلها حيث كانت نازحة.
ساعتان قضتهما تحت الأنقاض، غابت فيهما عن الوعي ثم استعادته في المستشفى، وفي اليوم التالي عرفت أنه لم يخرج من البناية أحياء سوى اثنين، هي أحدهما، رحل الجميع، وما يزال عدد منهم تحت الأنقاض حتى اليوم.
على صعوبة الحدث، فهمت من نجاتها أن عليها رسالة يجب أن تؤديها، وشعرت أن الله اصطفاها لهذا الدور وهيأها له بما رأته من رؤى في منامها وما عاشته من تفاصيل قبيل المجزرة، ومن هنا قررت أن تتشبه بالعنقاء التي تُولَد من رمادها كما تقول الأساطير.
انطلقت العنقاء هنادي مُحلّقة مجددا بعد ثلاثة أشهر، حين بدأت تستعيد البصر والقدرة على الحركة، كانت خطواتها الأولى نحو مؤسسة تقدم الدعم للأطفال مبتوري الأطراف وذويهم، وفيها التقت بالسيدة التي وصفتها بأنها تتحدث من منطلق “الراحة والفراغ” لأنها لم تجرب الفقد.
تمتلئ عينا سكيك بالدموع وهي تكمل لنا القصة المذكورة في المقدمة، إذ ردّت على السيدة بالقول: “ما قولكِ إن أخبرتكِ أنني زوجة الشهيد، وأم الشهيد، وأخت الشهيد، وبنت الشهيد، وجدة الشهداء، وعمة الشهداء، جريحة خرجت من تحت الأنقاض بعد ساعتين، كدت أفقد عيني ورجلي، وأن أول خطوات مشيتها كانت لهذه المؤسسة؟”.
تملّكت الصدمة المرأة، وسألتها بتعجب: “كيف بإمكانك الحديث بقوة ودعم الناس؟ قريبتي التي نصحتني بزيارتك أخبرتني أنك قوية جدا!”.
هنا، ارتأت سكيك أن عليها خرق واحد من أهم قوانين عملها، توضح: “من قوانين تقديم الخدمة ألا يشكو الأخصائي لطالب الاستشارة، لكن كان يجب أن أخبرها، لأنها رأت القوة، فكان يجب أن تعرف ما خلفها لتدرك أنها قادرة على فعل ذلك”.
عادت السيدة لتسأل: “من أين أتيتِ بالقوة؟”، فأجابت سكيك: “من الله عز وجل، من القرآن الذي أتممت حفظه في الحرب، من قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشرالصابرين)، أعطانا الله وعدا يهوّن علينا كل الألم (وبشر الصابرين)”.
تزداد صلابة سكيك وضوحا، وبتضح مدى تحاملها وجلدها، حين تدمع عيناها ويتحشرج صوتها ويظهر شوقها وهي تتحدث عن أحبتها الشهداء، تبدو عروسا شابة حين تقول إن قهوة الصباح مع زوجها كانت من أهم لحظات يومها، وإن المشي معه ليلا في شوارع غزة من أجمل ما يمكن أن يفعلاه.
View this post on Instagram
نموذج القوة الذي تمثله سكيك ينعكس إيجابا على زوجات الشهداء اللواتي تقدم لهن الخدمة، حتى أن منهن من تخجلن لكثرة عدد من فقدتهم، فتخبرهن: “لسنا أعدادا، هي جراح مفتوحة في الروح، فخذي راحتك ووقتك في الحزن”.
التأثير الإيجابي يأتي باتجاه عكسي أيضا، تشعر سكيك بالراحة حين تدعم زوجات الشهداء، وكأن خدمة الآخرين تساعدها على شحن طاقتها الشخصية كما تقول.
من اللافت أن سكيك انخرطت في العمل قبل التعافي التام، قضت شهورا في العلاج من آثار الإصابة، وطال تأثير ارتجاج الدماغ لنحو سنة، ومن هنا تنصح زوجات الشهداء: “اشغلي نفسك، وابدئي بذلك في أول فرصة ممكنة، لا تنتظري تحسن الوضع، أنت من تحسنيه وتغييره، فالحياة كما هي والناس يغيرونها، يجعلونها سعادة وأمل أو كربا وحزن”.
أوجه المعاناة
ننتقل من الخاص إلى العام، لنسأل سكيك عن أحوال زوجات الشهداء وفق ما تراه في تعاملها المباشر معهن، تقول إن أول ما يظهر من أوجه المعاناة لزوجة الشهيد فقدان إنسان عزيز، شريك حياتها الذي عاشت معه فترة من حياتها بما فيها من تفاصيل، وفي هذا الوجه الكثير من المشاعر والآلام.
وتضيف: “إلى جانب الحزن، تفقد المرأة مشاركة زوجها لها في الحياة وأعبائها، ويختلف تأثير الفقد في هذه الناحية من زوجة لأخرى حسب درجة اعتمادها عليه قبل رحيله، فبعض النساء تعتمدن اعتماد كليا على أزواجهن في كل شيء، كبيرا كان أو صغيرا، كالتسوق وتوفير احتياجات البيت ومتابعة الأبناء في دراستهن، وهؤلاء تجدن صعوبة أكبر من الزوجات اللواتي كنّ تتقاسمن الأدوار مع الرجال“.
وتتابع: “من كانت تعتمد اعتمادا كليا على زوجها تجد صعوبة كبيرة في تدبر شؤون البيت دونه، خاصة أن الحياة حاليا أصعب من السابق، وفيها كم كبير من المتاعب مثل النزوح وغلاء الأسعار”.
خلّفت الحرب أدوارا كثيرة وجديدة على الغزيين، وكلها تتحملها المرأة وحدها حال فقدت زوجها، فمثلا توفير الطحين في المجاعة كان من أقسى ما مرّت به زوجات الشهداء المعيلات لأطفال، بحسب سكيك.
المأوى، مشكلة أخرى تعترض طريق الأرامل اليوم، في ظل الدمار الواسع والنزوح المتكرر منذ بدء الإبادة، حيث دخلت زوجات الشهداء دوامة البحث عن مكان إقامة لها ولأبنائها، وهذه مهمة شاقة، بسبب نقص البيوت، وانقطاع الخيام من الأسواق في بعض الفترات، وما يتبع ذلك من تكلفة مادية كبيرة لارتفاع الإيجار وأسعار الخيام والتنقل من مكان لآخر خلال النزوح وغير ذلك.
وتلفت سكيك إلى جانب آخر من المعاناة فيما يتعلق بمكان السكن، يتمثل في العيش مع آخرين، فغالبا تقيم الأسر الممتدة في نفس المكان، حيث تسكن الأرملة مع أهلها أو أهل زوجها، وربما مع أقارب آخرين، يحدث هذا في حين أنها تحاول بناء حياة جديدة، مبينة أن هذا التداخل يعني انعدام الخصوصية، وظهور مشاكل كثيرة متعلقة بالتربية وتدخل العائلة في تصرف الأم مع الأطفال.
التدخل في التربية من أكبر هموم زوجات الشهداء وفق ما لاحظته ضيفتنا خلال عملها معهن، حتى أن استشارات كاملة تكون مقتصرة على هذا الموضوع. كما أن توفير المال واحتياجات الأسرة كابوس يطارد أغلب الأرامل، إذ وجدن أنفسهن في غمضة عين بلا معيل ولا مصدر دخل، وكثير منهن فقدن البيت وبعض الأقارب الذين كانوا سيتحملون العبء معها.
توضح سكيك: “عدد الأرامل كبير بينما الخدمات قليلة، المؤسسات تعمل بشكل متفرق، ولا يوجد قاعدة بيانات مشتركة وجهد موحد، لذا نجد سيدة تستفيد من أكثر من جهة وأخرى لا تتلقى أي مساعدة”.
الجانب المادي هنا لا يقتصر على توفير المال، وإنما توفره يصبح مشكلة أحيانا، لكون أغلبه يأتي تحت وصف “مال يتيم” وبعضه يشمل كل الأسرة فتسري عليه أحكام الميراث، في الأصل توجد قواعد شرعية محددة للتعامل معه، ويكون الوصي المالي على أموال الأيتام جدهم لأبيهم أو عمهم، ولكن الأخطاء تحدث بقصد أو بغير قصد.
من أوجه الخطأ في التصرف بأموال الأيتام، بحسب سكيك، امتناع الزوجة عن سؤال أهل زوجها عن أموال أبنائها حرجا، أو إخفاء ما يصلها من مال عن الوصي خوفا من سيطرته عليه، وكذلك إساءة الوصي استخدام صلاحياته بالسيطرة على المال، أو إجبارها على الارتباط بشقيق زوجها لضمان بقاء المال في نطاق الأسرة. وتشير إلى أن هذا النوع من المشاكل خلال الحرب أقل منه قبلها لكثرة الهموم وانشغال كل طرف بنفسه.
يستغل البعض حاجة الأرملة فيبتزها بها، وهذا الاستغلال السيء تتعرض له المرأة في أي مكان في العالم، ومع ارتفاع عدد الأرامل في غزة كثر الحديث عن الابتزاز بين من يهوّله ويصوّره على أنه ظاهرة ومن ينكر وجوده بدعوى الحفاظ على صورة المجتمع وسمعة زوجات الشهداء، فما حقيقة حجم الابتزاز الذي تتعرض له النساء؟
تجيب سكيك: “يندرج الابتزاز تحت العنف، وهو موجود بالطبع، ولكنه ليس ظاهرة على الإطلاق، التقيت بنساء تعرّضن للابتزاز بتوفير العمل والمساعدة مقابل طلبات لا أخلاقية تبدأ بالصداقة تنتهي بما هو أبعد من ذلك بكثير، مع محاولة إقناعهن بعبارات تحرش مثل أنها ما تزال شابة وجميلة”.
وتبيّن أن عددا من المؤسسات تساعد النساء في التعامل مع الابتزاز، سواء بالتوعية لعدم الوقوع في الفخّ، أو بمساعدة من تعرّضن له بتوجيههن للتعامل الصحيح، ولكن لا توجد جهة لضبط الأمر والتعامل معه بملاحقة المبُتزّين ومعاقبتهم، خاصة أن بعضهم يفعلون ذلك عبر الإنترنت من خارج القطاع.
وبما تراه من النساء، تقدّر نسبة الوعي والتعامل الصحيح مع الابتزاز بنحو 70%، مشيرة إلى أنه من أهم ما تحذّر زوجات الشهداء منه خلال عملها معهن، خاصة أن عددا كبيرا منهن شابات صغيرات لا تملكن خبرة كافية في الحياة، ولأن الابتزاز بداية مرحلة الإسقاط الأخلاقي التي عادةً ما تُستخدَم للإسقاط الأمني، فالسقوط الأخلاقي والتهديد بالفضيحة من أبرز طرق الاحتلال في تجنيد العملاء.
كذلك، شكل خاص من أشكال المعاناة تواجهه زوجات الشهداء المقاومين، كما توضح سكيك: “يرفض الكثير من الناس إيواء ذوي المقاومين خوفا من استهداف الاحتلال لهم، ويزيد الأمر سوءا لو كانت الزوجة معروفة قبل الحرب بنشاطها في المساجد أو مرتبطة بمنصب حكومي”، مستدركة: “لكن الخير موجود في مجتمعنا، يحتويها البعض سرّا، كأن يسمح لها بالبقاء في البيت بشرط محدودية الحركة كي لا ينتبه الناس لوجودها”.
ومن الجدير بالذكر، أن ثمة فئة تعيش المعاناة ذاتها، وهي زوجات المفقودين، وهذا ما تؤكده سكيك وتزيد عليه أن معاناتهن قد تكون أصعب أحيانا بسبب الانتظار وترقب خبر عن المفقود والخوف من احتمال أن يكون أسيرا يتعرض للتعذيب، إضافة لتفاصيل أخرى تتعلق بالاختلافات الشرعية والقانونية بين الشهيد والمفقود.
يحدث كل هذا مع المرأة وتتراكم عليها المسؤوليات وسط حزنٍ لا تجد وقتا لتعطيه حقه، وقد تكون أصيبت في نفس الحدث الذي فقدت فيه زوجها، ومن المحتمل أيضا أن تكون فقدت آخرين من أحبتها، منهم من كان سيساعدها ويتولى أمرها لو بقي على قيد الحياة، ناهيك عن صعوبة الواقع وكثرة المُحتاجين للمساعدة من أرامل وغيرهم فتتوزع جهود المؤسسات وفاعلي الخير على أعداد كبيرة، ما يشير لفروقات بين حياة زوجة الشهيد حاليا وسابقا.
عن هذا الأمر تقول سكيك: “قبل الحرب، كان عدد زوجات الشهداء أقل، وبمثال من حياتي الشخصية، في محيطي الضيق 18 امرأة فقدن أزواجهن، وحاليا الكل بحاجة المساعدة”. وتضيف: “كثرة عدد الأرامل على صعوبته وتبعاته، يمنح كل واحدة منهن شعورا أنها ليست بمفردها، فتزداد صبرا وجلدا”.
ما سبق ليس إلا جزءًا من هموم وأعباء كثيرة تبدأ باستشهاد الزوج وتستمر طويلا وربما تزيد ويظهر ما هو أصعب منها، فما الحلول المطروحة والمناسبة للحياة الجديدة بواقعها الصعب بعد فقد السند والشريك؟ وما إمكانية تنفيذها في واقع مليء بالتحديات؟ ومن أين تستمد الأرملة القوة وما دوافعها للمضي في حياتها؟
تقول سكيك: “أنا كمساندة لزوجات الشهداء عندي حمل أكبر من السابق، كنا نحلّ المشاكل بطرق الإصلاح وتوفير بدائل مثل مشروع صغير للمرأة، لكن اليوم نحتاج لمساعدة المرأة نفسيا لتتمكن من الاستمرار والإعالة، ثم يأتي التمكين اجتماعي، وهو أهم من التمكين الاقتصادي، مثلا يجب أن تتعلم إدارة الأموال التصرف السليم في كفالات الأيتام الخاصة بأبنائها”.
وتضيف: “المرأة بحاجة للإسعاف النفسي الأولي لامتصاص الوجع، ثم التأهيل النفسي لتشحن قوتها كي تستمر، فالحياة الاجتماعية ليست سهلة، تحتاج المرأة أن تكون قوية لتمضي في حياتها لأجلها ولأجل من تتولى أمرهم، فتحت رعايتها أطفال، الناس يقدمون المساعدة لفترة ثم يتوقفون، خاصة مع كثرة المحتاجين، لذا عليها أن تتولى هي الأمر وأن تتعلم إدارة المشاريع والتصرف الصحيح بالأموال”.
في هذا السياق، تعمل سكيك حاليا على مشروع متكامل يضم مشاريع صغيرة لتشغيل عدد من زوجات الشهداء في محيط سكنهن لتخفيف عبء التنقل وتكلفته عليهن، مع توفير حاضنة فيها احتياجاتهن، كافتتاح حضانة أطفال ومشروع لصنع الحلوى ونقطة تعليمية ومشغل خياطة وصالون للشعر وكل هذا في مساحة جغرافية واحدة تسكن فيها النساء المستهدفات، فيقدمن خدماتهن ويستفدن من باقي الخدمات مع راتب ونسبة من نجاح المشروع لتعزيز الشعور بالانتماء، وبعد فترة يمكنها الاستقلال بمشروع خاص.
وتنوه إلى أن العبء المادي يخففه كثيرا جود المساعدات والكفالات لأبناء الشهداء، ويمكن أن تكون كافية لتقديم خدمة متوسطة لهذه الفئة بطريقة صحيحة، لكن جهود المؤسسات مبعثرة ولا تنسيق بينها في توزيع المساعدات، بالإضافة إلى عدم معرفة كثير من النساء بطرق الحصول عليها، خاصة مع انقطاع الإنترنت عن بعض المناطق، لذا يكون الحل أن ينزل المختصون للميدان للبحث عن المحتاجين ومساعدتهم.
وترى أن الذكاء والتوافق يحلّان الكثير من المشاكل، مثل التوافق مع الوصي بشأن مال الأيتام، وامتصاص تدخلات أهل الزوج في التربية طالما أنها في الحدود المقبولة، مبينة: “لا نجعل المرأة تعيش في وهم الاستقلال بينما لا مكان لها، عليها أن تسير في خطين: الاستقلال والتأقلم، وهذا أساسه الذكاء الاجتماعي، فتبني خصوصية لنفسها دون معاداة المحيطين، إذ يجب أن تكون مرنة ومتفهمة لكون التدخلات تنبع من الحرص على الأطفال، فتتلقاها حتى لو لم تنفذها، المهم ألا يصل التدخل للمساس بمكانتها في بيتها وبين أبنائها”.
لكن التربية بحد ذاتها، وبعيدا عن التدخلات، عملية صعبة، خاصة في ظل هذه الظروف، لذا تنصح سكيك الأمهات بالبحث عن سند لأبنائها، مثل الخال أو العم، فيكون قريبا منهم يدعمهم ويلجؤون إليه.
وتوضح: “قد تسيطر الأم تربويا على أبنائها في سنوات عمرهم الأولى، لكن عندما يكبر الطفل تتشكل حاجته لدور الأب، ولو كانت بنتا تحتاج تعاطف رجل، وهنا يأتي دور السند، الشعور بالفقد لا يزول، لكن الأُنس يغطي الفجوات“.
قبل الحرب ليس كبعدها
ربما أول ما يخطر على البال من نصائح للمرأة للتعامل مع تبعات فقد زوجها من حزن ومصاعب حياة أن تبدأ بتطوير ذاتها بالدراسة والعمل، وكانت كثيرات من الأرامل تفعلن ذلك قبل الحرب، أما اليوم فالفرص المُتاحة محدودة والمسؤوليات الكبيرة تجعل المحاولات مرهقة، على سبيل المثال؛ كيف تلتحق بالجامعة امرأة تتولى مسؤولية أطفال في خيمة وتتعب لتوفر لهم المياه والطعام ويسرق وقتها وصحتها التجول بين مؤسسات المساعدات والتكيات والطهو على الحطب وغير ذلك، وربما لا تملك هاتفا وإنترنت لتلتحق بالتعليم الإلكتروني.
ليس هذا فحسب، فالاحتلال يساهم في محدودية الفرص، إذ توضح سكيك: “الفرص محدودة لأن عدد الأرامل كبير والحاجة كبيرة، والمشاريع أغلبها إغاثي بسبب الاحتلال، فهو إن سمح بدخول مساعدات، يمنع إدخال ما نحتاجه لنؤسس مشاريع تشغيل، كأجهزة ومعدات للطبخ أو الخياطة أو غير ذلك مما يمكن تشغيل النساء فيه”.
وتفسر ذلك بالقول: “لأن الانتقال من العمل الإغاثي للتنموي يعني أن تدير المرأة نفسها وبيتها دون طلب مساعدة من أحد، فتقل مشاكل المجتمع، وهذا ما لا يريده الاحتلال”، لافتة إلى أن: “بعض المؤسسات تتعمد البقاء في دائرة العمل الإغاثي لا التنموي لضمان استمرار عملها دون النظر لمصلحة الفئة المُستفيدة والمجتمع”.
وتبين أن العمل لأجل زوجات الشهداء ينبغي أن ينقسم إلى إغاثي، وتنموي، ووقائي، في الجانب الإغاثي تُعطى لهن المساعدات مثل الخيام والملابس الشتوية، ويتمثل الشقّ التنموي في مساعدتهن على الاعتماد على أنفسهن من خلال مشروع صغير مثلا، أما العمل الوقائي فمن خلاله يتم تقديم الإرشادات وتعزيز القيم وهو ضروري جدا، ومع ذلك لا يمكن تقديمه قبل توفير الأساسيات ليبدأ الناس بعدها بالتفكير في أمور أخرى.
بالحديث عن الخطوات العملية في مساعدة زوجات الشهداء، تقول سكيك: “إن التقيت المرأة بعد وقت قصير من وقوع الحدث، أو في أول زيارة منها لي أمنحها الفرصة للبكاء، لا أوقفها، بل أشجعها عليه لو وجدتها تحاول منع دموعها، وبعد البكاء والفضفضة تشعر بالراحة قبل أي توجيهات مني”.
وتضيف أنها تطرح على النساء في بداية الجلسات سؤال: “ما الموجود عندك؟“، لتبدأ بالعمل على الموجود، وهو ما يختلف من سيدة لأخرى، فمنهن من لها أبناء، أو عمل، أو تعليم، فالمهم هو التركيز على الموجود لا على الفقد.
وتتابع: “دوما أربط الألم بالإيمان، فبرفع الروحانيات عند زوجة الشهيد يتحقق السلام النفسي وتبدأ بتقبل كل شيء وبالتفكير بإيجابية”، مؤكدة: “لا أقول لها لا تحزني، لكن نراعي أدب المحزون مع الله، وهذه الموازنة بين الأمور تريحها كثيرا”.
“أعيدي صياغة الحدث في داخلك، اسألي نفسك: لماذا فقدت وزوجي وسندي الاجتماعي؟ بالتأكيد لخير، فالله يعرف ما فيه الخير لنا، ويخبرنا في كتابه: (وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَشَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)”، التفكير بهذه الطريقة من أوائل نصائح سكيك للنساء.
وتوضح: “حين تعيد صياغة الحدث، وتفكر في الموجود، وبنصائح وتوجيهات تناسب كل حالة، تبدأ قوتها بالظهور، وهذا ينعكس على أسرتها وقدرتها على القيام بدورها“.
أيضًا، من أهم ما توجّه الأرامل له، البحث لسند لنفسها، حتى لو فقدت المقربين منها، فالسند قد يكون قريبتها أو صديقتها أو حتى مستشارة نفسية تثق بها، لتشعر أن هناك من تلجأ له وقت الشدة، ومن يعينها على تحمل العبء.
وتبين أن النتائج ليست واحدة في كل الحالات، حيث توجد فروق فردية في الصلابة، وهي ترجع لقوة الإيمان وطبيعة الشخصية، فإما أن تحاول النهوض أو تُفضّل دور الضحية وطلب العون، بعض النساء أنجزن ما لم يفعله شركاء، وأخريات لا تنبع من دواخلهن الرغبة في التغيير، وهؤلاء تتوقف عن المحاولة معهن بعد الجلسة الثامنة، فهذا الوقت كافٍ لإظهار استعدادها للتحسن أو اكتفائها بتلقي المساعدات.
أفكار تتغير…
تؤكد سكيك أن الدعم النفسي حاجة أساسية لزوجة الشهيد، فإن اطمأن قلبها تبدأ تستوعب ما تمرّ به وتفهم كيفية التعامل مع التجربة المؤلمة، موضحة أن تقبل المجتمع لفكرة العلاج النفسي والاستعانة بالمتخصصين زاد خلال الحرب، لأن “الناس متعطشون للدعم النفسي، ومع ذلك لا يلجأ له الجميع، كثيرات يتقبلن فكرة الدعم النفسي، ويدركن أهمية الحصول عليه، لكن الظروف تعيق اتخاذهم الخطوات اللازمة، فالمرأة تتراجع عن التوجه للجلسات بعد التفكير في تكلفة المواصلات وصعوبة التنقل وعدم القدرة على ترك صغارها بمفردهن في الخيمة، لذا أتوجه بنفسي للمخيمات، ألتقي بالنساء وأستمع لهن”.
مما غيرته الحرب أيضا، النظرة لزواج أرامل الشهداء، إذ صارت الفكرة أكثر قبولا عند المرأة والمجتمع، وهذا يبدو واضحا على الأرض، وتلمسه سكيك في لقاءاتها بالنساء، فتقول: “انتشرت الفكرة كثيرا وزاد تقبلها، حتى من ترفض تقع تحت ضغط من الأهل والظروف الصعبة، بالإضافة إلى حاجتها للرجل في جوانب مختلفة يتجاهلها الناس، كالحب والاهتمام والكلمة الجميلة“.
أخيرا، كان السؤال: من تجربتك الشخصية، ومن تجارب من تقدمين الدعم لهن، ما الذي يدفع المرأة للمضي قدم في حياتها بعد فقد شريكها وسندها، وربما أحباء آخرين؟
تجيب سكيك: “أكبر دافع هو شعور المرأة أن لها دورا ما، وأن الله أبقاها على قيد الحياة لأن رسالتها لم تنتهِ بعد، وكذلك التفكير في المستقبل، الذي قد يتغير ليعطيها شيئا جميلا. بالنسبة لي؛ أنا أنتظر هدية ربانية بعد ما مررت به“.