كشف تحقيق استقصائي حديث أجرته “وكالة الصحافة الفرنسية” عن مسارات شبكة التجنيد المعقدة للمرتزقة الكولومبيين للقتال إلى جانب ميليشيا الدعم السريع في السودان، تلك الشبكة التي تمتد من جبال الأنديز في أميركا الجنوبية إلى دارفور غرب السودان، مرورًا بالإمارات والصومال وليبيا.
التحقيق استند إلى مقابلات مع مرتزقة وأفراد من عائلاتهم، بجانب الاستعانة بسجلات شركات وتحديد مواقع جغرافية لمشاهد في ساحة المعركة في دارفور، حيث ركزت الوكالة الفرنسية على الدور الذي لعبه هؤلاء المرتزقة في الانتهاكات التي ارتكبتها ميليشيا الدعم وتأثيره الحاسم في إسقاط الفاشر في قبضة محمد حمدان دقلو (حميدتي) ومليشياته.
يتسق التحقيق حرفيًا مع ما أعلنه الجيش السوداني في الرابع من أغسطس/آب الماضي بشأن امتلاكه “وثائق ومستندات تثبت تورط مرتزقة من جمهورية كولومبيا”، يقاتلون في صفوف ميليشيات الدعم في مدينة الفاشر، فيما أكدت الحكومة السودانية وقتها أنها قدمت هذه الأدلة إلى مجلس الأمن الدولي، محذرة من أن الصراع يتحول إلى “حرب إرهابية عابرة للحدود تدار بالوكالة”.
وترفع مثل تلك التحقيقات الغطاء تدريجيًا عن الدور الذي تقوم به أبو ظبي -رغم نفيها- في تأجيج الصراع في السودان، بعدما حولت المرتزقة إلى ضلع رئيسي في نظامها الأمني وأحد أدوات سياستها الخارجية في الصراعات الإقليمية، في سياق مساعي أبناء زايد تعزيز نفوذهم العسكري والسياسي في المنطقة.
استغلال الوضع الاقتصادي
أظهر التحقيق الذي قامت به الوكالة الفرنسية مساعي أبو ظبي لاستغلال الواقع الاقتصادي المتردي في كولومبيا كمدخل لتجنيد المقاتلين المتقاعدين، عازفة عليه بكل أدواتها، عبر الإغراء المادي وتوظيف حاجتهم الماسة إلى الدخل.
فكما هو معلوم يتقاعد آلاف الجنود الكولومبيين سنويًا في سن مبكرة ويتقاضون معاشات زهيدة، ما يجعل عروض العمل الخليجية -بتلك الرواتب والامتيازات- فرصة يصعب رفضها، ومن هنا حولت الدولة النفطية الخليجية الأزمة المعيشية إلى أداة لاستقطاب قوات جاهزة للانتشار في مناطق الصراع، تحت شعارات الحماية الأمنية أو المهام الخاصة.
خطة تجنيد 2,500 مرتزق كولومبي للقتال في صفوف ميليشيات الدعم السريع، بدأت بمحادثات على واتساب ثم تدريب بالإمارات، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
وفق تحقيق: «أظهرت مقاطع مشاركتهم في القتال بدارفور، وجندتهم الإمارات برواتب تصل إلى 4 آلاف دولار لخبرتهم في الطائرات المسيرة والمدفعية». pic.twitter.com/ZfK7peiC7K
— غرفة الأخبار (@NewsroomAR) December 22, 2025
ووفق شهادات من مسؤولين كولومبيين في شبكات تجنيد العسكريين، أكدوا أنهم يعرضون على المقاتلين وظائف في الإمارات تشمل حماية منشآت استراتيجية كخطوط أنابيب النفط، أو المشاركة في عمليات عسكرية خارجية، مثل الحرب في اليمن أو السودان.
ورغم إدراك بعض المجندين لخطورة تلك المهام وغموض وجهتها النهائية، في ظل تسريبات البعض عن الانتقال إلى السودان وتعرض بعضهم للقتل هناك، فإن الإغراء المالي الضخم غالبًا ما يحسم قرارهم بالقبول.
من هذا المنطلق لا يبدو اختيار كولومبيا صدفة، إذ توفر البلاد بيئة خصبة لتجنيد مقاتلين ذوي خبرة عالية بتكاليف منخفضة، فقد خاض الجيش الكولومبي صراعات مسلحة لعقود طويلة ضد حركات التمرد والجماعات الإجرامية، مما أكسب عناصره كفاءة عملياتية عالية، إضافة إلى أن مرتباتهم المتواضعة مقارنة بالمرتزقة الغربيين تجعلهم بديلًا اقتصاديًا جذابًا.
التجنيد عبر الواتساب
كشف التحقيق عن جانب لافت في آلية التجنيد، حيث أظهرت شهادات بعض المرتزقة أن العملية لم تجرِ عبر قنوات رسمية أو حتى شركات أمنية معروفة، بل تمت ببساطة عبر تطبيق “واتساب”، وبشكل أحادي مع كل جندي على حدة.
فوفق رواية جندي كولومبي متقاعد، فإنه تلقى بعد عام واحد فقط على تقاعده رسالة عبر التطبيق تقول “هل يوجد محاربون سابقون مهتمون في (الحصول على) عمل؟ نحن نبحث عن جنود احتياط من أية قوة.. التفاصيل عبر رسالة خاصة”.
وما إن تواصل المقاتل السابق مع المرسل حتى عرّف الأخير عن نفسه بأنه ضابط سابق في سلاح الجو، ليعرض عليه وظيفة في إحدى المدن الخليجية، ما جعله يقبل دون تردد -رغم أن غالبية المجندين لم يكونوا على دراية كاملة بطبيعة المهام المكلفين بها أو بوجهتهم النهائية- نظرًا للإغراء المالي الكبير مقارنة بوضعه المعيشي الصعب.
وتشير شهادات المجندين أن الرواتب المعروضة تتراوح بين 2500-4000 دولار شهريًا، أي ما يعادل ستة أضعاف المعاش التقاعدي لضباط الجيش المحليين، هذا الفارق الشاسع يكشف حجم الإغراء الاقتصادي المستخدم في استقطاب هؤلاء المقاتلين وتجنيدهم لصالح أجندات خارجية.
عقلية وحشية دموية
يثير التحقيق تساؤلات حول أسباب تفضيل الإمارات للمرتزقة الكولومبيين على نظرائهم في الشرق الأوسط أو أفريقيا، رغم أن تكلفة المقاتلين في بعض تلك الدول ربما تكون أقل، إلا أن تلك المفاضلة، كما يبدو وكما هو موثق في شهادات المرتزقة، لا تقوم على البعد المالي بقدر ما ترتكز على طبيعة المقاتل نفسه، إذ يُنظر إلى الكولومبيين بوصفهم أكثر قسوة وصلابة ومرونة في تنفيذ الأوامر دون تردد أو اعتبارات أخلاقية.
ومثل هذا المزيج من الانضباط العسكري من العمل النظامي، والوحشية الدموية المكتسبة من سنوات النزاع الداخلي والممتدة عبر سنوات، يجعل من الكولومبيين تحديدًا أدوات تنفيذ مثالية في النزاعات التي تتطلب شراسة ميدانية وسرعة في الحسم.
ويورد التحقيق أن معظم المجندين الكولومبيين الذين جرى استقدامهم هم من فئة جنود المشاة ذوي المهارات المحدودة، ممن تشكلت خبراتهم في بيئات تتسم بالعنف والفوضى، كما تظهر أحد المقاطع المصورة مجموعة منهم يقودون سيارات عبر أنقاض مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور، بينما يعلو في الخلفية إيقاع موسيقى الريغيتون، فيما يُسمع أحدهم يردد بلكنة كولومبية عبارة “دمّر كل شيء”، في مشهد يختزل القسوة الميدانية وانعدام الحس الإنساني لدى هؤلاء المرتزقة.
وتشير هذه المعطيات فيما بينها إلى أن الجهات الممولة- ويقصد هنا الإمارات- لا تبحث فقط عن مقاتلين محترفين، بل عن عناصر يمكن توجيهها لتنفيذ المهام القذرة دون إبداء أي تردد أو اعتراض، فالعنف المفرط الوحشي الذي يميز كثيرًا من المجندين الكولومبيين ليس ميزة جانبية يمكن الاستغناء عنها أو استعاضتها، بل ميزة مقصودة ضمن خطة أوسع لتوسيع النفوذ العسكري والسياسي عبر أدوات خاضعة بالكامل لإرادة الممول، بغض النظر عن الكلفة الإنسانية أو الأخلاقية.
مسارات التهريب
يُظهر التحقيق أن عملية نقل المرتزقة الكولومبيين إلى دارفور تتم عبر مسارين رئيسيين منظمين بإشراف وتمويل إماراتي:
- المسار الأول، عبر شرق ليبيا الخاضع لسيطرة المشير خليفة حفتر، والذي تحوّل منذ اندلاع الحرب في السودان إلى ممر حيوي لإمداد ميليشيا حميدتي بالسلاح والوقود والمقاتلين، وفي شرق ليبيا حيث يسيطر حفتر، تدار معسكرات تدريب خاصة يشرف عليها ضباط من قوات ليبية بتمويل إماراتي مباشر، وذلك قبل أن يُنقل المقاتلون عبر الحدود إلى الأراضي السودانية للانضمام إلى المعارك الدائرة هناك.
- المسار الثاني وهو الأوسع نطاقًا فيتم عبر الصومال، وتحديدًا من مدينة بوصاصو في إقليم بونتلاند شبه المستقل، حيث تُستخدم تلك المدينة كمحطة توقف رئيسية قبل نقل المجندين في طائرات شحن إلى دارفور، مرورًا بتشاد والنيجر.
وتتقاطع هذه المعلومات مع تسريب ضخم لبيانات التأشيرة الإلكترونية في الصومال، كشف عن عشرات الآلاف من الأسماء بينهم كولومبيون في طريقهم إلى السودان، كما وثّقت صور الأقمار الاصطناعية وتحليلات تتبع الرحلات الجوية وجودًا متكررًا لطائرات شحن من طراز “إليوشن IL-76D” في مطار بوصاصو، وهو الطراز ذاته الذي رُصد في قواعد جوية إماراتية وليبية.
يتسق هذا الكلام أيضًا مع ما كشفه موقع “أفريكا إنتلجنس” الاستخباراتي في 1 يوليو/تموز 2025 من أن مطار “بوصاصو” في الصومال، والذي تديره شركة تابعة لصندوق أبوظبي للتنمية، الذي يرأسه طحنون بن زايد، قد تحول إلى حلقة وصل رئيسية في جسر جوي لنقل الأسلحة والمرتزقة إلى دارفور، عبر ليبيا، بعيدًا عن الرقابة الدولية.
2500 مرتزق كولومبي شاركوا في حرب السودان
كشف التحقيق أن وكالة “كويجانو للخدمات الدولية” (A4SI)، المملوكة للعقيد المتقاعد ألفارو كويجانو والمتخصصة في تجنيد العسكريين الكولومبيين المتقاعدين، لعبت دورًا محوريًا في نقل المقاتلين إلى مناطق الصراع في السودان.
ووفقًا لشهادات مرتزقة سابقين تحدثوا إلى وكالة الصحافة الفرنسية، فإن الوكالة سهّلت انتقال نحو 2500 مرتزق كولومبي خلال الأشهر الأخيرة إلى الإمارات، وذلك قبل إرسالهم إلى شرق ليبيا ومنها إلى السودان، حيث تم توزيعهم ضمن تشكيلات قتالية مرتبطة بميليشيات الدعم السريع.
وفي ذات السياق فرضت الولايات المتحدة عقوبات على كويجانو وزوجته كلوديا أوليفيروس، بعد توصلها إلى أدلة تؤكد تورطهما في شبكة تجنيد واسعة النطاق تقوم بتدريب العسكريين الكولومبيين السابقين، بينهم أطفال، للانضمام إلى صفوف الدعم.
وتشير وزارة الخزانة الأميركية إلى أن هذه الأنشطة تمثل انتهاكًا مباشرًا للقانون الدولي ولوائح مكافحة الإرهاب وتمويل النزاعات بالوكالة، وبحسب بيان صادر عنها، فإن مئات العسكريين الكولومبيين السابقين سافروا منذ سبتمبر/أيلول 2024 إلى السودان للقتال إلى جانب قوات حميدتي.
الإسراع من سقوط الفاشر
لعب المرتزقة الكولومبيون دورًا حاسمًا في تغيير موازين القوى داخل الساحة السودانية، إذ كان لهم تأثير مباشر في تسريع سقوط مدينة الفاشر بيد ميليشيات الدعم، فوفقًا لتقارير أمريكية ودولية متعددة، جاء انهيار المدينة نتيجة الدعم الذي تلقاه حميدتي من مقاتلين كولومبيين تم جلبهم خصيصًا للمشاركة في المعارك إلى جانبها.
وتوثق مقاطع فيديو تحققت منها وكالة “الصحافة الفرنسية” وحددت مواقعها الجغرافية، انتشار عناصر كولومبية في محيط الفاشر قبل عملية السيطرة عليها، كما أكدت إحدى المجموعات المتحالفة مع الجيش السوداني أن نحو ثمانين مقاتلًا كولومبيًا شاركوا في حصار المدينة منذ أغسطس/آب الماضي، ما يعزز فرضية أن السيطرة لم تكن نتيجة تفوق داخلي فحسب، بل نتاج دعم خارجي مباشر ومتخصص، هذا إذا ما أضيف له الدعم التسليحي الذي حصل عليه حميدتي من أبو ظبي خاصة الطائرات المسيرة التي قلبت الطاولة وغيرت مسار الحرب.
ويفسر هذا التدخل جزئيًا التحول المفاجئ في مجريات المعركة وسقوط الفاشر بهذه السرعة، خصوصًا أنها جاءت بعد فترة وجيزة من سلسلة انتصارات ميدانية أحرزها الجيش السوداني، وتمكنه من استعادة أجزاء من الخرطوم وتكبيد ميليشيا الدعم خسائر كبيرة، ومن هنا شكّلت مشاركة المرتزقة الكولومبيين نقطة تحول استراتيجية قلبت موازين القوى لصالح قوات حميدتي في لحظة حرجة من الصراع.
الإمارات في مرمى الاتهام مجددًا
ليست هذه هي المرة الأولى التي توجه فيها أصابع الاتهام للإمارات بتأجيج المشهد السوداني عبر الاستعانة بمرتزقة كولومبيين للقتال إلى جانب ميليشيا الدعم، إذ بات واضحًا أن تجنيد أبناء زايد لمرتزقة كولومبيين لم يكن عملية عشوائية، بل تأتي في سياق من المؤسستية وعبر قنوات منتظمة وشركات أمن خاصة.
في تحقيق نشره الصحفي الكولومبي سانتياغو رودريغيز على منصة “لا سيا باسيا” (La Silla Vacía) في 3 أغسطس/آب 2025، تبيّن أن العملية تُدار بالشراكة بين شركة الأمن الإماراتية “مجموعة خدمات الأمن العالمية” (GSSG)، المملوكة لرجل الأعمال الإماراتي محمد حمدان الزعابي، وشركة كولومبية يترأسها العقيد المتقاعد ألفارو كويجانو المقيم في الإمارات منذ سنوات.
ويلعب الزعابي دورًا محوريًا في إدارة التعاقدات مع شركات المرتزقة، تحت غطاء قطاع الأمن الخاص، فيما تشكل وكالة A4SI واجهة لعمليات التجنيد ونقل المقاتلين، في تداخل واضح بين المصالح الاقتصادية والأنشطة العسكرية الخارجية.
من داخل السودان، يصف أحد المرتزقة الكولومبيين – عرّف نفسه باسم “سيزار” – مشاركته في تدريب مقاتلين تابعين لـ”الدعم السريع”، بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عامًا، داخل معسكرات ممولة إماراتيًا جنوب نيالا.
وقال إن مهمتهم لم تقتصر على التدريب، بل شملت كذلك تأمين مطار نيالا، الذي يعد محورًا رئيسيًا لتدفق السلاح والمؤن، حيث تهبط فيه طائرات شحن قادمة من بوصاصو الصومالية الخاضعة بطبيعة الحال للنفوذ الإماراتي، إلى جانب تشغيل طائرات مسيّرة تُستخدم في قصف المدن السودانية.