ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما احتل موسم الفراولة في فلسطين، الذي يمتد في فلسطين من ديسمبر/ كانون الأول حتى أبريل/ نيسان، مكانة خاصة في الحياة الزراعية بغزة؛ فقد كانت الفراولة مصدرًا رئيسيًّا للدخل ومدعاة للفخر في بلدة بيت لاهيا شمالًا، وغالبًا ما يُشار إليها محليًا باسم “الذهب الأحمر”، لكن حقول الذهب الأحمر في شمال غزة أصبحت خاوية منذ بدء الإبادة الجماعية.
ويقول صقر الراحل، البالغ من العمر 32 عامًا والمزارع المختص بزراعة الفراولة في بيت لاهيا، إن زراعة الفراولة كانت تسهم بشكل كبير في توفير فرص العمل قبل الإبادة، إذ كانت من أكثر المنتجات الزراعية قيمة في القطاع؛ وأضاف: “نحو 80 بالمائة من أراضي بيت لاهيا كانت مزروعة بالفراولة. كانت المزرعة الواحدة توظف 16 عاملًا، كل منهم يعيل أسرة. كان الوضع ممتازًا”.
غير أنه لعقود طويلة، ظل مزارعو الفراولة في غزة مقيدين بالقيود الإسرائيلية؛ فالصادرات كانت محظورة إلى حد كبير، واضطر المزارعون إلى الاعتماد على المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل؛ حيث غالبًا ما تسببت عمليات التفتيش والتأخير في إتلاف محاصيلهم، ولم يتمكن الكثيرون من الوصول إلى الأسواق الخارجية على الإطلاق، ما أدى إلى تلف الفراولة أو بيعها محلياً بخسائر فادحة.

لكن لا شيء يضاهي الدمار الذي وقع خلال العامين الماضيين؛ حيث يقول الراحل إن الدمار الحالي يمثل انقطاعًا لم يسبق له مثيل: “لقد واجهنا مواسم صعبة من قبل، لكن ليس كهذا. لن نتمكن من العودة إلى ما كان عليه الحال من قبل”.
وتؤكد أحدث تقييمات منظمة الأغذية والزراعة أن القطاع الزراعي في غزة وصل الآن إلى حافة الانهيار؛ فقد تضررت نحو 87 بالمائة من الأراضي الزراعية في القطاع، ومن المتوقع يتفاقم الدمار في عام 2025. فمعظم ما تبقى من الأراضي بالكاد يصلح للزراعة؛ حيث لم يتبقّ سوى جزء صغير من الأراضي الصالحة للزراعة، وحتى إنتاج تلك الأراضي لا يتجاوز بضع مئات من الهكتارات، والدفيئات الزراعية مدمرة، والآبار محطمة، وأنظمة الري منهارة، مما ترك الحقول والبساتين والحدائق مهجورة في حالة جفاف.
أما في بيت لاهيا تحديدًا فقد دُمّرت نحو 95 بالمائة من المنازل أو أصبحت غير صالحة للسكن، ما ترك سكان المدينة بأكملها تقريبًا بلا مأوى.
وقال الراحل، الذي يعيل عشرة أفراد من أسرته: “كانت الفراولة مصدر دخلي الرئيسي”، وأضاف: “أصبحنا الآن في حالة انعدام تام؛ فقدت منزلي، ولا أستطيع الوصول إلى الأرض، وفقدت جميع المعدات”.
وعاد صقر الراحل خلال وقف إطلاق النار السابق، الذي امتد من يناير/ كانون الثاني حتى مارس/ أذار 2025، لفترة وجيزة إلى بيت لاهيا مع أسرته لتفقد ما تبقى من منزلهم، وقال إنهم وجدوا هناك دمارًا هائلًا.
وفي محاولة للتعافي، زرعوا ثلاثة دونمات من الكوسة في ظروف بدائية، محاولين إيجاد مصدر رزق هش. لكن هذه المحاولة انهارت عندما استؤنفت هجمات الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فاضطرت الأسرة إلى النزوح مجددًا إلى وسط غزة، ودُمرت المحاصيل.
وقال صقر: “حاولنا أن نتعافى، لكننا فقدنا كل شيء مرة أخرى”.
ووصفت لينا المدهون، البالغة من العمر 22 عامًا من بيت لاهيا، ومؤسسة مشروع “ثمرة” لدعم المزارعين وتشجيع زراعة الأغذية منزليًّا، كيف كان موسم الفراولة دافئًا ومحببًا للمجتمع.
وقالت: “اعتاد الكثير منا، بمن فيهم أنا، على التخطيط لنزهات لزيارة المزارع وتناول الإفطار هناك وتصوير الفراولة الحمراء بين الأوراق الخضراء”.

ويحمل غياب الموسم للعام الثالث على التوالي عواقب تتجاوز الأضرار المالية التي لحقت بالمزارعين الذين كانوا يبيعون ويصدّرون أطنانُا من الفراولة؛ حيث قالت لينا المدهون: “إن فقدان الموسم ليس خسارة مادية فقط، بل خسارة معنوية أيضًا. لقد فقدنا موسماً كنا نحتفل به معًا، وفقدنا رمزًا”.
ونزح صقر من بيت لاهيا إلى رفح، ثم إلى مدينة خان يونس، ثم من خان يونس إلى المواصي، وأخيرًا إلى دير البلح. وحاول العودة إلى بلدته عندما أُعلن وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول، لكنه اكتشف أنها تقع الآن ضمن المنطقة المعروفة بـ “الخط الأصفر”.
وأكد الراحل أن أسرته تعيش على الطرود الغذائية وأعمال غير منتظمة متفرقة، ولم يعودوا يزرعون، ورغم أنه يملك 20 دونمًا في بيت لاهيا، إلا أنه اضطر الآن لاستئجار قطعة صغيرة في دير البلح لنصب الخيام عليها فقط.
وقال: “في البداية، شعرت بسعادة غامرة لأنني سأعود إلى المنزل، لكنني صُدمت عندما علمت أننا ما زلنا غير مسموح لنا بالعودة. الأمر صعب. في النزوح، تشعر أنك غريب رغم أننا ما زلنا في غزة، فبيت لاهيا تعني لنا الكثير”.
يحدد الخط الأصفر مدى انسحاب القوات الإسرائيلية خلال المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، مما وضع أجزاء كبيرة من قطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية؛ حيث يغطي الخط مناطق كبيرة من بيت حانون وبيت لاهيا في الشمال، بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من مخيم جباليا للاجئين وعدة أحياء شرقية في مدينة غزة، بما في ذلك الشجاعية والزيتون. أما في الجنوب، فيمتد الخط عبر خان يونس ومعظم رفح، مما يمنع فعليًا مئات الآلاف من السكان من العودة إلى ديارهم؛ حيث يُحظر على الفلسطينيين دخول المناطق الواقعة خلف الخط، وقد أسفرت محاولات الاقتراب منه عن وقوع قتلى.
ووصفت لينا المدهون الخط الأصفر بأنه العقبة الرئيسية التي تواجه مشروع “ثمرة”، وقالت: “أحد أكبر التحديات التي نواجهها هو عدم وجود ما يكفي من الأراضي الزراعية الآمنة”. وأضافت أن الناس يحاولون إحياء بيت لاهيا على الرغم من الدمار. وتذكرت أنها تلقت مكالمة من سكان يعيشون بالقرب من الخط الأصفر – ولكن من الناحية الفنية خارج الخط – يطلبون المساعدة في زراعة أراضيهم. عندما ذهبت إلى هناك، أرعبها رؤية دبابة إسرائيلية، لكن سكان المنطقة أكدوا لها أن الأمر معتاد، وأن الدبابة تتقدم دائمًا ثم تتراجع، فيما أكدت لينا أن هذا يشكل خطرًا كبيرًا.

ويعد الخط الأصفر على المستوى الرسمي إجراءً مؤقتًا من المفترض أن يبقى ساريًا حتى المرحلة التالية من الاتفاق؛ حيث يتوقع أن تنسحب القوات الإسرائيلية أكثر وتحل محلها سلطة دولية. لكن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، أعلن مؤخرًا أن الخط الأصفر سيكون الحدود الجديدة بين قطاع غزة وإسرائيل.
ومع عزل بيت لاهيا وتعذر الوصول إلى أراضيها الزراعية؛ يظل ذهب غزة الأحمر مدفونًا خلف خط يتقدم باستمرار، ويبتلع المزيد من الأراضي، بينما ينظر السكان إلى الحقول التي لم يعد بإمكانهم الوصول إليها، خوفًا من أن تكون الخسارة دائمة.
يقول صقر الراحل: “جميع حقول الفراولة تقع داخل الخط الأصفر؛ إنها تحتاج إلى مساحات واسعة ورعاية مستمرة، مما يجعل زراعتها في المناطق المكتظة بالسكان أمرًا مستحيلًا”.
المصدر: موندويس