بعد مرور عقدين على إخلاء أربع مستوطنات إسرائيلية شمال الضفة الغربية ضمن ما تسمى خطة “فك الارتباط” عام 2005، تمضي حكومة الاحتلال الإسرائيلي قدمًا في تنفيذ مخطط استيطاني جديد لإعادة المستوطنين إلى تلك المناطق.
فقد توصّل كل من وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى تفاهم يعكس انسجامًا كاملًا بين المؤسستين العسكرية والاستيطانية، ويقضي بإعادة المستوطنين إلى مستوطنة “صانور” مع مطلع مارس/آذار 2026، تزامنًا مع “عيد المساخر اليهودي” (بوريم).
وستكون هذه أول مستوطنة يُعاد المستوطنون إليها رسميًا على أن يجري بناء والعودة إلى 3 مستوطنات أخرى هي كاديم وجنيم وحوميش، وتقع جميعها في منطقة جنين وطولكرم شمالي الضفة.
كيف اتخذ القرار؟
- شهدت مستوطنة حوميش عودة استيطانية تدريجية بالفترة الماضية بشكل غير رسمي عبر إقامة مدرسة دينية (ياشيفاه) على أراضيها.
- استوطن المستوطنون تلك المنطقة ورفضوا إخلاءها كما دفع الوزراء المتطرفون بالحكومة نحو إجراء تغيير رسمي يتيح العودة لها.
- لإنجاح هذه الخطط، كان لا بد من تغيير الإطار القانوني الذي أرساه انسحاب 2005 وإضفاء الشرعية على الاستيطان بتلك المناطق.
- في مارس/آذار 2023، أقرّ الكنيست تعديلًا على القانون ألغى فيه الحظر المفروض على الاستيطان بالمناطق المخلاة عام 2005.
- بدأت عودة الاستيطان تأخذ شكلها العملي بالاتفاق بين وزيري الجيش والمالية في ديسمبر/كانون الأول 2025 على الاستيطان بـ “صانور”.
- كما أعلنت حكومة الاحتلال حديثًا المصادقة على خطط لإقامة تجمعات استيطانية جديدة في موقعي مستوطنتي جنيم وكاديم.

ما خطورة الخطوة؟
تعد الخطوة الإسرائيلية الجديدة نقطة تحوّل خطيرة لعدة أسباب:
- تمثل إلغاءً فعليًا ونهائيًا لقانون فك الارتباط لعام 2005، وتكريسًا لمنطق التراجع عن أي التزام سياسي سابق.
- تنقل المشروع الاستيطاني من مستوى التصريحات إلى مرحلة الفرض القسري للأمر الواقع على الأرض.
- تفتح الباب على مصراعيه أمام موجة توسع استيطاني رسمي ومنهجي في شمال الضفة الغربية.
- تعني توسيع الانتشار العسكري في محيط التجمعات الفلسطينية، وما يحمله ذلك من اعتداء عليها.
ومنذ توليها السلطة أواخر 2022، صادقت حكومة الاحتلال الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو على آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة وشرعنت عددًا من البؤر العشوائية التي أقامها المستوطنون.
وتكتسب حالة حوميش دلالة خاصة وخطيرة؛ إذ لم تبدأ العودة هناك باستيطان مباشر، بل عبر مدرسة دينية متطرفة أقيمت في الموقع وتتلقى مخصصات حكومية، وتتبع التيار الصهيوني الديني الذي يعتبر الاستيطان في الضفة الغربية “فريضة دينية مقدسة”.
ويكشف هذا النموذج بوضوح التحالف العضوي بين العقيدة الدينية المتطرفة، مؤسسات الدولة، والمشروع الاستعماري الاستيطاني، بما يُغلق أي أفق لحل سياسي.
أبرز التحضيرات الميدانية
بدأت التحضيرات الميدانية بالفعل لاستقبال المستوطنين؛ حيث يجري تجهيز موقع صانور ببنية تحتية وخطط أمنية مكثفة:
- جيش الاحتلال بدأ شق طريق جديد باسم “طريق سيلة الحارثية الالتفافي” بتمويل 20 مليون شيكل (6 ملايين دولار).
- جرى نقل مقر كتيبة عسكرية إسرائيلية (لواء منشه) إلى منطقة صانور لتعزيز “السيطرة الأمنية” هناك.
- من المقرر نشر فصيل من الجنود بحلول 15 يناير/كانون الثاني 2026 لتأمين المنطقة قبل وصول الأسر الاستيطانية.
انعكاسات على الفلسطينيين
تؤكد الوقائع الميدانية أن إعادة المستوطنين إلى قلب مناطق مأهولة بالفلسطينيين تنذر بتفجير موجات جديدة من التصعيد والمواجهات. فمحافظة جنين ومحيطها – حيث تقع مستوطنات صانور وحوميش وجنيم وكاديم – تُعد من أكثر مناطق الضفة توترًا وسخونة.
وشهدت هذه المنطقة خلال العامين الأخيرين عدوانًا عسكريًا إسرائيليًا واسع النطاق واشتباكات عنيفة مع المقاومة، أبرزها اجتياح مخيم جنين منتصف 2023.
في ظل هذه التطورات، لا يستبعد كثيرون أن يؤدي إعادة المستوطنين إلى مواقع 2005 إلى اشتعال مواجهة جديدة، ففصائل المقاومة في شمال الضفة توعّدت مرارًا باستهداف أي تمدد استيطاني بالمنطقة.
وقد شهدنا بالفعل عمليات إطلاق نار وهجمات ضد مواقع استيطانية عشوائية (مثل حوميش) خلال العامين الماضيين ردًا على محاولات المستوطنين العودة.
وأكدت وزارة الخارجية الفلسطينية أن قرار إعادة المستوطنات المخلاة خطوة “خطيرة” تهدف إلى إحكام السيطرة الاستعمارية على كافة الأرض الفلسطينية، معتبرةً أنه يشجّع على تصاعد إرهاب المستوطنين ضد أبناء الشعب الفلسطيني وممتلكاتهم.

هل لا تزال هناك إمكانية لدولة فلسطينية؟
على الجانب الآخر، تتآكل السلطة الفلسطينية في تلك المناطق بشكل أكبر مع كل توسع استيطاني جديد وتتراجع قدرتها على الوصول لها أو التأثير في مجرياتها.
وتصنف المناطق المستهدفة لإعادة الاستيطان، كصانور وحوميش، ضمن تصنيف (C) تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أمنيًا وإداريًا، لكن إعادة إحياءها يعيد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: ما مصير حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في ظل هذا الواقع؟
فالخطوات الإسرائيلية الأخيرة توجّه ضربة مباشرة لفكرة الدولة الفلسطينية، وهو أمر لم يُخفهِ بعض قادة اليمين الإسرائيلي أنفسهم.
فقد أعلن سموتريتش صراحةً – لدى كشفه عن خطط بناء مستوطنات جديدة – في ديسمبر/كانون الأول 2025 أن الهدف هو “دفن فكرة الدولة الفلسطينية” ومنع قيامها ميدانيًا.
وتسعى هذه السياسة إلى فرض أمر واقع جغرافي يُقطّع أوصال المناطق الفلسطينية المرشحة لقيام الدولة، فالأراضي التي تطالب بها السلطة للدولة المستقبلية في الضفة الغربية وشرق القدس وقطاع غزة تتعرض للتآكل والتشرذم بفعل انتشار المستوطنات والبؤر الإسرائيلية.
وعلى أرض الواقع، يوجد اليوم ما يزيد عن نصف مليون مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية (دون احتساب شرق القدس) يعيشون وسط نحو ثلاثة ملايين فلسطيني.
ويعني ذلك أن مشروع حل الدولتين لم يعد يواجه “تعقيدات” فحسب، بل يتعرض لعملية تقويض ممنهجة تهدف إلى إفشاله بالكامل على الأرض ع تغلغل هذا العدد الكبير من المستوطنين داخل النسيج الجغرافي للضفة.
كما أن الطرق الالتفافية والمناطق العازلة التي تقيمها “إسرائيل” لحماية تجمعات المستوطنين تُقسّم أوصال الضفة الغربية وتحول البلدات الفلسطينية إلى جيوب متناثرة. ولذلك، في ظل هذا التغول الإسرائيلي، أصبح مصير حل الدولتين برمته على المحكّ أكثر من أي وقت مضى.