ترجمة وتحرير: نون بوست
تحت جنح الظلام، بدأت مروحيات إسرائيلية بالوصول إلى جنوب سوريا في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بعد تسعة أيام فقط من الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد. وإلى جانب شحنات من المساعدات الإنسانية، أُسقطت جوًا وبصورة سرّية نحو 500 بندقية وذخائر ودروع واقية، لتسليح ميليشيا درزية تُعرف باسم “المجلس العسكري”، وفقًا لمسؤولَين إسرائيليين شاركا مباشرة في العملية.
وجاءت هذه الشحنات في سياق الصعود المفاجئ لأحمد الشرع، القيادي الإسلامي المسلح المعروف سابقًا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، والذي قاد عملية إسقاط الأسد. وقد نظرت إسرائيل إلى الشرع بعين الريبة، نظرًا لتاريخه في قيادة فصيل مسلح كان مرتبطا رسميًا قبل نحو عقد من الزمن بتنظيم القاعدة الذي يعادي وجود إسرائيل بشكل صريح. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن الشرع لا يزال يحتفظ بعناصر متطرفة ضمن دائرته المقربة.
وباعتبارها قوة آخذة في توسيع نفوذها الإقليمي، تسعى إسرائيل إلى التأثير في مسار التطورات داخل سوريا من خلال دعم ميليشيات درزية في إطار مساعٍ تهدف، بحسب مسؤولين إسرائيليين حاليين وسابقين، إلى إضعاف وحدة سوريا، وتعقيد جهود الشرع الرامية إلى توحيد البلاد عقب سنوات طويلة من الحرب الأهلية.
وأفاد مسؤولون إسرائيليون حاليون وسابقون أن الإمدادات السرّية التي قدمتها إسرائيل تشكل جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد لدعم الدروز، تلك الأقلية الدينية التي لعبت دومًا دورًا محوريًا في المشهد السياسي لعدة دول في الشرق الأوسط. وأظهر تحقيق أجرته صحيفة “واشنطن بوست” أن هذا الدعم مستمر حتى يومنا هذا.

بلغ تدفّق الأسلحة ذروته في أبريل/ نيسان، عقب اندلاع اشتباكات بين مقاتلين دروز سوريين ومسلحين إسلاميين موالين للشرع، قبل أن يتراجع في أغسطس/ آب مع تحوّل إسرائيل نحو فتح قنوات تفاوض مع الشرع، وتزايد الشكوك داخل الأوساط الإسرائيلية بشأن موثوقية الانفصاليين الدروز السوريين وإمكان تحقيق أهدافهم على الأرض.
ورغم ذلك، تواصل إسرائيل تنفيذ عمليات إسقاط جوي لمعدات عسكرية غير قتالية، تشمل الدروع الواقية والإمدادات الطبية، لصالح مقاتلين دروز في سوريا، وهو ما يحدّ عمليًا من قدرة الشرع على ترسيخ سلطته في كامل أنحاء البلاد، حسب قادة دروز في سوريا ومسؤول إسرائيلي سابق.
كما تشير تقديرات مسؤولين دروز إلى تقديم مدفوعات شهرية تتراوح بين 100 و200 دولار لنحو 3,000 عنصر من الميليشيات الدرزية، في خطوة تعكس الرغبة في الحفاظ على قوة ردع في مواجهة الحكومة السورية المركزية.
خلال إعداد هذا التقرير، أجرت “واشنطن بوست” مقابلات مع أكثر من عشرين مسؤولًا إسرائيليًا وغربيًا حاليًا وسابقًا، إلى جانب مستشارين حكوميين وقادة ميليشيات درزية ومسؤولين سياسيين في سوريا وإسرائيل ولبنان. وقد تحدث العديد منهم شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، كاشفين عن تفاصيل الدعم الإسرائيلي للدروز السوريين، بما في ذلك أوجه تعاون سرّية لم يُعلن عنها من قبل.
وتتمحور الاستراتيجية الإسرائيلية منذ سقوط الأسد حول منع ظهور نظام سوري يمتلك القدرة على تهديد إسرائيل على حدودها الشمالية الشرقية. وفي هذا السياق، يرى مسؤولون إسرائيليون أن واشنطن تُبدي قدرًا من السذاجة في قبولها تأكيدات الشرع بأنه تخلّى عن توجهاته المتطرفة.
في المقابل، تؤكد إسرائيل التزامها الراسخ تجاه الدروز، الذين ينتشرون في عدة دول بالشرق الأوسط، وتتمتع بعلاقات متجذرة معهم. يتبع هؤلاء ديانة توحيدية تختلف عن الإسلام واليهودية، وقد لعبوا أدوارًا بارزة داخل إسرائيل، وشغلوا مناصب عليا في الجيش والحكومة، مما يجعلهم حلفاء طبيعيين في سوريا بالنسبة للعديد من المسؤولين في المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية.
ويعكس دعم إسرائيل للدروز السوريين مستوى عميقًا من عدم الثقة بالشرع، إلى جانب تاريخ طويل من التدخل الهادئ في دولة مجاورة عانت من الانقسام والحرب الأهلية. وقد أسهمت معارضة إسرائيل جهود الشرع في توحيد البلاد، بما في ذلك استمرار دعمها للدروز، بتوتر العلاقات بين البلدين، وبين إسرائيل وإدارة ترامب، التي وضعت دعم الشرع في صلب سياستها الإقليمية.
ويعوّل العديد من المسؤولين في الإدارة الأمريكية والكونغرس على قدرة الشرع على إعادة الاستقرار إلى سوريا، ما قد يخفّف التوترات الإقليمية، ويفتح الطريق أمام عودة ملايين اللاجئين إلى ديارهم، ويساهم في الحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وفي مقابلة أُجريت مؤخرا في واشنطن قبيل لقائه مع الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، قال الشرع لـ”واشنطن بوست” إن دعم إسرائيل للحركات الانفصالية ينبع من “طموحات توسعية”، محذرًا من أنه قد يؤدي إلى إشعال “حروب واسعة النطاق في المنطقة”، نظرًا لما قد يشكله هذا التوسع من تهديد للأردن والعراق وتركيا ودول الخليج.

وأضاف الشرع أن إسرائيل وسوريا “قطعتا شوطًا متقدمًا على طريق التوصل إلى اتفاق لخفض التصعيد”، معربًا عن أمله في أن تسحب إسرائيل قواتها من الأراضي التي سيطرت عليها في وقت سابق من العام الجاري، و”ألا تتيح المجال لأطراف أو جهات لا تريد لسوريا أن تنعم بالاستقرار”.
في المقابل، يقول مسؤولون إسرائيليون إنه رغم انعدام الثقة بالشرع بسبب ماضيه كقائد لفصيل تابع لتنظيم القاعدة، فإن إسرائيل انتهجت قدرًا من البراغماتية في الأشهر الأخيرة، تمثّل في تقليص دعمها للدروز السوريين، وخفض وتيرة الضغط العسكري على سوريا، وإتاحة المجال أمام المسار التفاوضي.
وحسب مسؤولين إسرائيليين ودروز، أوقفت إسرائيل في أغسطس/ آب تدفق الأسلحة إلى الدروز، بعد أن صافح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشرع لأول مرة في مايو/ أيار. وداخليًا، علّق مسؤولون إسرائيليون مناقشات كانت تهدف إلى تحويل الدروز السوريين إلى ميليشيا تابعة لإسرائيل، وسط مخاوف من تصاعد الخلافات الداخلية بين القيادات الدرزية السورية، ومن خطر انزلاق إسرائيل إلى التورط بشكل أكبر على الساحة السورية، وفقًا لمسؤولين إسرائيليين ومستشارين حكوميين.
وقال مسؤول إسرائيلي، واصفًا هذا الدعم بأنه محسوب بدقة: “كنا نتدخل عندما يكون ذلك ضروريًا للغاية، ونحن ملتزمون بأمن الأقليات، لكن الأمر لا يعني أننا سننشر قوات كوماندوز تقاتل مع الدروز أو نطلق مشروع تشكيل ميليشيات وكيلة”. وأضاف: “نراقب مسار التطورات عن كثب، وليس خافيًا أن الإدارة الأمريكية تدفع بقوة نحو التوصل إلى اتفاق”.
وأشار المسؤول نفسه إلى تزايد القناعة داخل إسرائيل بأن الدروز السوريين ليسوا كتلة واحدة، وأنهم لم يصطفوا جميعا خلف الزعيم الروحي للطائفة، الشيخ حكمت الهجري، الذي يقود دعوات للانفصال عن سوريا بدعم إسرائيلي.
ردًا على طلب التعليق الرسمي، صرح مسؤول حكومي إسرائيلي قائلاً: “بعد هجمات 7 أكتوبر، تلتزم إسرائيل بحماية مواطنيها على الحدود، بما في ذلك الحدود الشمالية، ومنع تحصن الإرهابيين وأي أعمال عدائية ضدنا، إلى جانب حماية حلفائنا الدروز وضمان أمن الدولة من أي هجمات برية أو أي هجمات أخرى قادمة من الحدود”. وقد طلب المسؤول عدم الكشف عن هويته، بينما امتنع الجيش الإسرائيلي عن التعليق على هذا التقرير.
في المقابل، يرى بعض المحللين الإسرائيليين والأمريكيين أن الاستخدام الإسرائيلي المكثف للقوة العسكرية في سوريا، إلى جانب الجهود السرّية لتعزيز النزعة الانفصالية الدرزية، جاء بنتائج عكسية وأضرّ بالعلاقات في مرحلة بدا فيها الشرع منفتحًا على تحقيق انفراج دبلوماسي.
وقالت دانا سترول، المسؤولة الرفيعة السابقة في وزارة الدفاع الأمريكية خلال إدارة بايدن، والتي تابعت الملف السوري عن كثب: “يتصاعد الاستياء في واشنطن من أن الإجراءات الإسرائيلية أعاقت مسارًا يتطلع إلى نجاحه معظم صناع القرار في الولايات المتحدة، بل وفي الشرق الأوسط عمومًا، وهو قيام سوريا مستقرة وموحدة”.
وأضافت: “الحجة الأساسية الموجهة لإسرائيل هي: لديكم قادة في دمشق مستعدون لذكر اسم إسرائيل والتحدث عن مستقبل محتمل لعلاقات طبيعية، ومع ذلك تواصلون القصف أو البحث عن طرف بديل تعملون من خلاله”.
على شفا الهاوية

قبل أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، كان مسؤولون داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قد توصّلوا إلى قناعة بأن الشرق الأوسط يقف على أعتاب تحوّلات كبرى قد تعيد رسم موازين القوى في المنطقة.
خلال عام 2024، أسهمت العمليات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية في إضعاف أبرز حلفاء الأسد، ولا سيما إيران وحزب الله اللبناني، ما عمّق عزلته السياسية والعسكرية. وفي هذا الإطار، تحرّك قادة من الطائفة الدرزية في إسرائيل للبحث عن شخصية درزية سورية قادرة على لعب دور قيادي في حال انهيار النظام، وقيادة نحو 700 ألف درزي داخل سوريا، وفقًا لمسؤولَين إسرائيليين شاركا مباشرة في هذه المساعي. وقد وقع الاختيار على طارق الشوفي، العقيد السابق في جيش الأسد.
يؤكد أحد المسؤولين أنه تم “اختيار نحو 20 عنصرًا من ذوي الخبرة العسكرية، وتوزيع الرتب والمهام، والبدء بتأسيس ما عُرف لاحقًا بالمجلس العسكري” في محافظة السويداء، المعقل التقليدي للدروز جنوب سوريا.
وفي تلك المرحلة، كان المجلس العسكري بقيادة الشوفي يحظى بدعم الشيخ حكمت الهجري، رجل الدين الدرزي البالغ من العمر 60 عامًا والمولود في فنزويلا، والذي دعا صراحة إلى إقامة كيان درزي يتمتع بحكم ذاتي بدعم إسرائيلي، حسب أحد الأعضاء المؤسسين في المجلس.
ولتمكين الشوفي من ترميم مبنى قديم وتحويله إلى مقر قيادة، إلى جانب تأمين الزيّ الرسمي والمعدات الأساسية، قام دروز داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بتحويل مبلغ 24 ألف دولار عبر قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، القوة التي تقودها فصائل كردية ولها علاقات مع إسرائيل، حسب مسؤول إسرائيلي سابق.
وأضاف المسؤول السابق أن هذه الأموال كانت مخصصة لضمان استمرارية عمل المجلس إلى حين سقوط نظام الأسد. وفي الفترة ذاتها تقريبًا، تم تحويل ما يصل إلى نصف مليون دولار بشكل منفصل من “قسد” إلى المجلس العسكري، وفقًا للمصدر ذاته وقائدين درزيين في سوريا.
وفي سياق دعم القضية الدرزية، تولّت “قسد” كذلك تدريب مقاتلين دروز سوريين، من بينهم نساء، في مناطق خاضعة لسيطرتها شمال سوريا، وهي شراكة لا تزال قائمة حتى اليوم، حسب مسؤول كردي رفيع، وقائد درزي سوري، ومسؤول إسرائيلي سابق. ولم يصدر أي تعليق عن الجناح السياسي لـ”قسد” ردًا على طلباتنا.
في الآن ذاته، أعدّ الشيخ حكمت الهجري خرائط لكيان درزي مستقبلي مقترح يمتد جغرافيًا حتى العراق، وطرح الفكرة على حكومة غربية كبرى في مطلع عام 2025، وفقًا لما أفاد به مسؤول غربي.
استنفار مروحيات “أباتشي”
مع سقوط الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، عقب هجوم خاطف استمر 11 يومًا قاده أحمد الشرع وفصيله المسلح “هيئة تحرير الشام”، تحرّكت إسرائيل بسرعة لفرض وقائع جديدة على الأرض.
دخلت القوات البرية الإسرائيلية إلى الأراضي السورية وسيطرت على مساحة تُقدّر بنحو 155 ميلًا مربعًا، شملت مواقع إضافية على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية على الحدود السورية اللبنانية. وفي الوقت نفسه، شنّ سلاح الجو الإسرائيلي مئات الغارات الجوية على منشآت عسكرية سورية، بهدف حرمان القيادة السورية الجديدة من الوصول إلى مخزونات السلاح. وفي غضون عشرة أيام، قام عقيد في القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي بإرسال مروحيات “أباتشي” لنقل بنادق وأموال ومساعدات إنسانية إلى مناطق درزية، وفقًا لمسؤول إسرائيلي سابق.
وبلغت شحنات الأسلحة ذروتها في أواخر أبريل/ نيسان، وسط تصاعد المخاوف الإسرائيلية من تعرض الطائفة الدرزية للخطر. فمع احتدام التوترات الطائفية في سوريا، اندلعت اشتباكات عنيفة بين مسلحين إسلاميين موالين لحكومة الشرع الجديدة ومقاتلين دروز، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى. وعلى وقع هذه التطورات، تعهّد مسؤولون إسرائيليون علنًا بحماية الدروز، خشية تعرضهم للاجتياح أو الحصار أو أعمال قتل جماعي.
ردّت إسرائيل بإرسال أسلحة، معظمها مستعملة، كانت قد حصلت عليها من قتلى حزب الله وحماس، حسب مسؤول إسرائيلي سابق، وقائد درزي في سوريا، ووسيط مالي. كما أفاد أحد قادة الميليشيات الدرزية بتلقي بنادق قنص، ومعدات للرؤية الليلية، وذخائر مدافع رشاشة ثقيلة عيار 14 و23 مليمترا. ومن خلال قنوات التنسيق مع الأكراد، حصل بعض القادة الدروز أيضًا على صواريخ مضادة للدبابات وصور ميدانية التقطتها أقمار صناعية إسرائيلية، وفقًا لقائدين في ميليشيات درزية بمحافظة السويداء.
تسليح الوكلاء

على الأرض، أقامت القوات الإسرائيلية ما وصفته بـ”منطقة عازلة”، قدّمت من خلالها لسكان نحو 20 قرية درزية مساعدات شملت “الخشب والبنزين والديزل والغذاء وكميات محدودة من المياه”، إلى جانب خدمات طبية في عيادة عسكرية أُنشئت خارج قرية خضر الدرزية، حسب مسؤول عسكري إسرائيلي.
وعلى المستوى الحكومي، أفاد حسون حسون، العميد الإسرائيلي السابق والسكرتير العسكري في مكتب الرئاسة، والذي شارك مباشرة في جهود الدعم، إن وحدة “تنسيق أعمال الحكومة في المناطق” (كوغات) التابعة لوزارة الدفاع، أنشأت مكتبًا إداريًا جديدًا لتنسيق إيصال المساعدات الإنسانية وغيرها إلى الدروز السوريين، بما في ذلك الأسلحة الخفيفة،.
وقاد حسون، وهو درزي إسرائيلي مقرّب من الشيخ حكمت الهجري، تيارًا داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية دعا إلى توسيع نطاق الدعم للدروز السوريين وتحويلهم إلى قوة وكيلة مسلحة تخدم المصالح الإسرائيلية في سوريا. وقال في مقابلة صحفية: “يتعيّن على إسرائيل الانتقال إلى مستوى أعلى، والتصرف كقوة استراتيجية تبني تحالفات مع أطراف ووكلاء محليين، وتحولهم إلى جهات موالية لها، وتكون في المقابل وفية لهم”.
وبرّر مسؤولون إسرائيليون دعم تسليح الدروز بعاملين أساسيين، حسب مسؤول إسرائيلي مطّلع. أولهما عدم الثقة في جدوى الجهود الأمريكية والأوروبية للتقارب مع أحمد الشرع، والتي وصفها بعضهم بأنها “ساذجة”، انطلاقًا من أن الشرع مسلح إسلامي لم يتخل عن ماضيه، ويشكّل تهديدًا محتملًا لإسرائيل إذا تمكّن من ترسيخ سلطته. أما الاعتبار الثاني، فإنه يتمثّل في شعور بالتزام أخلاقي تجاه حماية الطائفة الدرزية ذات الثقل السياسي والاجتماعي داخل إسرائيل.
تزايد الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتدخل المباشر في سوريا في شهر يوليو/ تموز، عقب تجدّد الاشتباكات بين مسلحين سنّة وقوات حكومية سورية، ومقاتلين دروز في محافظة السويداء. وأسفرت أعمال العنف عن مقتل أكثر من ألف شخص، وفق منظمات حقوقية. وردّت إسرائيل حينها بقصف مواقع للقوات السورية، بما في ذلك وزارة الدفاع في دمشق.
تاريخ من الدعم السرّي
لا تعود مخاوف إسرائيل من صعود قوى إسلامية في سوريا، ولا تدخلها في الشأن السوري، إلى المرحلة الراهنة فحسب، بل تمتد لسنوات. بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، دخل ضباط عسكريون إسرائيليون إلى الأراضي السورية لتدريب ميليشيات درزية، وقدموا أسلحة ودعمًا طبيًا لفصائل متمردة أخرى، غالبًا بالتنسيق مع الأردن والولايات المتحدة، حسب ثلاثة مسؤولين إسرائيليين سابقين.
وامتنع تامير هايمان، اللواء الإسرائيلي السابق ورئيس القيادة الشمالية المسؤولة عن الجبهة السورية، عن الخوض في تفاصيل الدعم الحالي للدروز، لكنه أقرّ بأن إسرائيل والأردن قدّما خلال سنوات الحرب دعمًا لفصائل محلية معروفة بعدائها للتنظيمات السنية المتطرفة.
وقال هايمان متحدثا عن تلك المرحلة: “كان هناك تقاطع مصالح بين إسرائيل وتلك الفصائل المحلية، سواء لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية أو لحماية الحدود الإسرائيلية. وفي المقابل، قدّمنا دعمًا لوجستيًا تمثّل أساسًا في العلاج الطبي مستشفيات إسرائيلية، وتوفير المياه وإمدادات الغاز، وأحيانًا بعض الأسلحة”.
في الوقت الراهن، يحذّر محللون إسرائيليون من أن دعم كيان درزي مستقل، أو ميليشيا تابعة لإسرائيل، يمثل هدفا مختلفا تمامًا عن التعاون مع الدروز لتأمين الحدود. وأشار أحد مستشاري الحكومة إلى أن إسرائيل لها “تجربة مريرة في جنوب لبنان”، حيث دعمت ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” على مدى عقدين، قبل أن ينهار مع انسحاب إسرائيل وتقدم حزب الله عام 2000.
وأضاف المستشار أن دعم دولة مستقلة أو شبه مستقلة سيخلق واقعًا “تُجبر فيه إسرائيل على الدفاع عن سكان يبعدون نحو 100 كيلومتر عن حدودها”. وتابع: “إذا كانت لإسرائيل مصلحة حقيقية هنا، فهي بالتأكيد لا تكمن في إنشاء دروزستان مستقلة”.
كما تصاعد القلق داخل إسرائيل إزاء الانقسامات الداخلية المتفاقمة بين القيادات الدرزية السورية. ففي أغسطس/ آب، تحرّك الشيخ الهجري للحصول على اعتراف بدوره كممثل شرعي للدروز السوريين، وحّل “الحرس الوطني”، وهي ميليشيا جديدة يقودها الهجري وابنه سليمان، مكان “المجلس العسكري” في تلقي الدعم والسلاح من إسرائيل، حسب قادة دروز سوريين ومسؤولين إسرائيليين سابقين اطّلعوا على الملف.
وأدّت هذه الخطوة إلى تعميق الانقسامات داخل الصف الدرزي. وُجّهت اتهامات إلى طارق الشوفي، الزعيم السابق للمجلس العسكري، أنه يتعاون مع الشرع، ما دفعه إلى الاختفاء خشية اعتقاله على يد أنصار الهجري. وفي المقابل، وُجّهت اتهامات للهجري بالضلوع في عمليات خطف، ولابنه بإقامة علاقات مع شبكات إقليمية لتهريب المخدرات، بما في ذلك حزب الله، وفقًا لمسؤول إسرائيلي سابق، وقائد درزي في سوريا، ووسيط مالي.
وقال أحد المسؤولين الإسرائيليين السابقين المشاركين في هذه الجهود: “يدرك الإسرائيليون اليوم أنهم لا يملكون شريكًا حقيقيًا للعمل معه على الجانب الآخر، وبالتأكيد ليس شريكًا يمكن التعويل عليه على المدى الطويل”.
ولم يرد ثلاثة أشخاص مقرّبين من الشيخ الهجري، أحد أبنائه، ومستشار له، وابن شقيقه، على أسئلة مفصلة وطلبات تعليق من صحيفة “واشنطن بوست”. كما تعذّر الوصول إلى طارق الشوفي للتعليق.
أدوية ودروع واقية وأموال

في الأسابيع التي سبقت انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول، وبينما كان مسؤولون إسرائيليون يدرسون احتمال عقد لقاء بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأحمد الشرع في نيويورك – وهو لقاء لم يرَ النور في نهاية المطاف -، أبلغ مسؤولون سوريون نظراءهم بأن دمشق لا ترغب في أن تلعب إسرائيل أي دور في تغذية النزعة الانفصالية الدرزية، حسب مستشار حكومي إسرائيلي.
وأضاف المستشار أن مقترح اتفاق أمني بين البلدين تعثّر جزئيًا نتيجة مطالب إسرائيلية تتعلق بتقديم ضمانات خاصة للدروز، من بينها إنشاء ممر إنساني مُسيّج يمتد من إسرائيل إلى محافظة السويداء.
ويقول مسؤولون إسرائيليون وآخرون مطلعون على توجهات السياسة الإسرائيلية إن الوضع في سوريا وسياسة إسرائيل تجاه الدروز ما يزالان متقلبين وغير ثابتين. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني، قام نتنياهو بزيارة لقوات إسرائيلية داخل أراضٍ سورية محتلة، وهو ما دانته سوريا بشدة واعتبرته انتهاكًا لسيادتها.
وخلال المفاوضات حول اتفاق أمني ثنائي، طالبت إسرائيل بنزع السلاح من جنوب سوريا، وعدم دخول القوات السورية إلى السويداء دون تنسيق مسبق مع إسرائيل، وفق مسؤول إسرائيلي سابق شارك في المفاوضات. وفي مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست”، رفض أحمد الشرع مطلب إسرائيل بنزع السلاح من المنطقة الواقعة جنوب دمشق.
وحسب أحد المسؤولين الإسرائيليين، ستواصل إسرائيل الضغط في محادثاتها مع الشرع من أجل إرساء “حكم ذاتي مؤسسي” للدروز، مضيفًا أن شحنات المساعدات الإسرائيلية لم تتوقف، لكنها أصبحت أقل حجمًا وتواترا.
وفي بيان رسمي، قال مسؤول حكومي إسرائيلي: “تتوقع إسرائيل من سوريا إقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد من دمشق إلى المنطقة الفاصلة، بما في ذلك مداخل جبل الشيخ وقمته… من الممكن التوصل إلى اتفاق مع السوريين، لكننا سنتمسك بمبادئنا، وفي مقدمتها الحماية الدائمة لإخوتنا وأخواتنا الدروز، الذين تعرّضوا هذا الصيف لمجازر تذكّر بفظائع السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”.
وحتى أواخر سبتمبر/ أيلول، واصلت مروحيات إسرائيلية نقل أدوية ومعدات عسكرية دفاعية إلى محافظة السويداء، بما في ذلك دروع واقية، حسب قادة دروز في سوريا ومسؤول إسرائيلي سابق. كما استمرت المدفوعات الشهرية لنحو 3,000 مقاتل من “الحرس الوطني”، وفق ما أفاد به مسؤولون دروز.
وقالت كارميت فالنسي، الخبيرة في الشأن السوري بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في تل أبيب، إن الحماس الإسرائيلي لدعم بعض القادة الدروز ذوي التوجهات الانفصالية، ومن بينهم الشيخ حكمت الهجري، قد تراجع في ظل تنامي الشكوك حول واقعية تقديم دعم واسع النطاق لكيان درزي مستقل، مثل إمدادات الكهرباء والمياه.
وأضافت فالنسي: “يتعيّن على إسرائيل أن تعترف بوجود حدود لتدخلها في الشؤون الداخلية، لا سيما في وقت تجري فيه حوارًا مع نظام يسعى إلى التوصل لاتفاق أمني”. وتابعت: “ما دام الجمود قائمًا ولم يُبرم اتفاق أمني، فمن المرجح أن تواصل إسرائيل تقديم الدعم للدروز، وإن كان ذلك ضمن حدود محسوبة”.
المصدر: واشنطن بوست