مدّد البرلمان التركي تفويض مهام القوات التركية في ليبيا لعامين إضافيين بدءًا من الثاني من يناير/كانون الثاني 2026، بناءً على مذكرة رئاسية تؤكد استمرار دعم أنقرة للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، والحفاظ على وقف إطلاق النار، ومنع انزلاق البلاد نحو الفوضى، مع تأكيد حماية المصالح التركية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، وذلك في إطار احترام القانون الدولي.
يعكس هذا القرار إصرار أنقرة على مواصلة حضورها العسكري والسياسي في ليبيا، وسط واقع إقليمي ودولي معقّد، فما الذي يدفع تركيا لتمديد وجودها؟ وما الأهداف التي تسعى لتحقيقها؟ وما مدى تأثير هذه الخطوة على توازنات القوى في ليبيا والمنطقة؟
خلفيات التواجد العسكري التركي
بدأ الحضور العسكري التركي في ليبيا أواخر عام 2019، عقب توقيع حكومة الوفاق الوطني السابقة، برئاسة فائز السراج، مذكرة تفاهم أمنية وعسكرية مع أنقرة، تلاها اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وقد شكّلت هذه الاتفاقيات الإطار القانوني لتدخل تركيا، حيث صادق البرلمان التركي مطلع يناير/كانون الثاني 2020 على تفويض رسمي يسمح بإرسال قوات ومستشارين عسكريين إلى ليبيا، بناءً على طلب حكومة طرابلس ووفقًا للمادة 92 من الدستور التركي.
تُرجم هذا التفويض سريعًا على الأرض عبر نشر مستشارين ووحدات دعم ومعدات عسكرية متطورة، ساهمت في قلب موازين الصراع، لا سيما خلال معركة طرابلس التي اندلعت بين قوات حكومة الوفاق وقوات الشرق بقيادة خليفة حفتر بين عامي 2019 و2020.
وقد شكّل التدخل التركي عاملًا حاسمًا في صدّ الهجوم على العاصمة، واستعادة قوات الغرب مواقع استراتيجية، أبرزها قاعدة الوطية الجوية في مايو/أيار 2020، ما مهّد الطريق لإعلان وقف شامل لإطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه برعاية الأمم المتحدة، إيذانًا ببداية مسار سياسي جديد.
منذ ذلك الحين، حافظت أنقرة على وجود عسكري محسوب في ليبيا، واستمرت في التنسيق مع السلطات الليبية في طرابلس. وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في مارس/آذار 2021، عزّزت أنقرة دعمها السياسي والعسكري، وواصلت الشراكة مع الحكومة المعترف بها دوليًا، رغم استمرار الانقسام السياسي وفشل إجراء الانتخابات العامة في موعدها نهاية 2021.
وتمخض هذا التعاون عن مذكرات تفاهم جديدة، كان آخرها في مارس/آذار 2024 بين وزير الدفاع التركي والدبيبة، بما أعاد تأكيد الاعتراف المتبادل بالاتفاقيات الأصلية كأساس للتعاون الدفاعي المشترك.
وفي ظل استمرار التوترات الليبية، جددت تركيا تفويضها البرلماني أكثر من مرة: أولًا بتمديد لمدة 18 شهرًا في يونيو/حزيران 2021، ثم لعامين إضافيين في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وصولًا إلى التمديد الأخير الذي يسري اعتبارًا من يناير 2026. وترى أنقرة أن وجودها العسكري أسهم في تثبيت وقف إطلاق النار، ودعم مسار الحوار السياسي، ومنع انهيار الاستقرار الهش، فضلًا عن حماية مصالحها الحيوية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
وتُصرّ تركيا على أن وجودها في ليبيا يتم بطلب رسمي من حكومة شرعية، ووفق اتفاقيات ثنائية معلنة ومنسجمة مع القانون الدولي، ما يجعلها تنفي صفة “القوة الأجنبية الغازية” عن قواتها، وتؤكد أن تدخلها يستهدف حماية السيادة الليبية وليس المساس بها.

أهداف أمنية وسياسية
تستند تركيا في تبرير استمرار وجودها العسكري في ليبيا إلى اعتبارات أمنية وسياسية متداخلة، تُقدَّم رسميًا في سياق حماية مصالحها الوطنية ضمن إطار القانون الدولي. وتعتبر أنقرة أن وجود قواتها يشكّل خط دفاع متقدمًا ضد تهديدات محتملة من جماعات مسلحة غير نظامية، ويمنع انزلاق ليبيا مجددًا نحو الفوضى، بما قد يُفضي إلى تصاعد موجات الهجرة غير النظامية أو تنامي خطر الجماعات الإرهابية، وهو ما تعتبره مساسًا مباشرًا بأمنها القومي وبالاستقرار الإقليمي في شرق المتوسط.
في هذا السياق، جاءت المذكرة الرئاسية الأخيرة التي أحيلت إلى البرلمان التركي لتؤكد أن دعم الاستقرار في ليبيا بات جزءًا من معادلة الأمن القومي التركي، محذّرة من أن استمرار الانقسام السياسي وتعثر إجراء الانتخابات يشكّلان تهديدًا فعليًا لحالة الهدوء النسبي التي تعيشها البلاد منذ اتفاق وقف إطلاق النار.
كما شددت المذكرة على التزام تركيا الكامل بدعم جهود الأمم المتحدة الرامية إلى تحقيق مصالحة وطنية وتنظيم انتخابات شاملة، معتبرة أن الحيلولة دون تجدّد النزاع شرطٌ أساسي لإنجاح تلك المساعي.
وبموازاة ذلك، تؤكد أنقرة التزامها بسيادة ليبيا ووحدة ترابها، وتواصل تنفيذ مهام التدريب والدعم الفني للقوات الليبية في طرابلس، استنادًا إلى اتفاق التعاون الأمني الموقع مع الحكومة المعترف بها دوليًا، في مسعى لبناء جيش وطني ليبي موحّد قادر على حفظ الاستقرار ومواجهة التحديات.
غير أن المصلحة الأمنية لا تُختصر في المخاطر المباشرة، بل تتداخل مع رؤية جيوسياسية أوسع تتبناها تركيا في ليبيا. فبحسب مراقبين، تجاوز الدور التركي هناك حدود التدخل التكتيكي في لحظة صراع، ليتحوّل تدريجيًا إلى خيار إستراتيجي طويل الأمد. لقد مكّن دعم أنقرة للحكومة الليبية من تغيير موازين القوى ميدانيًا، ورسّخ موقع تركيا كفاعل محوري لا يمكن تجاهله في أي تسوية مقبلة للأزمة.
ولعل هذا التوجّه يعكس حسابات تركية مرتبطة بأمنها الإقليمي ومصالحها الجيوسياسية، لا سيما في ما يتعلق بملف الطاقة ومسارات النفوذ في شرق البحر المتوسط. فليبيا، بما تمتلكه من موقع استراتيجي وثروات محتملة، تشكّل نقطة ارتكاز حيوية في موازين القوى البحرية، كما أن الوجود التركي فيها يمنح أنقرة أداة ردع ويعزز من قدرتها التفاوضية في ملفات شائكة، مثل ترسيم الحدود البحرية واستغلال موارد النفط والغاز.
وبهذا المعنى، تنظر تركيا إلى ليبيا بوصفها جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتها الكبرى في شرق المتوسط؛ حضورها هناك ليس طارئًا بل ركيزة من ركائز نفوذها الإقليمي الذي يثبت موقعها كلاعب فاعل في معادلات المنطقة.
كما تعد أن الحفاظ على شراكتها مع حكومة طرابلس ضرورة لحماية مكتسبات سابقة، أبرزها اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع نهاية 2019، والذي تراه أنقرة إنجازًا استراتيجيًا لا يمكن التفريط به. ومن ثم، فإن استمرار هذا الدعم يمثل – من وجهة نظرها – ضمانة لبقاء تلك الاتفاقات سارية، وحاجزًا يحول دون إبرام ترتيبات جديدة مع أطراف مناوئة قد تهدد مصالحها السيادية في المتوسط.
مكاسب ومخاطر
بعد نحو خمس سنوات من تدخلها العسكري في ليبيا، تقف تركيا اليوم أمام معادلة دقيقة، تحاول فيها ترجيح كفة المكاسب الإستراتيجية المحققة مقابل تحديات متصاعدة ومخاطر محتملة خلال المرحلة المقبلة، وبين من يرى في هذا الحضور نقطة ارتكاز جيوسياسية لأنقرة، ومن يحذّر من انعكاساته المعقدة، ترسم تجربة تركيا في ليبيا صورة مركبة تجمع بين النفوذ والعبء.
المكاسب الإستراتيجية
ترسيخ النفوذ الإقليمي: أتاح الوجود العسكري التركي في شمال أفريقيا لتركيا موطئ قدم نوعي يعزز من مكانتها الإقليمية، لا سيما في ملفات حساسة كالأمن والاستقرار والطاقة. فأنقرة – عبر شراكتها الأمنية مع طرابلس – تحوّلت إلى طرف رئيسي لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية أو اقتصادية تخص مستقبل ليبيا. وجودها العسكري، المنظم بموجب اتفاقيات ثنائية شرعية، تجاوز الإطار الأمني ليُنتج نفوذًا سياسيًا فعّالًا على الأرض.
حماية المصالح البحرية والطاقة: تمثّل ليبيا حلقة مركزية في الصراع الإقليمي حول ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وبفضل اتفاق الترسيم البحري الذي أبرمته مع حكومة الوفاق نهاية 2019، ضمنت تركيا لنفسها مساحة مناورة قانونية وجيوسياسية في وجه تحالفات مضادة تضم مصر واليونان وقبرص. واستمرار التواجد العسكري يُعدّ ضامنًا لبقاء هذا الاتفاق فاعلًا، ويحول دون إلغائه عبر ترتيبات بديلة محتملة في حال غابت أنقرة عن المشهد.
عوائد أمنية واستخباراتية: يمنح التموضع التركي قدرة استخباراتية متقدمة على تتبع تحركات الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب في ليبيا والساحل، ما يعزز أمنها القومي بشكل استباقي. كما أن دعمها لتدريب القوات الليبية في الغرب يخلق شريكًا أمنيًا محليًا يحد من التهديدات العابرة للحدود، ويقوّي حضورها في ملف مكافحة الإرهاب.
فرص اقتصادية مستقبلية: تراهن أنقرة على الاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا، التي ستنطلق بمجرد استقرار الأوضاع، ما يفتح آفاقًا واعدة أمام الشركات والمقاولين الأتراك. كما تأمل في ترسيخ موقعها ضمن عقود الطاقة والبنية التحتية، خاصة في مجالي النفط والكهرباء، معتمدة على عمق العلاقة الحالية مع طرابلس واستمرارية النفوذ السياسي والأمني في الغرب الليبي.
أبرز التحديات والمخاطر
الاستنزاف العسكري والسياسي: الانخراط في ساحة نزاع خارجي، مهما بدا محسوبًا، يبقى محفوفًا بالمخاطر. ففي حال تجدّد القتال، قد يجد الجيش التركي نفسه أمام تصعيد ميداني مكلف من حيث الموارد والروح المعنوية، ناهيك عن الخسائر المحتملة، كما أن أي تطورات ميدانية كارثية قد تتحوّل إلى ورقة ضغط سياسي داخلي تُحرج الحكومة أمام الرأي العام.
تعقيدات في العلاقات الدولية: استمرار أنقرة في الاحتفاظ بقواتها قد يثير توترًا مع بعض القوى الأوروبية، مثل فرنسا واليونان، التي تعتبر الخطوة إخلالًا بتوازنات المنطقة. كما أن بقاء القوات الأجنبية، رغم غطاء الاتفاقات، يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة المطالبة بانسحابها، مما يعرّض تركيا لانتقادات دبلوماسية أو حتى تحركات سياسية معاكسة، خصوصًا إذا تغيرت مواقف واشنطن أو بروكسل.
خسارة المكاسب في حال التراجع المفاجئ: المفارقة أن من بين أبرز المخاطر ما قد ينتج عن انسحاب تركي غير مدروس، فتقليص الحضور دون ترتيبات واضحة قد يُطيح باتفاق الترسيم البحري، ويمنح خصوم تركيا فرصة لتوقيع اتفاقات بديلة تُقصي أنقرة من معادلات الطاقة والأمن في المتوسط، وتُفقدها نفوذًا راكمته خلال سنوات.
في المحصلة، لا يبدو التمديد التركي في ليبيا قرارًا ظرفيًا بقدر ما يعكس تموضعًا استراتيجيًا طويل الأمد، ترى فيه أنقرة استثمارًا في النفوذ قبل أن يكون انتشارًا عسكريًا، غير أن نجاح هذا الخيار سيظل مرهونًا بعاملين حاسمين: قدرة تركيا على تجنّب الانزلاق إلى استنزاف مفتوح، وقدرة الليبيين أنفسهم على إنتاج تسوية سياسية تُخرج البلاد من حالة التعليق الدائم، فبين النفوذ والعبء، تبقى ليبيا ساحة اختبار دقيقة للسياسة الخارجية التركية في شرق المتوسط.