ثمّة جمال في الجمع بين عالمين يبدوان متناقضين؛ الجمود والفن، القوالب والمشاعر، الحزم والإنسانية، القطْع والنسبية، والقضاء والأدب كما مثّله الأديب المصري المستشار أشرف العشماوي الذي ترشح وفاز بعدد من الجوائز الأدبية من أبرزها جائزة “كتارا” عن رواية “الجمعية السرية للمواطنين” في سنة 2023، ودخل كتابه الروائي “مواليد حديقة الحيوان” الذي يضم ثلاث روايات قصيرة القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد الشهر الماضي.
بين السيمفونية والسلطة، وبين الخوف والفن، يفتح هذا الحوار المطوّل مع الروائي والقاضي المصري أشرف العشماوي نافذة على عوالم كتابته وأسئلته الوجودية والفنية، انطلاقًا من روايته الأجرأ «السيمفونية الأخيرة» الصادرة في أكتوبر الماضي. حوار لا يكتفي بتفكيك كواليس العمل روائيًا ونفسيًا، بل يمتد ليحفر في علاقة الأدب بالسلطة، والواقع بالفانتازيا، والكتابة بالمهنة، والخوف بالجرأة، وصولًا إلى حدود الحرية ومسؤولية النشر، وحفظه للتحقيقات في جميع قضايا النشر التي حقق فيها أثناء عمله بالنيابة العامة وعددها 44 قضية، عدا قضية واحدة ارتأى النائب العام وقتها أن تذهب للمحكمة.
التقى “نون بوست” في هذا الحوار كاتبًا يصرّ على أن يُحاكم نصّه كروائي لا كقاضٍ، وعلى أن تظل الرواية مساحة حرة للأسئلة التي لا إجابات لها. وعلى امتداد الحديث، يكشف العشماوي عن رهانه على الرواية النفسية بوصفها مدخلًا لفهم القسوة الكامنة في الإنسان حين تتقاطع الموهبة مع السلطة، وعن اختياره الموسيقى -وآلة الكمان تحديدًا- لغةً موازية للسرد، قادرة على حمل الشجن والتوتر والاختفاء. كما يناقش إشكالية الزمن في أعماله، واتهام الابتعاد عن المُعاصر وتفضيل التاريخ، ويشرح كيف تقوده الفكرة لاختيار الزمن لا العكس، ولماذا يرى أن الأدب لا يُقاس بسوداويته أو تفاؤله بل بصدقه الفني.
الحوار يلامس كذلك مناطق شائكة: الرقابة الذاتية، التابوهات الثلاثة، حرية النشر، الجوائز الأدبية، النشر داخل مصر وخارجها، وتأثير الموقع المهني على حرية الكاتب، دون مواربة أو خطاب دفاعي. وفي خلفية كل ذلك، تتردد أسئلة أكبر عن الأدب بوصفه بديلًا للصحافة في قول المسكوت عنه، وعن الاختفاء كقدر رمزي لضحايا السلطة، وعن الكتابة باعتبارها فعل مقاومة هادئ، ومصدر سعادة شخصية، ومحاولة دائمة للإمساك بالحقيقة قبل أن يفلتها الزمن.
– ربما تكون رواية “السيمفونية الأخيرة” أجرأ ما كتبت حتى الآن أو للدقة أجرأ ما نشرت، ما كواليسها فكرة وكتابة؟
فكرة الرواية بدأت منذ حوالي سنة ونصف أو سنتين تقريبًا. هي رواية نفسية تتعلق بأزمة نفسية لشخص مرهف الحس جدًا، وفنان، وفي نفس الوقت عنده سلطة قوية جدًا.. سلطة جبارة. فهل السلطة هي التي تستدعي الأشخاص ذوي الميول للقسوة أحيانًا، أم أن هذه القسوة تنمو أو تنبت بذرتها بسبب الموقع أو السلطة؟ هذه هي الجزئية التي شغلتني وعملت عليها.
في البداية تعثرت في الرواية لمدة ستة أشهر حتى أمسكت خيط الشخصية النفسية. واجهت بعض الصعوبة بسبب الآلة التي يعزفها. لم أستخدم آلة الكمان في البداية. كان البطل سامي عرفان بكل مواصفاته لكنه لم يعزف آلة معينة، وكنتُ مُفتقدًا للجزء الموسيقي الذي أستطيع به اللعب على مشاعر القارئ.
فلمّا وجدتُه جعل الرواية أشبه بسيمفونية؛ فصولها فيها تصاعد وتباطؤ وضجيج وخفوت له صدى أو صوت. هذه كانت اللعبة التي ألعبها بعد أن توصلت لفكرة أن يكون عازف لآلة الكمان. الكمان تحديدًا من الآلات الحزينة مثله مثل الناي والهارب والتشيللو. هذه آلات فيها شجن وحزن ليس فيها فرح كالبيانو مثلًا أو إيقاع مبهج كالطبلة. الآلة مختلفة. ولهذا حرصت على اختيارها لأنها ممكن أيضًا أن تُعزف بصورة فردية، أو تُعزف في كونشيرتو مع آلة أخرى مكملة لها، أو تُعزف في سيمفونية مع آلات أخرى. وفي نفس الوقت عملتُ على التركيبة النفسية للشخصية وفكرة عمله في المراسم كانت الخيط الذي بدأت منه.
– من بين ١٤ عملًا أدبيًا أغلبه روائي، واذا استثنينا النوفيلا “كابينة لا ترى البحر” من كتاب “مواليد حديقة الحيوان”، فإن “السيمفونية الأخيرة” وحدها تدور في الزمن المعاصر. كأنك في العموم تتجنب الكتابة عن الزمن الذي نعيشه؟
لا أريد القول أني أُتهم بهذا الاتهام كثيرًا. هو ليس اتهامًا. لكن لا يوجد كاتب يرجع إلى التاريخ مجانًا. الرجوع للتاريخ يكون لسبب إما لإسقاط أو للقول إن التاريخ لا يعيد نفسه أو يحاول تقريب رؤيته للقارئ أكثر.
أنا عندي روايات دارت في زمن معاصر منها مثلاً “البارمان” لأن أحداثها دارت في سنة 2005. رواية “بيت القبطية” دارت في عام 1995 وهذا زمن قريب. “المرشد” روايتي الثالثة انتهت في عام 2012. “الجمعية السرية للمواطنين” نهايتها 2008. القصدية دائمًا ضد الفن، وإنما الفكرة هي التي تقودني لاختيار الزمن.
في “السيمفونية الأخيرة” قدرت أن أكمل حتى عام 2015 لأن الحبكة والخط الدرامي لا بد أن يكمل لسن الستين الذي أتمّه بطل الرواية وهو مواليد 55. كان ممكن أن أُنهيها قبل كده في 2011 أو 2012 لكن لا يوجد ما يمنع أن أُكمل في السنوات التالية. ممكن أكتب رواية معاصرة وهذا ليس صعبًا بل فكرة الرواية التي تدور في الزمن القديم وكلما عُدنا للتاريخ ستكون أصعب لأنها تحتاج الكثير من البحث وتفاصيل لا بد من مراعاتها. فالمجهود حينها يكون أكبر قبل الكتابة حتى. لكن الزمن المعاصر أنا مُعايش له. ولو سأقدم عملًا في الزمن المعاصر بصورة كاملة لا بد أن تكون لدي القدرة على إدهاش القارئ تمامًا لأنه معاصر لكل ما أكتبه مثلي بالضبط.
– “سامي عرفان” بطل رواية “السيمفونية الأخيرة” نموذج لشخصية مسكونة بالخوف ولا تقول لا أبدا. هل هناك الكثير مثلها في الواقع؟
في ظني، لم ألتقِ بشخصية مماثلة تمامًا لسامي عرفان. هو خيال بالكامل. لكني في اللاوعي ربما أكون التقطت ملامح من بعض الأشخاص الذين أعرفهم بصورة شخصية. أظن أن الشخصية التي يسكنها الخوف بهذه الصورة نتيجة تربية منغلقة للغاية. وهذا ما يقودنا إلى السؤال هل نولد هكذا أم نكتسب هذه الخصائص بسبب التربية أو البيئة أو الثقافة أو بسبب الاحتكاك بأشخاص معينة مثل الجدّة في حالته؟ لا أدري. هل غياب الأب والأم هو السبب؟ كل هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني ولم أجد لها إجابة.
وفي نفس الوقت أظن أحيانًا أن هناك من يولد ببذرة الخوف. ولو انتبه لها الأهل مبكرًا يمكنهم التخفيف من أثرها أو يمكنهم نزعها حتى وإعطائه ثقة في النفس. نحن لا نولد بظروف محايدة ونختار في الحياة. هذه الرواية 90% منها خيال أما الأجزاء الخاصة بالمراسم أو الحوارات على لسان الرئيس السابق حسني مبارك فهي حقيقية. قالها بالفعل في مؤتمرات أو اجتماعات أو لقاءات صحفية وأنا وظّفتها دراميًا كخلفية أو مسرح سياسي يتحرك فيه البطل سامي عرفان. فالأساس أنها رواية نفسية وليست رواية سياسية ولا حتى رواية اجتماعية.
– رأي الكثيرون في “مواليد حديقة الحيوان” أنها سوداوية لكنك قلت إنك روائي واقعي وأي نهايات أخرى للنوفيلات ستكون غير واقعية. مشهد النهاية في “السيمفونية الأخيرة” ولحظات الاقتصاص من البطل الذي يعمل بجهاز أمني تبدو حالمة وكأن الثورة هي التي تحكم، هل عدلت عن رأيك لصالح النهاية الخيالية هروبًا ربما من قسوة الواقع؟
لا أستطيع القول إني عدلت عن رأيي تمامًا أو إني أهرب من الواقع. ما زلت أكتب روايات واقعية. ما زلت أكتب نهايات مفتوحة. ربما تكون النهايات حزينة لكن الأدب ليس فيه حزين وسعيد أو ديستوبيا أو يوتوبيا. هذا التقسيم لم يعد موجودًا. أنت تنظرين إلى العناصر التي استعملها الكاتب وفقًا لفكرته فهل جاءت متفقة أم لا؟ بمعنى لو أنا كتبت كل ما يؤدي إلى نهاية سعيدة ثم وجدتِ نهاية حزينة في الآخر فأنا عندي مشكلة فنية لأني لويت عنق الحقيقة وعملت ما يُغيّر السرد لوضع نهاية غير منطقية. أنتِ ترين النهاية في “السيمفونية الأخيرة” أقرب لحلم أو إنها خيالية أو إن الثورة تحكم.
أظن أن ثورة يناير غيّرت بالضرورة بصورة أو بأخرى فِيَ وفيكِ وفي الكثير من الناس وحتى في المسؤولين. لا بد أن يكون لها تأثير فهي حدث جلل. حدث كبير جدًا لا بد أن يترك أثرًا وما زال يؤثر حتى اليوم لأنه حدث قريب. لكن أنا كمؤلف العمل أرى النهاية مفتوحة. البطلة (دينا يعقوب) اختارت الصمت ورأته أنسب مكان لحفظ الحقيقة فمعنى ذلك إن كل شيء مؤجل وهذا فيه شجن وحزن وقسوة…
– ولكن ماذا عن المشهد السابق في المسرح وتشغيل تسجيلات الاعترافات أثناء الحفل الموسيقي..
فكرة الانتقام عن طريق الفضيحة، أو عن طريق كشف الذنب على الملأ، أو عن طريق التطهر الإجباري بتطهير هذا الرجل الذي أخطأ في حق مواطن وعلى مدار 16 سنة في عصر مبارك.. أظن كانت النهاية متفقة جدًا مع فكرة الرواية. كونها ممكن تحدث في الواقع أو لا فأنا يمكن أن أقف على حافة الفانتازيا. أقترب منها فقط كما فعلت في “الجمعية السرية للمواطنين” فلا يوجد في الواقع جمعية سرية للمواطنين. ولا توجد الصورة التي كان عليها أبطال الجمعية ولا نشراتها.
وفي “مزرعة الخنازير” لا توجد في الواقع الصورة الكاملة لفايز حنّا. ليست بهذا الشكل تمامًا. ولا في “مواليد حدقة الحيوان” التي تجاوزت فيها خط الفانتازيا إلى الفانتازيا نفسها بالنسبة إلى إسماعيل وعايدة وعيشهم داخل الحديقة في قفص كحيوانات. في “السيمفونية الأخيرة” لا يمكن أن أقول إنها فانتازيا، لكني واقف عند هذا الحد ده بما يتفق مع النهاية التي أراها للبطل وإنه يستحق الإختفاء، وليس نهاية تقليدية يتوقعها القارئ بمحاكمته أو توقيع عقوبة عليه أو صدور حكم ضده.
ما كان في ذهني دائمًا وأنا أكتب أن هذا الرجل يجب أن يختفي. يختفي بفنه، وبحسناته، وبسيئاته. هذا نظام كان في وقت مبارك ولا بد أن يختفي تمامًا بكل شيء لأن الزمن تجاوزه.
– في الرواية إسقاط على ما حصل مع الصحفي رضا هلال الذي اختفى تمامًا في عهد مبارك، فإلى أي مدى تتفق مع مقولة “الأدب بديلا للصحافة في قول المسكوت عنه”؟
أتفق معك تمامًا. الأدب بديل عن المسكوت عنه في الصحافة وفي الرواية الرسمية للتاريخ. أظن أن الأدب والفنون مرآة المجتمع. فنون مثل المسرح والسينما والقصة القصيرة والرواية هي الأقرب لأن تكون مرآة لكشف كل ما هو مسكوت عنه في الرواية الرسمية سواء في الصحافة أو في التاريخ. موضوع رضا هلال لم يكن إسقاطًا بقدر ما كان حالة غريبة. هو صحفي عادي لم يكن معارضًا أيام مبارك وبالتالي لا يشكل خطرًا على النظام لكنه يختفي فجأة ولا نعرف عنه شيئًا حتى اليوم.
كانت قصته مغرية بالنسبة لي لأن بطل الرواية يختفي فجأة في زمن مبارك أيضًا. فكرة الاختفاء الفجائي الذي لا مبررات له ولا مقدمات تؤدي لهذه النتائج. بطل الرواية استدعى رضا هلال من الذاكرة، كما استدعى في نفس الفصل الذي حمل عنوان “توأم باهر سعيد” شخصيات محفورة في ذاكراتنا السينمائية على مدار سنين مثل دور الممثل الرائع عادل أدهم في فيلم “طائر الليل الحزين”، والدور العبقري لكمال الشناوي في “الكرنك”، ودور الممثل المتفرد أحمد زكي في “زوجة رجل مهم”. فكرة رجل السلطة الذي ينخدع بأوهام السلطة وجبروتها وطغيانها ويمارسها بمنتهى القسوة وفي الآخر يكتشف أنه ضحية لها.
أظن هذه كانت أزمة سامي عرفان ورغبته في أن يقول إنه ليس كذلك. يقول إنه لا يُنفذ أوامر السلطة ولا مؤثر في السلطة. هو ضابط محسوب على الشرطة ولكنه ليس ضابط شرطة. ليس لديه أيضًا خصائص ضابط الشرطة من ذكاء ولا يُكلّف بأعمال مهمة رغم وجوده في جهاز أمني مهم. هو طول الوقت مُحاط بعناية من رئيس الجمهورية حسني مبارك لمجرد أنه أحبه في البدايات لما كان نائب رئيس الجمهورية فهو اليد التي تسنده.
بطل الرواية أيضًا عنده أزمة لرؤيته لشكل نهاياتهم ويشعر أنها ستحدث له وهو ينكر جرمه ويريد أن يظل أمام نفسه ضحية طول الوقت كما كان أحمد زكي يبرر ما يفعله بالقول إنهم يريدون تخريب البلد، أو عادل أدهم عندما يقول إن الديمقراطية والحرية لها أنياب وستضرهم، وكمال الشناوي قال إنه كان يحمي النظام.
استدعائي لهذا الموضوع كان للإسقاط على بطل روايتي وحالة إنكاره، لكنه يختلف عنهم. هو استخدم سلطته في حدود ضيقة، وفي غفلة، واستغلال لحالة ترهل كانت موجودة في دولة مبارك، واستغلال لوجود قانون طوارئ، وبعيد عن إشراف القضاء أو النيابة، اعتقل شخصًا لسنوات دون أن يعرف أحد عنه شيئًا.
– هل تمارس رقابة ذاتية على كتابتك خشية تأثيرها على عملك القضائي؟
فكرة الرقابة الذاتية في ظني ضد الفن. أنا لو بدأت أكتب ثم قلت أنا قاضي أو أنا متزوج أو أنا عندي أطفال أو أنا أعمل في الموقع الفلاني أو أنا شخص محافظ. لو وضعت قيود على عقلي فلن تنطلق يدي ولا خيالي سيجد طريقه. أنا قد أخاف وقت النشر لكن وقت الكتابة لا أمارس رقابة ذاتية ولا أفكر في القارئ حتى لا أكتب ما يطلبه القراء. أنا أكتب ما أريد كتابته. أكتب ما أستمتع به. أكتب عن العالم الذي أعيش فيه والأسئلة التي أحملها داخلي ولا أعلم إجاباتها والهم العام أو الشخصي الذي يشغلني. كل هذا يخرج في شكل رواية وهو الشكل الذي أعرف كتابته وأعبر به عن نفسي.
أنا أستعمل الرواية لجعل حياتي سعيدة بشكل كبير. يعني أنا أسعد بكتابة الرواية بالدرجة الأولى ثم أحاول الوصول للقارئ عن طريق تقديم عمل محترم يدهشه في كل مرة، ويحمل فنًا، وتسلية، وعالمًا جديدًا، ولغة أفضل. أنا أفصل تمامًا بين عملي القضائي وبين هوايتي التي أمارسها في غير أوقات المحكمة ولا تؤثر على عملي الذي له الأولوية دائمًا. ولا أستغل مهنتي في أن أقول أني مستشار ويكتب روايات. أنا مُقل جدًا في الندوات ولا أحبها كثيرًا وقليل الظهور ولا أحب أن يتعامل معي الناس كمستشار أو كقاضي يكتب رواية. أنا أريد الناس تقرأ الرواية لروائي أو كاتب. هكذا يحكمون عليها، لكن مهنتي لا علاقة لها بالموضوع.
– ذكرتَ الخوف.. فهل تعتبر نفسك مغامرًا أم ذو جرأة محسوبة أم من المؤمنين بمقولة “من خاف سلم”؟
من خاف سلم هذا أكيد. أنا بشر وأخاف مثلي مثل غيري. عندي حدود. لكن عند الكتابة لا أحسبها. لا أفكر فيما كتبت وأين سينتهي بي. طالما قادر على النشر فلا أفكر في شيء آخر. أنا لا أنشر بصعوبة أو أجد صعوبات في النشر لهذا لا أفكر كثيرًا. أحاول أن أبتعد عن ما قد يقيدني أو يقيد الإبداع أو الخيال عندي كالتفكير في مهنتي أو وظيفتي وقيودها والتقاليد القضائية. أنا لا أفعل شيئًا يخالف هذا. فأنا لا أكتب أدب مبتذل أو كتابة سهلة بالعامية ولا أستخدم عناوين بغرض الفرقعة ولا أظهر في ندوات كثيرًا وهي كلها ندوات أدبية. فأنا بعيد تمامًا عن الاصطدام بقواعد عملي. أنا أحترم مهنتي وأقدرها وأتفهم أن لها تقاليد يجب الحفاظ عليها. هذا هو الإطار الذي أتحرك فيه. لكن عندما أجلس وحدي وأكتب، لن أفكر إلا في أشرف الذي يبدع هذه الفكرة ويطلق لخياله العنان وإلا لا ضرورة للكتابة.
– ما معاييرك الشخصية للكتابة عن موضوعات حساسة كانت سياسية أو دينية أو جنسية؟
أنا أميل للحريات ولست مع القول بأن هذا يصح ولا يصح في الكتابة. كان هناك كتاب شهير عنوانه “لماذا أنا ملحد” وصدر كتاب آخر ردًا عليه عنوانه “لماذا أنا مؤمن”. أرى أن العبقرية في الرد ومن نفس العنوان. بدلًا من حبس الرجل مؤلف الكتاب الأول والقول إننا دولة إسلامية ولا يصح أن تكتب ما كتبت، ترد عليه بمنتهى السهولة بكتاب آخر. ويذهب فريق من الناس هنا وفريق آخر هناك ولا توجد مشكلة.
أنا أكتب ما أحب أن أقرأه فأنا معيار نفسي. لا أحب الأمور الجنسية الفجّة، أو السياسية المباشرة بصوت صاخب. هذا أقرب لمقال أو ندوة يخطب فيها سياسي في حزب أو غيره. هذا موجود في بعض الروايات ولا أحبه. كذلك الصورة الكاشفة للمجتمع بكل عيوبه دون وجود أي بارقة أمل فتصبح سوداوية تمامًا لا أميل إليها.
الفن هو التقاط الجمال من وسط القبح. هكذا كانت رواية “رحلة العائلة الغير مقدسة” للكاتب عمرو العادلي. رواية بديعة يلتقط كاتبها اللآلئ من جمال وخير أمل وسط القُبح والقهر وبيئة أسوأ من العشوائية. هذه كتابة حلوة. يعني أنا أقترب من التابوهات الثلاثة بفن وأختبئ وراء الشخصية. كلما استطعت الاختباء وراء الشخصية أستطيع أن أفعل أي شيء.
– هل رُفضت لك رواية من قبل؟ وإذا حدث، هل يمكن أن تنشر خارج مصر؟
حتى الآن لم يحدث أن رُفضت لي رواية. أنا أنشر مع الدار المصرية اللبنانية بانتظام لمدة خمسة عشر عامًا منذ ديسمبر 2010. لكن لو اضطُررت ولم أستطع النشر في بلدي فسأنشر في الخارج وإن كنت لا أحب ذلك. سأفعلها مضطرًا لأني أريد النشر لكن لن أكون مرتاحًا. لأسباب كثيرة منها أسباب اقتصادية وسعر الكتاب الذي سيباع في مصر بضعف السعر لفرق الدولار فلن يصل للقارئ. أيضًا عدد النسخ.. في مصر يمكن طباعة آلاف النسخ لكن عند النشر في الخارج لن يدخل مصر إلا مائة نسخة مثلًا لاعتبارات الشحن والتكلفة. كل هذا على حساب القارئ. والقارئ هنا كما ترين.. يعني مكسب الناشر في مصر ليس كبيرًا والكاتب كذلك بالطبع وأنت كاتبة وتعلمين، ومع ذلك يتم تزوير الروايات من يوم صدورها. فهذا سيحدث أيضًا في حال نشرت خارج مصر. الرواية يكون سعر بيعها 800-1000 جنيه (17-21 دولار) ونجدها على الرصيف بمائة جنيه (دولاران) والناس معذورة ستشتريها.
– أنت قاضي جنائي وتوليتَ عددًا من قضايا النشر. ما أبرز القضايا التي توليتها وأين تنتهي حرية النشر في رأيك؟
حرية النشر تنتهي عند واقعة السبّ. عندما أقول هذا الشخص كذا وابن كذا فهذه ليست حرية ولا نقد ولا حق. هذه جريمة وهذا الشخص يجب أن يُعاقب لأنه شخص شتّام. هناك حدود لكل شيء. أنا عملت أكثر على قضايا النشر عندما كنت في النيابة عن القضاء. كان نصيبي 44 قضية عملتُ عليها وحفظتُ التحقيق في 43 قضية منهم لعدم وجود جريمة…
– وماذا عن القضية التي لم تُحفظ؟
كان رأيي أن تُحفظ أيضًا حتى لا نصنع من المتهم بطلًا، لكن لأن النيابة تبعية تدرجية رئاسية ارتأى النائب العام المستشار رجاء العربي -رحمه الله- وقتها في سنة 1995 تقديمه للمحاكمة على ألا أترافع بصورة فيها تحامل عليه وأُفوّض الأمر للمحكمة. كانت هذه وجهة نظره. وأنا كنت مُختلفًا معه. نزلت إلى المحكمة ولم أترافع وفوضت لها الأمر ألا نجعل من هذا المتهم بطلًا. وأصدرت المحكمة حكمًا ضده مع إيقاف التنفيذ.
المتهم كان تاجر بويات متزوج من هولندية لكن لا يستطيع الحصول على الجنسية. ربما يحتاج إلى قضاء مدة مثلًا هناك، ولمّا لم يجد سبيلًا قرر أن يكون كاتبًا. أصدر أربعة كتب بأسلوب ركيك سار فيها على خطى الأستاذ نجيب محفوظ وشخصية البطل المختل الذي يسير في الحارة وتخرج منه الحكمة. وقدم الكتب إلى اتحاد الكتاب ليحصل على العضوية. الروايات كانت سيئة وبدلًا من ثلاثية نجيب محفوظ أصبحت رباعية لهذا الشخص. ولأنه يريد أن يكتب شيئًا يحصل به على اللجوء السياسي كان الدين هو أسهل شيء حتى يدعي أنه مضطهد دينيًا. ادعى النبوة في رواياته وهاجم تحديدًا الدين الإسلامي وسيدنا النبي محمّد صلى الله عليه وسلم وسيدنا علي.
كنتُ أعلم أن غرضه الوحيد هو الحبس لاستدعاء سفارة هولندا. أخذ يرسل لهم تلغرافات منذ اليوم الأول حتى جاء القنصل الهولندي يومًا باعتبار أن زوجة الرجل هولندية. ولما عرف فحوى التحقيق لم يأتِ ثانية بعدما فهم أن هذا الشخص مدعي وأفاق. لهذا كانت وجهة نظري أنه لا يستحق ومع ذلك ذهبت القضية للمحكمة وحصلت على تغطية إعلامية لأنه كان أول كاتب في عهد مبارك يقدم إلى المحاكمة وكأنه نجيب محفوظ مثلًا. كنتُ مستاء جدًا لأننا عملنا قيمة لمن لا يستحق. وهذه هي المشكلة لأننا نصنع أبطالًا من ورق ثم نشكو منهم. ولما صدر حكم ضده مع وقف التنفيذ انتهى تمامًا. مات الموضوع. حتى الصحافة انصرفت عنه لأنه ليس لديه ما يقول.
– ماذا كان اسمه؟
صلاح محسن
-هل واجهتك مشكلات بسبب كتاباتك على أي مستوى أو ربما عثرات؟ أم أنك تتمتع بحرية أكبر نظرا لوضعك المهني فما قد يُسمح لك لا يُسمح لغيرك؟
الكتابة تسببت لي في مشاكل. تعرضت لهجوم من الجانبين بسبب رواية “بيت القبطية” لكنه كان أكبر من جانب السلفيين وهذا بسبب قراءة النص بنظارة دينية وليس نظارة أدبية. وكانت الأسئلة من نوع: هل أنت مسيحي الديانة؟ مثل هذه الأسئلة لا أرد عليها لأنها تسحبني إلى موضوع آخر غير موضوع الأدب وموضوع لن أتكلم فيه. كما أنه ليس موضوع الرواية التي تدور عن فكرة العدالة وليس عن الديانة. أما القول إن عملي يعطيني ميزة بقول ما لا يُسمح لغيري قوله فهذا غير صحيح على الإطلاق. هناك غيري يكتب أكثر مما أكتبه وهم لا يعملون بالقضاء منهم صحفيين…
– لكن قد يُصادر العمل أو يُضيّق عليهم بشكل أو بآخر..
يعني، لكن هناك ما يُنشر وموجود ولا يُصادر وفيه جرأة أكثر مني. ربما أنا أخاف وأقلق أكثر. على عكس ما يظن الناس أنا أرى أن عملي أضرني ولم يُفِدني. أنا أُهاجم بسبب عملي أكثر. لو مرّ عليّ شخص قبل 30 عامًا وأنا وكيل نيابة وحُبس في قضية سيظل حتى اليوم يردد “هذا الكاتب الذي حبسني”. وسيترك الناس الكتابة ويقولون أشرف حبس هذا الشخص دون أن ينظروا لسبب حبسه مثلًا والذي قد يكون عن حق لكنه لن يقول القصة كاملة وحينها سأحمل أنا الذنب. هناك خمسة أو ستة غيري على الساحة الأدبية يكتبون وينشرون بين وكلاء نيابة وقضاة ومستشارين لكن عندما يُذكر القضاء والكتابة لا يُذكر إلا أشرف العشماوي فكأني أصبحت هدفًا وهذا يسبب لي ضيقًا…
– أصبحتَ هدفًا أم لأنك الأكثر نجاحًا فوحدك تُذكر؟
حتى لو كان الأكثر نجاحًا فهذه ضريبته. أنا هدف للهجوم. أنا لا أرد على الهجوم أصلًا لكني أشعر بالضيق. يعني ماذا يُفترض بي أن أفعل عندما يهاجمني أحدهم على هذه الخلفية؟ هل أنزل إلى مستواه دون هجوم أو شتيمة لكن أنشر نص التحقيقات معه وأقول له أنت عملت كذا وكذا؟ قيود وظيفتي وتقاليد مهنتي تمنعني من هذا. لا يمكن أن أظل في خانة دفاع طول الوقت. البعض يعلم أني لن أستطيع الرد عليه وسعيد بوجودي في خانة الدفاع فيزيد من الهجوم.
– هناك تحفظات لبعض الكتاب على التقدم لجوائز عربية بالنظر للجهة المنظمة، فهل هناك جوائز أدبية لا تتقدم لها أم ترى في ذلك مزايدة وقبول كافة الجوائز أمرًا مشروعًا ولا يحتاج تبريرًا؟
أخشى أن أفتئت على حقوق كتّاب آخرين. هناك من يرى أن من حقه التقدم لكافة الجوائز بغض النظر عن الدولة أو الجهة أو الشخص. في العام الماضي مثلًا رأينا جائزة قائمة على شخص واحد في إحدى الدول العربية. هناك من يتقدم ويرغب في نيل هذه الجوائز وبالطبع القيمة المادية مغرية. ظروفه وتركيبته وثقافته تجعله يتقدم. ربما أنا لا أفعل هذا. وهناك جوائز أميل إلى التقديم فيها لأن لجان تحكيمها محترمة. تجدين أسماء تثقين فيها.
لستُ ممن يهيل التراب على الجوائز إذا لم أكسبها. أنا تقدمت إلى جائزة البوكر العربية ثلاثة مرات وصلت فيها مرة إلى القائمة الطويلة ومرتين لم أصل لشيء. هناك غيري مثلي تمامًا لكنهم أهانوا الجائزة والقائمين عليها وأهانوا من فاز بها لعدم وصولهم. وصولي لقائمة أو الفوز بجائزة شيء يسعدني لأني أشعر بالتقدير حينها المعنوي والمادي.
– لكن ماذا لو الاعتراض على أساس موقف سياسي؟
أحترم من يفعل هذا وقد فعلته لكني لا أريد أن أُصرّح باسم الجائزة ولا اسم البلد. هناك جوائز اتخذت فيها موقفًا بعدم التقدم. أظن الكاتب لا بد أن يكون له موقف ونحترمه لكن دون الهجوم على من يتقدم أو المزايدة عليه. أنا أفعل شيئًا مقتنعًا به وأُحاسب على مواقفي. لن يهاجمني أحد لفعلٍ ما فأقول له فلان أيضًا يفعلها. أنا أتحدث عن نفسي.
– ما الفكرة التي ترغب في كتابتها لكن الظروف الحالية لا تسمح بنشرها؟
كل ما فكرت فيه كتبته. عندي في درج المكتب أعمال لم تُنشر. عندي رواية وعندي نوفيلا وعندي نصف رواية وعندي قصتين. ربما العام القادم أنشر شيئًا منهم. هذه أعمال ستأخذ وقتها ودورها وتُنشر. وربما لو جاءتني فكرة جديدة أتركهم كلهم وأكتبها. فكرة الدُرج هذه فكرة طفولية إلى حد ما كأني أقول لربنا دعني قليلًا لأن عندي أعمال أريد أن أنشرها. أخاف ألا أخرج كل أفكاري أثناء حياتي. لهذا أضع أعمالًا في الدرج. وعندي مشاريع لم تكتمل ولن تكتمل آخذ منها مشاهد أو أفكار أو سرد لأعمال أخرى. أنا لا أرمي شيئًا. الرواية مثل الطبخة. أراهما متشابهين كثيرًا في الصنعة وفي الفن…
– لكن هل الظروف الحالية تمنع نشر بعض هذه الأعمال؟
ربما بعض هذه الأعمال يكون عندي تخوفات منه. شعرت أنها غير مناسبة. أحيانًا أيضًا يأتي إغراء الجوائز التي تقبل مسودات روايات في فئة الروايات غير المنشورة. ولو فاز العمل فسيكون نشره سهلًا كما أنه سيُترجم وربما يكون حظه أفضل وهذا يعطي بعض الأمل. ولو لم يحدث فالأعمال موجودة. مع تقدم السن ومع الوقت تقل الأفكار وشمعة الخيال لن تظل متقدة. ولو أن الكتابة بنت زمانها.
أحيانًا الزمن يسبق والأحداث أسرع وطريقة الكتابة والأسلوب يتغير ولا بد من المواكبة طول الوقت وتطوير النص بحيث يكون صالحًا للزمن الذي سيُنشر فيه إذا ظلت الفكرة صالحة. لكن لو الزمن تجاوز الفكرة انتهت. عندي رواية كتبتها منذ سنوات وأحببت أن أنشرها قبل سبع سنوات لكن كنتُ أكتب حينها “تذكرة وحيدة للقاهرة” وشعرتُ أني دخلت عوالم عجيبة مثل سر الختم والنوبة وخلافه…
– ما هذه الفكرة التي لم تعد تصلح للنشر اليوم؟
ثورة يناير قامت والرواية كانت أحداثها كلها تقود لقيام الثورة. نشرها اليوم ليس له معنى. أنا كتبتها في 2009 لكن لم أنشرها. لو نشرتها وقتها لأحدثت فرقًا، لكن أنا راضي بالمسيرة. في نفس الوقت هذه رواية لا تصلح للنشر اليوم. أقتطع منها الآن أجزاء تصلح للأعمال التي أكتبها وأبعد تمامًا عن توقع ثورة يناير أو حدث جلل أو انفجار كبير. هذه كتابة زمنها ولّى. لا أقف كثيرًا عند ما فات ولا أندم. الندم فكرة لا أحبها إطلاقًا.
