فجأة ودون مقدمات، وجدت شبكة الكهرباء العراقية نفسها أمام اختبار قاسٍ بعدما توقفت إمدادات الغاز الطبيعي القادمة من إيران بشكل كامل.
وأعلنت وزارة الكهرباء العراقية في 23 ديسمبر/كانون الأول 2025 أن ضخ الغاز الإيراني انقطع تمامًا نتيجة ظروف طارئة على الجانب الإيراني.
تسبّب هذا التوقف في تراجع كبير بإنتاج الكهرباء المحلي، ووضع البلاد أمام أزمة حادة في منتصف الشتاء، مما أعاد تسليط الضوء على مدى ارتهان العراق للطاقة المستوردة وما ينجم عن ذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية.
أسباب الانقطاع المفاجئ
لم تقدّم طهران تفسيرًا مفصّلًا لقرارها وقف تدفق الغاز، واكتفت بإبلاغ بغداد عبر رسالة رسمية بأن الانقطاع جاء نتيجة “ظروف طارئة وغير متوقعة”.
ورغم غموض التبرير الرسمي، أشارت وسائل إعلام إيرانية إلى أن موجة برد قاسية في إيران ربما كانت وراء الأزمة؛ بعد ارتفاع استهلاك الغاز محليًا بشكل حاد للتدفئة مع تدني الحرارة إلى ما دون عشر درجات تحت الصفر في بعض المناطق.
مثل هذه الطفرة في الطلب المحلي، إلى جانب مشكلات فنية أو أعطال في حقول الإنتاج، دفعت إيران سابقًا إلى تقليص إمداداتها للعراق عدة مرات في السنوات الماضية.
كما أن الخلافات حول سداد الديون المستحقة على العراق (12 مليار دولار) مقابل واردات الغاز والكهرباء كانت سببًا في بعض حالات القطع السابقة، حيث تواجه بغداد صعوبات في تحويل المدفوعات لطهران بسبب العقوبات الأمريكية.
حجم الاعتماد وتأثير الانقطاع
يُعَدُّ الغاز الإيراني شريانًا حيويًا للكهرباء في العراق منذ سنوات، كما توضّح الأرقام التالية:
- الإنتاج العراقي: من 20 إلى 25 ألف ميغاواط فقط من الكهرباء
- الحاجة الفعلية: 54 ألف ميغاواط لتلبية الطلب على مدار الساعة
- تغطية إيران: ثلث الاحتياجات (40 ٪ قدرة تشغيلية في وقت الذرورة)
- قطع الغاز الإيراني: أدى إلى خسارة 4,500 ميغاواط من قدرة توليد الكهرباء
كيف وصل العراق إلى هذا الوضع؟
هذا الاعتماد الكبير ليس وليد اللحظة؛ فقد جاء نتيجة عقود من تراجع الاستثمار في البنية التحتية العراقية.
فرغم امتلاك العراق احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي، فإن ضعف القدرة على استغلال الغاز المصاحب للنفط، أدى إلى هدر كميات ضخمة عبر حرقها في الجو (الغاز المهدور) بدلًا من استخدامها.
ومع ازدياد الطلب المحلي على الكهرباء عامًا بعد آخر، وجدت بغداد نفسها مضطرة لتعويض النقص عبر الاستيراد من إيران كمصدر جاهز وقريب.
إجراءات طارئة وبدائل مؤقتة
تفاقمت انقطاعات الكهرباء فور توقف الغاز؛ ما دفع الحكومة العراقية إلى اتخاذ حزمة إجراءات إسعافية لتجاوز النقص الحاد تمثلت في:
- اضطرار وزارة الكهرباء إلى تطبيق برنامج صارم لخفض الأحمال وتوزيع النقص عبر قطع التيار دوريًا عن مناطق مختلفة.
- تحويل محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالغاز إلى العمل بالوقود السائل المحلي.
- ضخت وزارة النفط كميات إضافية من الوقود البديل (النفط الخام أو زيت الوقود الثقيل والديزل) إلى المحطات المتضررة.
وبعد اتخاذ هذه الإجراءات، أكد المتحدث باسم وزارة الكهرباء أحمد موسى أن الإنتاج لا يزال تحت السيطرة بفضل الاعتماد على الوقود السائل المحلي، وأن المحطات مستمرة بالعمل وإن انخفضت قدرتها أو كفاءتها في بعض المواقع.
لماذا لا تعد هذه الحلول مثالية؟
- استخدام الوقود النفطي كبديل للطاقة الغازية ينطوي على تكاليف باهظة ماليًا وفنيًا.
- يعود ذلك إلى أن الوقود السائل أثقل على التوربينات وأقل كفاءة بإنتاج الكهرباء، ما يعني كلفة إنتاجية أعلى مقارنة بالغاز الطبيعي.
- يسبب حرق النفط في المحطات ضغوطًا على البنية التحتية من ناحية الصيانة والأعطال بسبب تراكم الرواسب وارتفاع حرارة التشغيل.
ورغم وفرة النفط في العراق، فإن توجيهه لتوليد الكهرباء يأتي على حساب عائداته أو استخداماته الأخرى، بمعنى آخر، يشتري العراق الوقت بهذا الحل المؤقت لكنه يدفع الثمن من ميزانيته ومن كفاءة شبكته.

خيارات تنويع المصادر
لم تكن أزمة ديسمبر/كانون الأول 2025 سوى جرس إنذار جديد دفع العراق لتسريع جهود تنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الاعتماد شبه الأحادي على إيران. فخلال الأعوام الأخيرة، بدأت بغداد توسيع شبكة علاقاتها الكهربائية إقليميًا على أمل خلق بدائل مستقبلية، ومنها:
الربط والاستيراد
أبرمت بغداد عام 2019 اتفاقات لربط منظومتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، بحيث يتم استيراد الكهرباء عبر الكويت إلى جنوب العراق.
وقال المتحدث باسم وزارة الكهرباء العراقية، أحمد موسى، إن نسبة إنجاز مشروع الربط الكهربائي الخليجي مع العراق بلغت أكثر من 95%، مبينا أن العمل مستمر لإكمال ما تبقى من المشروع بهدف دخوله حيز التنفيذ في النصف الأول من عام 2026.
ويتوقع أن يوفّر المشروع للعراق إمدادات تصل إلى 2 جيجاواط في أشهر الصيف الأكثر طلبًا (وحوالي 500 ميغاواط شتاءً).
كذلك، بدأ العراق في مارس/آذار 2024 استيراد الكهرباء من الأردن عبر الربط بين محطتي الريشة الأردنية والرطبة العراقية، بجهد 132 كيلو فولت.
كما يجري الحديث عن استيراد الكهرباء من تركيا لتغذية مناطق الشمال، إضافة إلى مشاريع أخرى بينها ربط بغداد في سبتمبر/أيلول 2025، البارجتين التوليديتين التركيتين (محطات عائمة لتوليد الكهرباء) -اللتين وصلتا مؤخرًا إلى موانئ جنوبي البلاد- بشبكات وخطوط نقل الطاقة.
ومن المتوقع أن تسهم هذه البوارج في زيادة قدرة الشبكة الوطنية، مع إمكانية الوصول إلى إنتاج 1500 ميغاواط جديدة من الكهرباء.
حتى تركمانستان طُرحت كخيار لاستقدام الطاقة منها مرورًا بإيران أو أذربيجان، ضمن مساعٍ لحيازة سلة متنوعة من المزودين.
ورغم أن هذه المشاريع لن تعوّض الحجم الكبير للواردات الإيرانية، لكنها خطوة باتجاه تقليل المخاطر عبر توزيع مصادر الكهرباء على أكثر من طرف.
مشاريع ذاتية طويلة الأمد
وفي مسار آخر لتنفيذ مشاريع لإنتاج الغاز ذاتيًا، وقع العراق عقودًا كبرى مع شركات عالمية مثل توتال إنرجي الفرنسية عام 2023 وبي بي (BP) البريطانية عام 2025، لالتقاط الغاز المصاحب المهدور في الحقول النفطية جنوبًا وشمالًا.
مثل هذه المشاريع الضخمة – والتي بلغت قيمتها 27 مليار دولار في حالة عقد توتال – تهدف إلى جمع مئات الملايين من الأقدام المكعبة من الغاز المحروق يوميًا وتحويلها إلى وقود لتشغيل محطات الكهرباء، بدلًا من الاستيراد.
كما تتضمن اتفاقات توتال وغيرها إنشاء محطات طاقة شمسية توفر مئات الميغاواطات من الكهرباء النظيفة للشبكة العراقية.
وإذا سارت هذه الخطط كما هو مرسوم لها، فستساعد خلال بضع سنوات في سد جزء معتبر من العجز الكهربائي وتقليل اعتماد العراق على الغاز الخارجي.
الكهرباء ورقة ضغط إقليمية
تتجاوز تبعات أزمة الغاز الأخيرة البعد الفني أو الاقتصادي لتكشف عن دور الكهرباء كورقة ضغط سياسية في المنطقة عبر تقليص أو قطع الإمدادات، مما يضع الحكومة العراقية في موقف حرج.
وقد استخدمت إيران هذه الورقة مرارًا للضغط من أجل تحصيل مستحقاتها المالية المتأخرة أو للتذكير بثقلها الإقليمي. وبسبب صعوبة تحويل الأموال بفعل العقوبات الأمريكية على إيران، اضطرت بغداد وطهران لابتكار آلية مقايضة تقوم على تصدير نفط عراقي إلى طهران مقابل الحصول على الغاز.
ورغم ذلك، لا تزال تلك الترتيبات تسير ببطء وتخضع لمتابعة أمريكية، ما يبقي بغداد عالقة بين قيود العقوبات وضغط الحاجة الملحّة للطاقة.
وفي ظل هذه التعقيدات، تحافظ إيران على أداة ضغط فعالة: فأي تأخير في الدفع أو أي توتر سياسي قد يُقابَل بخفض الإمدادات، الأمر الذي يشلّ الحياة اليومية في العراق ويضع حكومته تحت غضب الشارع.
وتدرك واشنطن أن تقليص اعتماد العراق على إيران يضعف نفوذ طهران في بغداد، لذا استخدمت سلاح العقوبات والاعفاءات كوسيلة لتوجيه بوصلة الطاقة العراقية.
فمنذ 2018، تمنح واشنطن استثناءات محدودة زمنيًا للعراق لاستيراد الطاقة من إيران بسبب العقوبات؛ لكنها تربط استمرارها بتحقيق تقدم في خطط تنويع المصادر وتطوير بدائل محلية كالطاقة الشمسية واستثمار الغاز المهدور.
وقد وصلت الرسالة ذروتها في مارس 2025 حين امتنعت الإدارة الأمريكية عن تجديد إعفاء استيراد الكهرباء من إيران (في إطار إعادة تفعيل حملة الضغط الأقصى على طهران)، مما أجبر بغداد على تسريع اتفاقات بديلة.
وتكشف أزمة انقطاع الغاز الإيراني عن تشابك عميق بين الطاقة والسياسة بالعراق. فقد أصبحت الكهرباء ورقة مساومة في يد قوى إقليمية ودولية؛ تستخدمها طهران للحفاظ على نفوذها وجني مكاسب مالية، وتسعى واشنطن عبرها لتقليص ذلك النفوذ ودفع بغداد نحو شركاء آخرين.
وبين هذا وذاك، يجد العراق نفسه مضطرًا إلى توازن صعب لضمان استمرار التيار الكهربائي في المنازل والمستشفيات. لكن الأزمة الحالية قد تكون حافزًا إضافيًا للمسؤولين العراقيين للإسراع في تحصين أمنهم الطاقوي عبر تنويع حقيقي للمصادر واستثمار موارد البلاد الداخلية المهملة.