في الوقت الذي احتفت فيه “إسرائيل” باتفاق الغاز التاريخي مع مصر، الذي بلغت قيمته 35 مليار دولار ووصفه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بالتاريخي، كان هناك لاعب آخر يراقب المشهد عن كثب، ليس كمشاهد بعيد، بل بصفته الرابح الأكبر من الصفقة.
هذا اللاعب هو عملاق الطاقة الأمريكي “شيفرون”، صاحب اليد الطولى في حقل ليفاثيان، المزود الرئيس للصفقة التي تضمن توريد 130 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي لمصر حتى عام 2040، وأحد المستأثرين بخارطة الطاقة داخل السوق الإسرائيلي.
الصفقة المصرية–الإسرائيلية، التي تمت برعاية ودعم وضغط أمريكي، سلطت الضوء مجددًا على “شيفرون” بوصفها أحد الفاعلين المؤثرين في سوق الطاقة العالمي، وهو ما أعاد الاهتمام بشبكة علاقاتها المتشعبة داخل الكيان الإسرائيلي، خاصة بعد اتهامات بتورطها في “حرب الإبادة” التي شنها الاحتلال على قطاع غزة خلال العامين الماضيين.
عملاق الطاقة العالمي
شيفرون هي شركة أمريكية متعددة الجنسيات وواحدة من أكبر عمالقة الطاقة في العالم، ويقع مقرها الرئيسي في سان رامون بولاية كاليفورنيا، تنشط في أكثر من 180 دولة، وتشمل أنشطتها جميع مراحل صناعة الطاقة، من التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، واستخراجه، إلى التكرير والتسويق والنقل، بالإضافة إلى تصنيع وبيع المواد الكيميائية وتوليد الطاقة.
تأسست عام 1879 باسم شركة “ساحة المحيط الهادئ” على يد تشارلز إن فيلتون ولويد تيفيس وجورج لوميس، عقب اكتشاف النفط في كاليفورنيا، كما شهدت مسيرتها سلسلة من الاندماجات الكبرى، فاندمجت مع شركة النفط القياسية عام 1900، ثم مع شركة الخليج للنفط عام 1984، وتيكساكو عام 2005، وأخيرًا مع نوبل إنرجي عام 2020.
وفي عام 1984، تم اعتماد اسم شيفرون رسميًا، بعد تقسيم شركة النفط القياسية وفقًا لقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار، لتصبح جزءًا من ما يُعرف تاريخيًا بـ الشركات السبع (إكسون، رويال داتش شل، بي بي، توتال، جلف أويل، إيتون، شيفرون) التي سيطرت على صناعة النفط العالمية في أوائل القرن العشرين.
بحلول مارس/آذار 2020، احتلت شيفرون المرتبة الخامسة في قائمة فورتيشن 500 بإيرادات سنوية بلغت 146.5 مليار دولار، وتقييم سوقي قدره 136 مليار دولار، كما حصلت على المركز 61 ضمن أكبر الشركات العامة عالميًا.
تنقسم أعمالها إلى قطاعين رئيسيين: الاستكشاف والإنتاج (بنحو 3.1 مليون برميل يوميًا في 2024)، والتكرير والتسويق للوقود والزيوت، مع أصول رئيسية في حقول نفطية وغازية حول العالم، أبرزها حقول ليفاثيان وتمار في “إسرائيل”، وتنجيز في كازاخستان، وجورجون في أستراليا، والحوض البرمي في الولايات المتحدة.
علاقة وثيقة بترامب
تربط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علاقة وثيقة بشركة شيفرون، رغم بعض الخلافات المؤقتة التي شهدتها مؤخرًا بسبب تراخيص العمل في فنزويلا، وتعكس عدة مؤشرات قوة هذه العلاقة وتأثيرها المتبادل:
دعم مالي واسع للتنصيب الانتخابي.. تُعد شيفرون من أبرز شركات الوقود الأحفوري التي ساهمت بملايين الدولارات في تمويل حفل تنصيب ترامب عام 2017، حيث قادت حملة تبرعات من شركات الطاقة بلغت نحو 2 مليون دولار، وكان نصيبها وحدها 525 ألف دولار، لتصبح من أكبر المتبرعين في قطاع النفط.
وشاركت الشركة في حملة تبرع شملت أكثر من 1,500 شركة وفرد بمبلغ إجمالي قدره 107 ملايين دولار للجنة تنصيب الرئيس، أي أكثر من ضعف ما جُمِع لتنصيب الرئيس السابق باراك أوباما في 2009 (53 مليون دولار).
دعم سياسي لا ينقطع.. أظهرت تقارير عدة مشاركة شيفرون وشركات النفط الأخرى في تمويل الانتخابات الرئاسية من 2016 إلى 2024، حيث يميل قطاع النفط والغاز، بما فيه شيفرون، إلى دعم الجمهوريين وكيانات داعمة لترامب، ما يعكس شبكة نفوذ مصالح مترابطة.
ففي دورة 2023–2024، تبرعت شيفرون بـ951,500 دولار للجمهوريين مقابل 90,500 دولار للديمقراطيين، مع دعم غير مباشر لحملة ترامب عبر قطاع النفط الذي بلغ 14.1 مليون دولار.
صفقات مباشرة من تحت الطاولة.. أبرمت إدارة ترامب صفقات مباشرة مع شيفرون، وفق ما كشفته صحيفة “الغارديان” في أكتوبر/تشرين الأول 2024، فقد طلب الرئيس خلال حفل عشاء في نادي مارالاجو بفلوريدا من أكثر من 20 مسؤولًا تنفيذيًا في شركات نفط كبرى، بينها شيفرون، جمع مليار دولار، ووعد، في حال انتخابه بولاية جديدة، بإلغاء القيود على الحفر، وإعادة السماح بتصدير الغاز، وإلغاء قواعد تلوث السيارات، وهو ما اعتبره الديمقراطيون “تعريف الفساد” وأدى إلى فتح تحقيق في الكونغرس.
مسألة فنزويلا.. في خطوة لاحقة، أوقف ترامب رخصة شيفرون في فنزويلا، معتبرًا إياها تنازلاً للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، حيث أعاد صياغتها لتقليل التحويلات النقدية، مع فرض حصار على ناقلات نفطية مؤثرة على عمليات الشركة، ثم عاد لاحقًا للتسوية معها لتخفيف تداعيات هذا القرار.
أكبر مُنتج للغاز في “إسرائيل”
تمتلك شركة شيفرون نحو 40% من حقل ليفياثان، وربع حقل تمار، إضافة إلى سيطرتها التشغيلية، ما يمنحها تحكمًا فعليًا في نحو 90% من احتياطيات الغاز في الكيان المحتل، وبذلك تصبح أكبر منتج للغاز في “إسرائيل”، حيث توفر حوالي 70% من احتياجات الكيان من الطاقة، بما في ذلك القواعد العسكرية والمستوطنات.
وتشغل الشركة بشكل كامل حقلي تمار، الذي يحتوي على نحو 10 تريليونات قدم مكعب من الغاز، وحق ليفياثان، كما تدفع سنويًا مئات الملايين من الدولارات كرسوم لـ”إسرائيل”، حيث بلغ إجمالي الرسوم 820 مليون دولار في عام 2023.
وفي فبراير/شباط 2024، أعلنت شيفرون وشركاؤها في حقل تمار عن استثمار 24 مليون دولار لتعزيز قدرة إنتاج الغاز الطبيعي من الحقل البحري، ويأتي هذا الاستثمار ضمن خطة من مرحلتين تهدف إلى رفع القدرة الإنتاجية لحقل تمار إلى نحو 1.6 مليار قدم مكعب يوميًا، لتلبية احتياجات إسرائيل من الطاقة وتصدير الغاز إلى مصر.
ممول الإبادة الجماعية في غزة
بحسب التقارير تمتلك شركة شيفرون نحو 90% من احتياطي الغاز في الحقول الإسرائيلية وتلبي حوالي 70% من احتياجات الكيان المحتل من الطاقة، بما يشمل المستوطنات والجيش والمؤسسات الأمنية والسياسية المختلفة.
وعلى هذا الأساس، صنفت حركة المقاطعة العالمية (BDS) شيفرون كممولة لـ”الإبادة الجماعية والأبارتهايد” لدعمها الاحتلال عبر الطاقة، إذ يعتمد الجيش الإسرائيلي والمستوطنات على الغاز الذي تستخرجه الشركة، في استهداف وقتل وتشريد ملايين الفلسطينيين.
وتتهم عشرات المنظمات الحقوقية شركة شيفرون بالمساهمة المباشرة في تمويل سياسات الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكات حقوق الفلسطينيين، لا سيما في المجتمعات الأصلية والمهمشة بالدول النامية، كما أن الشركة هي المستخرج الرئيسي للغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط، ما يدر على تل أبيب مئات الملايين من الدولارات سنويًا من رسوم تراخيص استخراج الغاز، وهو ما يعزز ميزانيتها العسكرية ويموّل نظام الفصل العنصري والاستيطان والاحتلال العسكري.
إضافة إلى ذلك، تدعم شيفرون جهود “إسرائيل” للضغط على أوروبا لبناء خط أنابيب (إيست ميد)، وهو مشروع ضخم للبنية التحتية للوقود الأحفوري برعاية الاتحاد الأوروبي، يُتوقع أن يزيد من تفاقم أزمة المناخ، كما تشير المنظمات الحقوقية إلى أن عملاق الطاقة الأمريكي متواطئ أيضًا في حرمان الفلسطينيين من سيادتهم على مواردهم الطبيعية، بما في ذلك الحصار البحري على غزة ونقل الغاز الفلسطيني الأصل إلى مصر عبر أنابيب تعبر المنطقة الاقتصادية الخاصة بفلسطين المحتلة بشكل غير قانوني، ما يكبد الفلسطينيين ملايين الدولارات كرسوم مرور فضلا عن الخسائر الناجمة عن سرقة الكيان المحتل لهذا المورد الاقتصادي المهم.
ورغم إعلان شيفرون التزامها بحقوق الإنسان والاستدامة، تؤكد المنظمات أن الشركة تساهم في انتهاكات جسيمة لحقوق الفلسطينيين وتغذي سياسات الفصل العنصري والإبادة، بينما تعزز في الوقت نفسه أزمة المناخ العالمية، داعية المجتمع الدولي إلى مساءلتها عن دورها في دعم الاحتلال الإسرائيلي وتفاقم الكوارث البيئية.
وفي يوليو/تموز 2025، أدرجت تقارير ومنظمات أممية شيفرون ضمن الشركات المتواطئة في الاحتلال والحرب على غزة، حيث أصدرت المقررة الأممية المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، تقريرًا يوضح دور الشركات، بما فيها شيفرون، في دعم الاحتلال والحرب على قطاع غزة، مؤكدًا أنها جزء من آليات تمكّن “إسرائيل” من تهجير الفلسطينيين وارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، داعية المجتمع الدولي إلى مساءلة هذه الكيانات عن أدوارها في انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي مارس/آذار الماضي دعت حركة المقاطعة العالمية وعدد من المنظمات الأممية إلى مقاطعة شيفرون عالميًا، بجميع أنشطتها في مختلف دول العالم، كجزء من حملة أوسع ضد الشركات الداعمة لـ”إسرائيل”.
يذكر أنه في سبتمبر/أيلول 2024 وخلال سباق ركوب الدراجات الشهير الذي ينظم كل صيف في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، والذي يشارك فيه آلاف الأشخاص، اتهمت إحدى منظمات هذه الفعالية وتدعى “مولي” شركة شيفرون -بجانب أنها تساهم في تفاقم أزمة المناخ وتلوث الهواء- بالمساهمة في الإبادة في فلسطين على حد وصفها، قائلة: “المجتمع ظل صامتًا بشأن قضايا مثل فلسطين، لكنها ليست مكانًا بعيدًا، كل شيء مرتبط بما تهتم به”.
من هنا يتضح أن شركة “شيفرون” تجاوزت وبشكل واضح دورها التقليدي كمؤسسة طاقة عالمية، لتصبح علنًا أداة بيد ترامب وإدارته وحزبه الجمهوري لتعزيز النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط ومنحه امتيازًا استثنائيًا على خريطة الطاقة العالمية.
وفي الوقت نفسه، تحولت إلى أحد المزودين الرئيسيين للكيان المحتل، داعمة له في حرب الإبادة ومخططات الاستيطان التي ينفذها ضد الفلسطينيين، وبذلك لم تعد “شيفرون” مجرد شريك اقتصادي، بل صارت متواطئة في واحدة من أقسى جرائم الإبادة في العصر الحديث.