بعد عامين من العدوان الإسرائيلي، يحتفل مسيحيّو قطاع غزة بعيد الميلاد في أجواء حزينة ولكن من دون أصوات القصف المستمر، وذلك في ظل هدنة هشة مضى على سريانها أكثر من شهرين.
على الجانب الآخر في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، عادت أضواء الميلاد لتبهج ساحة كنيسة المهد من جديد بعد عامين من الإطفاء القسري تضامنا مع غزة.
فكيف كانت أجواء الاحتفالات هذا العام، وما واقع المسيحيين الفلسطينيين اليوم وحال كنائسهم في ظل العدوان الإسرائيلي عليهم في غزة والاعتداءات والتضييق الممنهج بالضفة؟
عودة الفرح بحذر
في غزة، تزيّنت كنيسة العائلة المقدسة – الكاثوليكية الوحيدة في غزة – بشجرة عيد ميلاد بسيطة وإضاءات خافتة رغم ما تعرّضت له من أضرار.
هذه الكنيسة التي تحوّلت طوال الحرب إلى مأوى جماعي استضاف مئات النازحين باتت رمزًا لصمود المسيحيين؛ إذ لا يزال نحو 400 شخص يقيمون في مبانيها بعد أن دُمّرت منازلهم.
وقد أحيا بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا أول قدّاس له في غزة منذ وقف إطلاق النار داخل الكنيسة نفسها، واصفًا ذلك بأنه بداية مرحلة جديدة رغم بقاء الأوضاع المعيشية كارثية.
🎄Christians in the Gaza Strip marked Christmas with a subdued Mass at Gaza City’s Holy Family Church, after two years of Israeli military operations
⛪ The service, held far from the festive atmosphere of previous years, focused on prayers for peace and the safety of Gaza pic.twitter.com/kudmWmaER9
— Anadolu English (@anadoluagency) December 25, 2025
وفي بيت لحم، طافت فرق الكشافة شوارع المدينة إيذانا بانطلاق احتفالات عيد الميلاد، بعد عامين من العدوان الإسرائيلي على غزة الذي حرم مسقط رأس السيد المسيح – وفق المعتقد المسيحي – من أجواء الاحتفال.
وطغت على الأجواء أصوات الطبول ومزامير القِرَب التي تعزف ألحان تراتيل ميلادية شهيرة، بينما توجه المسيحيون نحو وسط المدينة، حيث ساحة المهد.
وبيت لحم مدينة تاريخية تقع جنوبي الضفة وتكتسب قدسيتها من وجود “كنيسة المهد” التي أقيمت فوق مغارة، يُعتقد أن السيدة مريم بنت عمران عليها السلام، وضعت طفلها عيسى عليه السلام فيها.

واقع المسيحيين والكنائس في غزة
خلال العدوان، تكبّد المجتمع المسيحي في غزة خسائر فادحة بالأرواح والممتلكات تنعكس فيما يلي:
تناقص الأعداد
- قبل الحرب، كان عدد المسيحيين في القطاع يقدّر بحوالي 1000 شخص، لكن لم يتبقَّ اليوم سوى نحو 500 إلى 600 مسيحي فقط.
- قُتل 23 مسيحيًا بشكل مباشر بالعدوان، فيما قضى آخرون بسبب نقص الدواء والغذاء، ليصل إجمالي الضحايا المسيحيين إلى 44 شخصًا.
- نصف سكان غزة المسيحيين تقريبًا غادروها خلال الحرب مستغلّين فترات فتح المعابر نحو مصر.
- اليوم يشكل المجتمع المسيحي 0.05% من مجموع سكان القطاع البالغين أكثر من مليوني نسمة.
قصف الكنائس
- يضم قطاع غزة 3 كنائس هي “القديس برفيريوس” و”العائلة المقدسة” (دير اللاتين) و”المعمداني”، وقد قصفها الاحتلال جميعها.
- قصف الاحتلال كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية –يعود بناؤها للقرن الخامس– ما أدى لانهيار جزء من مبانيها ومقتل 20 مدنيًا لجأوا إليها.
- تعرضت كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية لأضرار كبيرة، إذ أصابتها غارة جوية في 4 نوفمبر 2023 فدمّرت جزءًا من مدرسة تابعة لها، ثم سقطت قذيفة دبابة إسرائيلية على مجمّع الكنيسة في يوليو 2025 فقتلت ثلاثة أشخاص وأصابت آخرين.
- ارتبط اسم كنيسة المعمداني بمجزرة مروعة، إذ تعرضت ساحة المستشفى الذي يعد جزءا منها، لقصف إسرائيلي في 17 أكتوبر 2023 أسفر عن استشهاد نحو 500 فلسطيني من المرضى والنازحين فيها.
- إضافة إلى ذلك، استهدف جيش الاحتلال المركز الثقافي الأرثوذكسي في “حي الرمال الجنوبي”، غربي مدينة غزة.
نزوح ومنع من السفر
- رغم دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، لا يزال معظم مسيحيي غزة نازحين عن أحيائهم الأصلية، إذ تفيد التقديرات بأن 75% من منازلهم في غزة تضررت أو دمّرت خلال الحرب.
- في ظل تدمير بيوتهم واستمرار سيطرة الاحتلال على مناطق واسعة في القطاع، يضطر كثيرون للبقاء في مأوى الكنيسة أو لدى أقاربهم بانتظار إعادة الإعمار.
- حُرم مسيحيو غزة للعام الثالث على التوالي من تقليدهم السنوي بزيارة بيت لحم والقدس في فترة الأعياد، بعد أن اعتادوا قبل العدوان الحصول على تصاريح خاصة من سلطات الاحتلال للسفر لحضور قدّاس منتصف الليل في كنيسة المهد، أو زيارة كنيسة القيامة.

حال المسيحيين في الضفة الغربية
لا يختلف وضع المسيحيين فيها كثيرًا من حيث المعاناة، وإن اختلفت مسبّباتها وظروفها، حيث تزامن العدوان على غزة مع تصاعد غير مسبوق في هجمات المستوطنين وحملات التضييق الإسرائيلية عليهم بالضفة الغربية.
هجمات المستوطنين
استغل المستوطنون أجواء الحرب وبحماية رسمية إسرائيلية، لتنفيذ حملة ترهيب واستيلاء على الأراضي في أنحاء متفرقة ليصل عدد اعتداءات المستوطنين بالعموم على الفلسطينيين إلى أكثر من ألف اعتداء حتى أغسطس/آب 2025، وهو الأعلى على الإطلاق.
- لم تسلم البلدات ذات الأغلبية المسيحية من هذه الهجمة؛ فقد تعرضت بلدة الطيبة قرب رام الله – وهي آخر قرية فلسطينية كافة سكانها من المسيحيين – لعدة اعتداءات عنيفة من مستوطنين خلال السنة الماضية.
- في يوليو/تموز 2025، تسللت مجموعة مستوطنين إلى أطراف الطيبة وأضرمت النار في كنيسة القديس جاورجيوس الأثرية مما ألحق أضرارًا بها كما أحرقوا مركبات وحطموا ممتلكات للأهالي، في تكرار لهجمات ليلية دفعت العائلات إلى حراسة البلدة ذاتيًا خوفًا على أرواحهم ومقدساتهم.
- هاجم مستوطنون مسلّحون بلدات مسيحية أخرى أو أراضيها الزراعية، منها بيت ساحور شرقي بيت لحم حيث أقاموا بؤرة استيطانية على تلة تاريخية في نوفمبر الماضي، وكذلك اعتداءات متكررة على دير الأرمن ومقبرة الكنيسة في القدس المحتلة.

قيود الاحتلال
أدى انفجار الأوضاع بعد حرب غزة إلى تشديد غير مسبوق على حركة الفلسطينيين في الضفة شملت حواجز عسكرية جديدة، لم يسلم منها المسيحيون كذلك.
- حرية التنقل تراجعت بشكل كبير في بيت لحم، حيث باتت الطرق الفرعية تغلق بالمكعبات الاسمنتية والبوابات الحديدية لأشهر طويلة.
- بعض القرى في الضفة تحولت فعليًا إلى مناطق معزولة بالكامل خلف بوابات إلكترونية يسيطر عليها جيش الاحتلال، ما ضاعف من مشاق المسيحيين في التنقل وممارسة عباداتهم.
- الوصول من بلدات مثل بيت جالا وبيت ساحور إلى القدس لحضور الصلوات أصبح يتطلب تصاريح معقّدة إن توفرت، وقد يُمنع تمامًا في ظل الإغلاقات.
- بيت لحم ومحيطها باتت مختنقة بالحواجز والجدار الفاصل الذي عزلها عن القدس وخنق امتدادها العمراني.
- فقدت بيت لحم خلال عقود الاحتلال قرابة 80% من أراضيها الأصلية لصالح المستوطنات والجدار، حيث تقلصت مساحة المدينة من 37 كم² إلى حوالي 7 كم² فقط اليوم.
تدهور الوضع الاقتصادي
- عانت البلدات المسيحية في الضفة من انهيار شبه تام في قطاع السياحة والحج الديني خلال فترة الحرب، مما أثّر بقسوة على أرزاق المسلمين والمسيحيين على حد سواء.
- مدينة بيت لحم – التي يعتمد نحو 80% من سكانها على دخل السياحة والحج كمصدر رئيسي للرزق – أصيبت بالشلل مع غياب الحجاج الأجانب منذ أواخر 2023.
- أوضحت بلدية بيت لحم أن هذا القطاع الحيوي كان بمثابة شريان اقتصادي يغذي كل مناحي الحياة، وأن انقطاعه رفع البطالة في المدينة من 14% إلى 65% خلال عام واحد. كما ارتفعت معدلات الفقر بشكل حاد، واضطرت مئات المتاجر والفنادق للإغلاق.
- يصف أحد أصحاب المحلات في بيت لحم العامين الأخيرين بقوله لرويترز: “الوضع كان أشبه بالجحيم… الأحوال الاقتصادية ساءت والقيود الإسرائيلية اشتدت علينا في كل شيء”.

الهجرة الصامتة تتسارع
تمثل الطائفة المسيحية الفلسطينية إحدى أقدم جماعات المسيحيين في العالم، لكن عدد أفرادها تراجع بشكل حاد خلال العقود الماضية بسبب عوامل مركبة أبرزها الحروب والتهجير والظروف الاقتصادية.
- قبل النكبة عام 1948، شكّل المسيحيون نحو 12.5% من سكان فلسطين التاريخية.
- اليوم لا تزيد نسبتهم عن 1.2% فقط من مجموع الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، وحوالي 1% في الأراضي المحتلة عام 1967.
- يقدّر تعداد المسيحيين المقيمين حاليًا بالضفة بين 45 و50 ألفًا من أصل قرابة 3 ملايين نسمة بالضفة، أي ما نسبته نحو 1.5% منهم.
- تتواجد أغلبية مسيحيي الضفة في محافظتي بيت لحم (22–25 ألفا) ورام الله (10 آلاف) إضافة إلى نحو 8–10 آلاف في شرق القدس.
- في بيت لحم نفسها تراجعت النسبة السكانية للمسيحيين من 85% عام 1947 إلى نحو 10% اليوم.
- بسبب تدهور الأوضاع خلال العدوان على غزة، يقدّر المسؤولون المحليون أن نحو 4000 شخص غادروا بيت لحم بحثًا عن فرص عمل بالخارج.
- في غزة، انخفض العدد من نحو 3000 في أوائل القرن الحادي والعشرين إلى حوالي 1000 قبل حرب 2023 ثم إلى بضع مئات فقط الآن.

وخلال العدوان على غزة وتصاعد هجمات المستوطنين بالضفة، قال نائب رئيس بلدية الطيبة محذرًا: “نواجه هجومًا شرسًا… إن لم نحصل على دعم سياسي واقتصادي قريبًا فسننقرض”.
كما عبر القس الفلسطيني منذر إسحاق راعي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم وبيت ساحور، عن مخاوف من تعرض المسيحيين في غزة والضفة إلى الانقراض جراء جريمة الإبادة الإسرائيلية وسياسة التضييق والحصار.
ويرى قادة الكنائس في فلسطين أن هذه الهجرة المستمرة تهدّد الوجود المسيحي التاريخي في أرض الميلاد. وقد حذّر بطاركة ورجال دين مرارًا من أن فلسطين مهد المسيح قد تفقد مسيحييها خلال عقود قليلة إذا استمرت هذه الاتجاهات.
وفي المحصّلة، يؤكد مشهد الميلاد عام 2025 في فلسطين – بين غزة التي تُداوي جراحها وبيت لحم التي تستعيد نورها – على صلابة المسيحيين الفلسطينيين وإصرارهم على التشبث بأرضهم وإيمانهم، رغم حرب أطفأت الكثير من الأنوار في طريقهم.