ترجمة وتحرير: نون بوست
إذا لم يُحدِث الذكاء الاصطناعي أثرًا ملموسًا في حياتك عام 2025، سيكون عام 2026 موعده الحتمي. هذا أحد التنبؤات القليلة التي يمكن القطع بصحتها في زمن يتآكل فيه اليقين. وليس في ذلك دعوة إلى الانسياق خلف الضجيج المحيط بقدرات هذه التكنولوجيا، لا في حاضرها ولا في وعودها المستقبلية. فالضجيج لا يستجدي ثقتك أصلًا، إذ إن أموال وادي السيليكون قد نفخته إلى حدٍّ بات يشوّه الاقتصاد العالمي ويغذّي الصراعات الجيوسياسية، مُعيدًا تشكيل عالمك، سواء تحققت أكثر المزاعم خيالًا بشأن الذكاء الاصطناعي أم بقيت حبرًا على ورق.
قبل أكثر من ثلاث سنوات، أُطلق “تشات جي بي تي” ليغدو أسرع تطبيق استهلاكي نموًا في التاريخ. واليوم، يستخدمه نحو 800 مليون شخص أسبوعيًا، فيما تُقدَّر القيمة السوقية لشركته الأم “أوبن إيه آي” بنحو 500 مليار دولار. وقد نسج سام ألتمان، الرئيس التنفيذي للشركة، شبكةً معقّدة – يصفها منتقدوه بأنها غامضة إلى حدٍّ يثير الريبة – من الاتفاقيات مع أطراف أخرى في القطاع، بهدف تشييد البنية التحتية اللازمة لمستقبل أمريكي يقوم على الذكاء الاصطناعي.
تصل قيمة هذه الالتزامات إلى نحو 1.5 تريليون دولار. صحيح أنها ليست أموالًا سائلة، لكن يكفي أن تعلم أنك إذا أنفقت دولارا واحدا كل ثانية، تحتاج أكثر من 31 ألف عام لاستنزاف تريليون دولار.
تضخ شركات ألفابت (الشركة الأم لغوغل) وأمازون وآبل وميتا (فيسبوك سابقًا) ومايكروسوفت التي تمتلك حصة بقيمة 135 مليار دولار في “أوبن إيه آي”، مئات المليارات من الدولارات لكسب الرهان ذاته. ولولا هذا السيل من الاستثمارات، لكان الاقتصاد الأميركي أقرب إلى حالة من الجمود المزمن.
ويرى محللون اقتصاديون ومؤرخون لموجات الهوس الصناعي السابقة، من طفرة السكك الحديدية في القرن التاسع عشر إلى فقاعة الإنترنت وانفجارها مطلع الألفية، أن الذكاء الاصطناعي ليس إلا فقاعة أخرى. بل إن ألتمان نفسه أقرّ قائلًا: “هناك أجزاء كثيرة من الذكاء الاصطناعي تبدو مثل الفقاعة حاليًا”، مع افتراضٍ ضمني بطبيعة الحال، أن مشروعه مستثنى من ذلك. كما يصفها جيف بيزوس، مؤسس أمازون، بأنها فقاعة، لكن من “النوع الجيد” الذي يسرّع عجلة التقدم الاقتصادي.
وفق هذا المنطق، تقوم “الفقاعة الجيدة” بتمويل البنية التحتية وتوسيع آفاق المعرفة البشرية، وتبقى ثمارها حتى بعد انفجارها، بما يبرّر – في نظر أصحابها – الخسائر التي يتكبدها من يُسحقون في الطريق (الناس العاديون، لا أبناء النخبة مثل بيزوس).
الاندفاع المفرط من نخبة التكنولوجيا ليس سوى مزيج قوي من أساليب الترويج التقليدية، وجنون العظمة لدى الأوليغارشية، والأحلام الطوباوية.
وفي قلب هذا المزيج خطابٌ تسويقي واحد: نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية تتفوّق بالفعل على البشر في عدد متزايد من المهام. ومن المفترض أن تبلغ الآلات قريبا مرحلة “الذكاء العام”، أي مرونة معرفية تماثل قدرات الإنسان، ما يمهّد للتحرر من الحاجة إلى أي تدخل بشري.
وعندها، سيكون الذكاء الاصطناعي العام قادرًا على تعليم نفسه، وتصميم نُسَخه اللاحقة، والتقدّم عبر متواليات مذهلة من التطور نحو مستويات عليا من الذكاء الفائق.
الشركة التي تعبر هذه العتبة لن تواجه أدنى صعوبة في تسديد ديونها. أما الرجال الذين يحققون هذه الرؤية – وجميع المبشرين البارزين في هذا المجال من الرجال – سيصبحون في مجال الذكاء الاصطناعي فائق المعرفة مثل الأنبياء في صلتهم بالخالق. إنها مكافأة مجزية لهم، فيما يظل مصير بقية البشر في هذا النظام “ما بعد العاقل” غامضًا ومقلقًا.
ليس الذكاء الاصطناعي حكرًا على الولايات المتحدة وحدها. اندفاع وادي السيليكون نحو أقصى درجات “العظمة” يحمل في طياته تداعيات جيوسياسية عميقة. سلكت الصين مسارًا مغايرًا، تمليه تقاليد الحزب الشيوعي في التخطيط الصناعي المركزي، فضلًا عن حقيقة أنها الطرف الثاني في سباق الابتكار.
تدفع بكين باتجاه تطبيق سريع وواسع النطاق لذكاء اصطناعي أقل تطورًا من حيث المواصفات، لكنه لا يقل قوة، في مختلف مفاصل الاقتصاد والمجتمع. تراهن الصين على مكاسب تراكمية يحققها الذكاء الاصطناعي “العادي”، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى قفزة استثنائية عبر الذكاء الاصطناعي العام.
وبما أن الجائزة في هذا السباق هي السيادة العالمية، فلا يكاد أيٌّ من الطرفين يرى مصلحة في التوقف عند حدود المخاطر، أو في الالتزام ببروتوكولات دولية تقيّد استخدامات الذكاء الاصطناعي وتفرض الشفافية في مسارات تطويره. فلا الولايات المتحدة ولا الصين مستعدتان لإخضاع صناعة استراتيجية مصيرية لمعايير تُصاغ بالشراكة مع أطراف أجنبية.
وفي ظل هذا الفراغ على مستوى الحوكمة العالمية، يُترك لنا أن نعوّل على نزاهة أباطرة المال الجدد وبيروقراطيي الأنظمة السلطوية لوضع ضوابط أخلاقية لأنظمة يتم دمجها بلا توقف في الأدوات التي تشكّل اليوم بنية العمل والترفيه والتعليم.
في وقت سابق من هذا العام، أعلن إيلون ماسك أن شركته تطوّر “بيبي غروك”، وهو روبوت محادثة موجّه للأطفال بدءًا من سن الثالثة. أما النسخة المخصّصة للبالغين فقد عبّرت عن أفكار تعكس تفوق العرق الأبيض، وعرّفت نفسها بلا مواربة على أنها “ميكا هتلر“. ولعل في هذه الصراحة الفجة قدرا من الوضوح، إذ يسهل رصدها مقارنةً بالتحيزات الأكثر مراوغة التي تتسرّب إلى روبوتات أخرى لم تُمنح ذلك التوجيه الأيديولوجي الصارم الذي يفرضه ماسك على خوارزمياته.
ليست كل أنظمة الذكاء الاصطناعي نماذج لغوية كبيرة مثل “غروك”، لكن جميع هذه النماذج عرضة للهلوسات والأوهام المستمدة من المواد التي دُرّبت عليها. فهي لا “تفهم” السؤال ولا “تفكّر” فيه كما يفعل عقل واعٍ، بل تستقبل المُدخلات، وتختبر احتمالية تكرار مصطلحاتها الأساسية في بيانات التدريب، ثم تُركّب إجابة تبدو معقولة سطحيا.
غالبًا ما تكون الإجابة دقيقة ومقنعة، لكنها قد تتحوّل بسهولة إلى هراء محض. ومع تزايد حجم المحتوى المولَّد بالذكاء الاصطناعي على الإنترنت، ترتفع نسبة الرديء مقابل الجيد في “غداء” هذه النماذج، وكلما تغّذت على النفايات، يقل احتمال أن تمنحنا معلومات مفيدة.
وعلى هذا المسار، تلوح في الأفق نهاية قاتمة: واقعٌ زائف مُصطنع، تتوسطه نسل ميكانيكي متملق صُنع على مقاس نرجسية قلة من أثريا وادي السيليكون. غير أن هذا المسار ليس هو الوحيد المتاح، ولا هو بالضرورة المآل الأرجح. النشوة اللاعقلانية لمبشّري الذكاء الاصطناعي، والاقتران النفعي بإدارة ترامب، ليس سوى فصل مألوف من تاريخ الجشع الإنساني وقصر النظر، لا عتبة جديدة في مسار التطور البشري.
المنتج مدهش في قدراته بلا شك، لكنه معيب في جوهره، ويحمل بصمات التشوّه الأخلاقي لمُنشئيه، الذين تتجسّد مهاراتهم الأساسية في التسويق والهندسة المالية أكثر مما تتجسّد في فهم المعرفة أو خدمتها. لقد شيّدوا محركات استعراضية تُجيد محاكاة الذكاء، وتُتقن أداءه بشكل باهر، لكنها تركز على مظهر الذكاء وليس على جوهره.
الفقاعة الحقيقية ليست في أسعار الأسهم، بل في تضخم الأنا داخل صناعة تتوهّم أن بينها وبين الألوهية الحاسوبية مجرد مركز بيانات إضافي. وحين يأتي التصحيح، وحين يرتطم اقتصاد “إيكاروس” الأمريكي ببرودة البحر، ستُفتح نافذة لسماع أصوات أخرى تتحدث عن المخاطر والتنظيم والحدود.
قد لا يكون ذلك في عام 2026، غير أن اللحظة تقترب، حين يغدو وضوح الخيار المطروح واستحالة الهروب من مواجهته أمرًا لا مفرّ منه: هل نبني عالمًا يُسخَّر فيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسان، أم نترك الإنسان في خدمة الذكاء الاصطناعي؟ لن نحتاج إلى “تشات جي بي تي” ليُملي علينا الإجابة.
المصدر: الغارديان