أيها السادة، سأروي لكم قصة إنسان كما سلخته الطبيعة وجبلته الحياة، وهذا هو المؤسف في الأمر، فاعتذاري ومودتي. جان جاك روسو – الاعترافات
أحقًا أننا أمة قد جُبلت على تطويب موتاها حدَّ التقديس الذي لا رحمة فيه، حتى بات بعثهم من النسيان، ولو في عمل فني، يُصنَّف من قبل الغيورين بتطرّف على حفظ التراث الاجتماعي على أنه إخلال بالتوازن الحساس؟.
ثم أحقًا أننا طُبعنا، منذ عهود غارقة في القِدم، على أن من يمسكون بمسمار عجلة انطلاق التاريخ، حتى وإن أخطأوا في توجيهه، هم الذين يحق لهم دومًا وأبدًا أن يقودوا المسير والمصير، إيمانًا بالمقولة الشائعة: “المخطئون هم الأحق بتصحيح ما كتبوا؟”
إذ صدقت هذه المقولة، والتي تناولتها أيدٍ كثيرة وردّدتها ألسنة عديدة، حتى بات من الصعب تصديق أكثر الصادقين صدقًا، في ما يتعلّق بمن بادر أولًا وجعلها تنمو في ظلّ النسيان حتى غدت جزءًا من عرفنا الاجتماعي وتكويننا الثقافي؛ فإن المثال الأكثر جدارة بالذكر، وبالتالي الأكثر جدارة بالاحترام، سيكون فيلم “الست”، والذي عُرض بتاريخ 6 ديسمبر من العام المنصرم.
فمنذ تحرّك هذا العمل، والذي يُصنَّف ضمن فنّ السير الذاتية (Autobiographia)، من فضاءات التصوير والإنتاج في سعيه إلى أن يحظى بمجد الكلمة المسموعة، حتى نشب صراع بين طرفين، كلٌّ منهما يريد البرهنة على براءة أحكامه دون سندات تاريخية أو دلالات معرفية.
فبينما يرى “المعياريون” أن التاريخ، بكونه تاريخًا، لا يخضع لمسلمات الواقع المعاش، وبالتالي فإن تجسيده يُعدّ انحطاطًا لا يُغتفر من وزنه ووزن الشخوص الذين عاشوه، إذ إن بقر بطون الأزمنة هو تدنيس لقداستها؛ يذهب “التطريزيون” إلى أنه لا مانع أخلاقي، ولا فارق زمني، ولا عائق ثقافي يحول دون إعادة التاريخ مرئيًا ومسموعًا، وتجسيد رموز من عاشوه عن طريق التقمّص، طالما أنه لا يخلّ بميزان التوتّر الحساس بين الحقيقة والتخييل.
لا يستهدف هذا المقال تفكيك ما هو مركّب، أو تركيب ما تفكّك إزاء نوع ما من السينما أو الدراما، بقدر ما يستهدف سبر أغوارها في سعي بابلي لفهم هذا النوع من السينما، ولمعرفة من على صواب بين طرفي النزاع، وإن كان كلاهما على خطأ.
الإمساك بالمفهوم
قبل سبعٍ وثمانين عامًا من كتابة ذلك المقال، سيقرّر التوتوني ذو الدماء الإيرلندية والمزاج الأمريكي، جون فورد، وبطيش سنوات عمره الخمس والأربعين، إصدار فيلم “Young Mr. Lincoln”، والذي يعرض فيه حياة بطل أمريكا الذي لا يُنسى ومحرّر عبيدها، أبراهام لينكولن.
بعد خمسة أشهر من ذلك، سيحاول فورد — وهو المخرج حتى النهاية — إقناع مشاهدي دور العرض في ساحة التايمز، والذين مطّوا أعناقهم في مقاعدهم وتمزّقت جلود أيديهم من التصفيق، بأن العمل، والذي لا يشبه أبدًا “The Birth of a Nation” لديفيد غريفيث، لم يكن سوى ومضة إلهام عابرة جاءته بينما كان في أريزونا، يُشعل سجائر “كاوبوي” ذات تبغ رخيص، متحرّرًا من سحابة حرب عالمية كانت تلوح في الأفق، لتبدأ منذ ذلك الحين سلسلة طويلة — ولن تنتهي — ممن بات سيُعرف لاحقًا، ودون انتقاص عفوي بالمعنى، بـ”Biographical Cinema”، كما أراد وصفها ذات مرة جورج ستاينر، ناقد وفيلسوف أمريكا الجديرة بالاحترام، في ندوة بالهواء الطلق.
لتضرب بأناملها أبواب السينما الأوروبية، إلى الوقت الذي انتقلت فيه، دون وسطاء أو شهود، وربما بشيء من عدم الحكمة، إلى السينما الشرقية، وتحديدًا المصرية، والتي رأت فيها منفذًا ثقافيًا لتدوين التاريخ غير المكتوب، في وقت كان يُتَّهم فيه المؤرخون — وهم حرّاس البوابة الخلفية لتاريخنا المشرّف — بالتحيّز غير العقلاني مرة، والتقاعس غير المفهوم تارة أخرى.
فأفردت سردًا خاصًا لمثل هذا النوع من السينما، راحت تتغيّر مضامينه وأهدافه ورسائله بتغيّر الحِقب والأزمنة والتاريخ والجغرافيا، وربما الأمكنة والشخوص.
كوكب الشرق
يمكننا اعتبار أن أول عمل سيرة ذاتية مصري يروي، بتشخيصٍ معملي، إحدى قصص السعي الإنساني من الصعود إلى الأفول، هو الرائعة الخالدة “تحت الشمس” لإنعام محمد علي، والتي تناولت فيه، وبسردٍ جريء، قصة حياة كوكب الشرق أم كلثوم، منذ صعودها المدوي حتى سقوطها المشرّف، ومن ولادتها المبتسرة حتى موتها بأحد أمراض الحياة الخبيثة.
فالحياة الهائلة لامرأة نراها نحن، حتى الآن، إحدى موتانا العِظام، ضُغِطت في ثلاثين حلقة لم تُروَ على عجل، حيث رسمت صانعة العمل حكاية سردية تأملية ذات مضمون روائي، وهذا هو — ربما — ما أكسب العمل قداسته الفنية وقيمته الرمزية، ومنحه مكانًا تحت شمسنا وفوق ترابنا، أي “المصريين”، باعتباره أحد ركائز السيرة الذاتية في مصر، بل وفي العالم العربي.
فالحكاية المرئية، والتي تناولت في طيّاتها حياة كوكب الشرق “أم كلثوم”، قوبلت باحتفاء جماهيري، باعتبارها أيقونة درامية صُنعت بإتقان ملحوظ، وربما بجهدٍ حميري من صنّاع العمل، إذ لم يستغرق تصويرها سوى أربعة أشهر، وبرغم ذلك تمكّنت من تفصيص الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل والدينية، في مصر منذ حقبة الملكية الليبرالية، حتى صعود وأفول الاشتراكية الناصرية والقومية العربية، من خلال شخصية محورية، ألا وهي أم كلثوم، التي عانت تحت شمس كل تلك الظروف، ونمت تحت قمرها، متوغلة في ميدان ما يستحق الثناء والرثاء معًا.
إمام الدعاة: كثير من الدين لنجاح سريع
ربما كان النجاح السريع والمدوّي لعملٍ كـ”أم كلثوم” هو ما شجّع صنّاع أعمال آخرين، أكثر حميّة من إنعام محمد علي، على التوغّل في صحراء النسيان، التي لا اسم لها، برغم تسميتها “التاريخ”، بإنتاج أعمال مشابهة تتناول شخصيات اجتماعية أخرى على وزن وكثافة كوكب الشرق، ولكن بجهدٍ حثيث لتجنّب شقائق نعمان المشكلات الاجتماعية، ووحول السياسة الواقعية، ومستقنعات الأزمات الاقتصادية، آملين في اجتياز قناة سويسهم المالحة للوصول إلى بحيرة طبريتهم، ومن ثمّ إلى نجاح سريع ونقد بطيء، يليق بحكاية ذاتية تميل إلى أقصوصة مضغوطة، منها إلى رويٍّ حيادي لأزمات الأزمنة.
بين المعيار والتطريز
إن “التطريزيين” و”المعياريين”، الذين قاتلوا — وبخجل ومن نقطة عمياء — في مواجهة “أم كلثوم” و”إمام الدعاة”، هم ذواتهم الذين سيشحذون سكاكينهم للقتال، وبتطرّف، دفاعًا عمّا أسموه الإساءة إلى التاريخ والحطّ من قدر الرموز، وسيجدون ضالتهم في عمل درامي صدر عام 2006 يروي حياة سعاد حسني، وحمل اسم “السندريلا”، ومن بطولة منى زكي، وهي ذات الممثلة التي ستتقمّص بعد سنوات دور أم كلثوم في فيلم “الست” المصوَّر حديثًا.
إذ تمّ اتهامه — أي “السندريلا” — بأنه من النوعية التي يهدف القائمون عليها إلى نجاح سريع ودون قناعة فنية متكاملة، أو دون الإلمام حتى بالحيثيات النفسية والجينية والمضامين الاجتماعية والشخصية التي تزخر بها حياة ما يدور عليه القص، مما سيتسبّب — وهم من يقولون ذلك — في نصّ متلف، ورؤى مجزوءة، وسرد متآكل، وحبكة شُويت على نار هادئة في رماد استوديوهات التصوير، وأن غاية مرام المتقمّص والمخرج نجاح سريع للعمل وشهرة دون عناء، حتى لو أدّى ذلك إلى عدم التناسق النظري والتطبيقي بين البطل مُجسِّد الدور الذاتي، والأحداث والأزمات التي كان يعجّ بها عصره وحقبته المعاشة.
وللأمانة التحليلية، نعم، يمكن الاعتراف بأن “السندريلا” مثال حيّ على الفشل الإبداعي والمبالغة في اجتزاء النص، وتحوير وقائع الأزمنة مداهنةً لرموز سياسية أو اجتماعية كانت تتمتّع بالنفوذ في تلك الأيام، كصفوت الشريف، ضابط الاستخبارات السابق، والذي سيُعيَّن لاحقًا رئيسًا لمجلس النواب قبل أن تُطيح به رياح يناير.
كما أن العمل أيضًا تغافل — وبتعمّد مسبق — الإشارة إلى ظروف موت سعاد حسني، التي يلفّها الغموض حتى الآن، برغم أن بعض الأصابع تشير إلى عملية معقّدة وغير نظيفة وراء حتفها.
إلا أن الأعمال التي سبقته، كـ”أم كلثوم” و”إمام الدعاة”، وما تلته، كـ”أبو ضحكة جنان“، الذي يروي سيرة حياة إسماعيل ياسين، و”الضاحك الباكي“، الذي يحكي مسيرة نجيب الريحاني، تعمّدت هي الأخرى المغافلة التاريخية لبعض الأحداث التي عجّت بها حياة هؤلاء، كعلاقة أم كلثوم بمجلس قيادة الثورة المصرية، وعلاقة الشيخ الشعراوي ببعض رجال الأعمال والرأسماليين الوطنيين، وظروف إفلاس إسماعيل ياسين الغامضة، برغم أن المتعارف عليه تاريخيًا أن ثروته قد أُمِّمت بقرار سياسي.
منى زكي والخاصرة اللينة
بالعودة إلى فيلم “الست”، والذي أثار جدلًا لا هوادة فيه بين حماة البوابة الخلفية لتراثنا الوطني، فإن الفيلم — لا قليلًا ولا كثيرًا — يسير على النمط الذي اعتاده حقل السير الذاتية في مصر، وهو التركيز بكثافة على بطل الحكاية المروية، والمغافلة التاريخية لبعض القضايا ذات الوزن الحساس، السياسية أو الجنسية، للبطل، تجنبًا لمسائلات قانونية أو مضايقات سياسية من دوائر النفوذ والقرار.
حيث يمكننا، ومن هنا، أن نطرح سؤالًا ذا بُعد أخلاقي: هل النقد موجَّه إلى النص المجتزأ بالفيلم، أم إلى بطلته، أي منى زكي، والتي تعرّضت قبل ذلك لنقد لا رحمة فيه على تشويهها صورة سعاد حسني في “السندريلا”، بحجة أنها لا تناسب نفسيًا ولا بيولوجيًا بطلة الحكاية الأصلية؟ وها هي الآن تعود بعمل جديد واتهام جديد، كونها تحطّ من شأن “الست” بتجسيدها لها، كما يقول المعياريون، ويرد التطريزيون بإيماءة رأس تنمّ عن موافقة، وربما تلك هي المرة الأولى التي يتفقان فيها على قضية واحدة.