تعد الهوية الفلسطينية واحدة من أكثر الهويات تعقيدا وديناميكية في العصر الحديث، نظرا لما تعرضت له من محاولات منهجية للمحو والتذويب، فضلا عن التشظي الجغرافي والسياسي الذي طال أركانها منذ عقود طويلة. وفي ظل هذا السياق، يأتي كتاب “تمثلات الهوية الفلسطينية في الفضاء الافتراضي: دراسة لشبكات التواصل الاجتماعي” للباحث والأكاديمي الفلسطيني سعيد محمد أبو معلا، الصادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليفكك ويحلل كيف أعاد الفلسطينيون صياغة هويتهم في “الوطن الرقمي” البديل.
يقع الكتاب في 367 صفحة، ويستكشف عبر خمسة فصول التقاطعات العميقة بين التكنولوجيا والمقاومة والثقافة، مقدما رؤية سوسيولوجية معاصرة لكيفية تحول منصات التواصل الاجتماعي من مجرد أدوات تقنية إلى فضاءات عمومية تُمارس فيها السيادة الوطنية والتمثيل الجماعي. كما ينطلق الكتاب من فرضية مركزية ترى أن انسداد الأفق السياسي، وفشل مشروع الدولة على الأرض، والشتات الجغرافي القسري، دفعت الفلسطينيين إلى استثمار الفضاء الافتراضي كـ “مختبر” لترميم الهوية الوطنية واستعادة الحكاية الجمعية.
وأيضا، لا يكتفي الكتاب برصد المحتوى الرقمي فقط، بل يغوص في الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تشكل الوعي الفلسطيني الجديد، حيث يبرز الفضاء السيبراني كساحة للتفاعل العابر للحدود والحواجز، مما يكسر نظريات “اللامركزية” و“ذوبان الحدود” التي تروج لها أدبيات العولمة، ويؤكد بدلًا من ذلك على تعزيز الروابط الوطنية التقليدية بوسائل حديثة، فيما يوضح أبو معلا أن البيئة الرقمية أتاحت فرصة فريدة لتجاوز التشظي، حيث غدت المنصات مجالًا لإعادة صوغ الرواية وترميم ما انقطع عبر الزمن والمسافة، مما خلق شبه دولة “افتراضية” تمارس فيها طقوس الانتماء والسيادة الثقافية بعيدا عن احتكار المؤسسات التقليدية.
الفضاء الرقمي كفضاء عمومي بديل: تجاوز الجغرافيا السياسية
يعيش الشعب الفلسطيني حالة من التفتت الجغرافي غير المسبوق؛ ما بين الضفة الغربية، قطاع غزة، القدس، الأراضي المحتلة عام 1948، ومخيمات الشتات، المنفى والمهجر. هذا التوزيع القسري خلق تحديات هائلة أمام بناء هوية وطنية موحدة، وهنا يقترح سعيد أبو معلا أن الفضاء الافتراضي، ولا سيما منصة “فيسبوك”، و“انستغرام”، من بعد الإبادة، قد تحول إلى “المجال العام” الذي يفتقده الفلسطينيون في واقعهم المادي. إن مفهوم “الوطن العائم” أو “الوطن الرقمي” يشير إلى قدرة الفلسطينيين على إعادة تخيل جغرافيا فلسطين التاريخية في الفضاء السيبراني، بعيدا عن تقسيمات الاحتلال والحواجز العسكرية. هذا الفضاء يتيح للفلسطيني المحاصر في غزة أن يشتبك لحظيا مع الفلسطيني في حيفا أو في الشتات، مما يخلق وعيا جمعيا يتجاوز الشرذمة التي فرضتها الاتفاقيات السياسية والانقسامات الداخلية.
عند مقارنة الفضاء الجغرافي المادي بالفضاء الافتراضي في التجربة الفلسطينية، نجد تباينا حادا؛ فالواقع المادي خاضع بالكامل لسيادة الاحتلال وحواجزه التي تجعل التواصل مقطعًا ومحاصرًا، بينما يوفر الفضاء الافتراضي نوعا من السيادة التمثيلية التي يمارسها المستخدمون أنفسهم عبر التواصل اللحظي العابر للحدود. وفي حين تعاني الهوية الوطنية في الواقع الجغرافي من الجهوية والتشظي السياسي، نجدها تتوحد في الفضاء الرقمي، ولو بشكل غير كامل، حول الرموز الجامعة كالقدس وقضايا الأسرى ومقاومة الإبادة الإحلالية لإسرائيل. كما أن الذاكرة المهددة بالمحو المادي عبر هدم البيوت والاستيطان، تجد لها مستقرا في أرشيفات سحابية وتفاعلات يومية تحافظ على استمراريتها. من هنا، وكما يصف الباحث، انتقل ثِقل التمثيل من المؤسسات الفصائلية المؤدلجة إلى “الفرد الرقمي” والمجموعات الافتراضية، ما جعل التمثلات الرقمية أكثر غنى ومرونة وقدرة على استيعاب التناقضات البيئية التي يعيشها الفلسطينيون.
أيضا، يحاول أبو معلا الاشتباك حيال أن تعثر المشروع الوطني أدى إلى ما يمكن وصفه بـ “اليُتم السياسي”، ما جعل الفضاء الافتراضي الملجأ الأخير للحفاظ على الروح الوطنية. هذا المجال العام الرقمي يتميز بكونه مساحة آمنة نسبيا لمناقشة القضايا المصيرية التي قد تغيب عن الإعلام الرسمي، كما حدث في “هبة أيار/القدس” 2021 التي برز فيها الفضاء الرقمي كقائد ميداني وحشد وطني وحد الفلسطينيين تحت شعار واحد. هذه الحالة تؤكد أن “الوطنية الرقمية” تطور عميق، وأيضا مفروض، في بنية الوعي السياسي، حيث تحول الجمهور الفلسطيني من مجرد مستهلك للمحتوى إلى جمهور صانع للهوية. ومن خلال دراسة نماذج لصفحات إخبارية كبرى مثل “رام الله إخباري”، يوضح الكتاب كيف تقوم هذه المنصات بوظيفة “الإرشاد الوطني” وتثبيت الرواية في مواجهة البروباغندا الإسرائيلية، ما يساعد في خلق حالة من الاستمرارية الوطنية تمنع ذوبان الهوية رغم طول أمد الصراع.

بناء الهوية والذاكرة: ثلاثية الأرض والشعب والحكاية
يركز سعيد أبو معلا في تحليله على أن الهوية الفلسطينية في الفضاء الافتراضي تقوم على ثلاث ركائز أساسية: الأرض، الشعب، والحكاية. هذه العناصر ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل هي ممارسات يومية رقمية تهدف إلى ترميم الذاكرة الجمعية التي يسعى الاحتلال لتمزيقها. ففي ظل غياب أرشيف وطني مركزي، برزت مبادرات “الأرشفة الشعبية” الرقمية، مثل مشروع الموثق المقدسي طارق بكري “كنا وما زلنا”، الذي يستخدم وسائل التواصل لربط اللاجئين ببيوتهم وقراهم المهجرة عام 1948.
هذا المشروع يمثل شكلًا من أشكال “العودة الرمزية” التي تزرع المعرفة والفخر في نفوس الأجيال الجديدة، خاصة مع تطوره إلى بودكاست يروي تاريخ فلسطين عبر قصص أهلها ورواياتهم الشفوية، مما يحول الذاكرة من ماضٍ ساكن إلى حاضر متفاعل يربط اللاجئ بمكانه الأول بطرق مبتكرة.
تشير التوجهات الرقمية في بناء الهوية الفلسطينية إلى أن الغالبية العظمى من الشباب الفلسطيني، بنسبة تصل إلى 90%، يعتبرون الفضاء الافتراضي وسيلتهم الأساسية للتعبير الوطني، وتتركز معظم الحوارات الرقمية حول مواضيع النكبة وحق العودة والقدس، بينما تتخذ أنماط التفاعل شكل الهاشتاغات العابرة للحدود التي تستقطب تضامنا عالميا.
وفي مواجهة محاولات المحو الثقافي، يتم استحضار رموز مثل “التطريز الفلسطيني” والكوفية ومفتاح العودة في التصاميم الرقمية، بل وابتكار رموز بديلة مثل “إيموجي البطيخ” للالتفاف على الرقابة. هذه الممارسات تحول الرموز إلى لغة سيميائية تعبر عن الاستمرارية التاريخية، حيث تغدو مجموعات مثل “حكي القرايا” مستودعات للحكاية الشفوية والأمثال الشعبية، ما يؤدي إلى تعزيز السيادة الثقافية في الفضاء السيبراني.
إن استخدام الصور والمقارنات البصرية بين الماضي والحاضر يخلق حالة من التواصل الحسي مع الأرض المفقودة، وهي سردية بصرية تتحدى الزمن وتؤكد على الحق الذي لا يموت بالتقادم. من هذه الزاوية، يوضح أبو معلا أن هذه المقاومة البصرية تعكس وعيا عميقا بآليات عمل الفضاء الرقمي، حيث يدرك الفلسطيني أن الصورة هي السلاح الأقوى في معركة الرواية العالمية. لذلك، يبرز الاهتمام بتوثيق “الحياة اليومية” من منظور “الصمود الجمالي”، فتصوير قطاف الزيتون أو المناسبات الاجتماعية في المخيمات هي أفعال بناء للهوية تؤكد على إرادة الحياة في مواجهة سيرة الموت التي يحاول الاحتلال فرضها. هذه الحالة التوثيقية الجمالية، حسب رأي أبو المعلا، تعاكس مفاهيم الحداثة السائلة حول ذوبان الهويات، فالفلسطينيون يزدادون تمسكا بهويتهم الوطنية الصلبة في الفضاء الرقمي نتيجة الإحساس الدائم بالاقتلاع والحاجة لإثبات الوجود.
تحديات الرقابة الرقمية والسيادة في ظل الاحتلال الرقمي
رغم الفرص الهائلة، يواجه الفلسطينيون ما يوصف بـ“الاحتلال الرقمي” أو “الاستعمار الرقمي”، حيث تتحول المنصات الكبرى إلى أدوات للقمع والرقابة المنحازة، حيث كشفت التقارير الصادرة عن مركز “حملة”، والتي ساهم الدكتور سعيد أبو معلا في إعدادها، عن حجم الانتهاكات المنهجية التي تمارسها شركات مثل “ميتا” و“إكس” و“غوغل” عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تحذف المحتوى الفلسطيني وتجمد حسابات النشطاء تحت ذرائع “مكافحة الإرهاب”، بينما يُترك المجال واسعا للتحريض الإسرائيلي.
خلال عام 2023 وحده، تم توثيق آلاف الانتهاكات الرقمية، وقعت نسبة كبيرة منها بعد أحداث السابع من أكتوبر، ما مثَّل نكبة “رقمية” تسعى لعزل الفلسطينيين ومنعهم من توثيق معاناتهم، وهو ما يضرب جوهر الحقوق الرقمية في الفضاء السيبراني.
تعكس أرقام الأمان الرقمي واقعا مأزوما يعيشه الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، حيث أظهرت بعض الدراسات أن 50% من الشباب تعرضوا لهجمات مثل “انتحال الشخصية”، بينما واجه 55% اعتداءات تتعلق بالتحرش أو الرقابة السيبرانية. هذا الوضع أدى إلى شعور بالقلق وعدم الأمان الرقمي لدى 60% من المستخدمين، ما دفعهم لممارسة “الرقابة الذاتية” وحذف منشوراتهم خوفا من الملاحقة الأمنية الإسرائيلية التي تستخدم تقنيات “التعرف على الوجوه” والتنصت.
كما يوضح الكتاب أن هذه الملاحقة مزدوجة، حيث يتعرض المستخدمون أحيانا لمساءلة من أجهزة الأمن الفلسطينية أيضا، ما خلق بيئة رقمية محاصرة تهدف إلى كسر الروح المعنوية وتفكيك حالة التضامن.
أمام هذا القمع التكنولوجي، ابتكر الفلسطينيون، وآخرين معهم، لغة “الألغوسبيك” (Algospeak) للالتفاف على الخوارزميات، مثل كتابة الكلمات برموز أو نقاط (Isr*el أو P@lestine) واستخدام الرموز البصرية كالبطيخ بدلًا من العلم . هذه الاستراتيجيات تعكس حيوية الهوية وقدرتها على المناورة، فالمقاومة الرقمية ليست مجرد تقنيات بل هي فعل سياسي يرفض الصمت ويواجه “الهاسبارا” بحقائق موثقة بـ “البكسل“. إن الصراع على “السيادة على المعنى” هو الذي يحدد شكل الهوية الفلسطينية اليوم؛ فهي هوية لا تنكسر أمام الحواجز المادية ولا تذوب أمام الخوارزميات، وتسعى لتدويل القضية عبر ربطها بقضايا العدالة العالمية، مما يخلق “هوية تقاطعية” تضمن حضور فلسطين الدائم في الأجندة الرقمية العالمية.
مستقبل الهوية الفلسطينية لا يتوقف على جودة التمثيل، بل على القدرة على انتزاع استقلال تكنولوجي كامل؛ فالهوية التي تغترب في خوادم الشركات الكبرى هي هوية رهينة لشروط الخدمة الاستعمارية.
نهاية، يطرح كتاب سعيد أبو معلا معضلة وجودية تتجاوز مجرد رصد “التمثلات”؛ فبينما يحتفي الكتاب بقدرة الفلسطينيين على بناء “وطن عائم” وتجاوز التشظي الجغرافي، إلا أن واقع “حرب الإبادة” (2023-2025) كشف عن هشاشة هذه السيادة الرقمية عندما تصطدم بجبروت “الإغلاق المادي” الشامل. وهنا يبرز النقد الأساسي للكتاب؛ فهل يبالغ أبو معلا في مراهنته على الفضاء الافتراضي كـ “مختبر للوحدة”؟ إن تجربة قطع الإنترنت والكهرباء عن قطاع غزة، وتدمير البنية التحتية الرقمية بالكامل، تعيدنا إلى المربع الأول: الهوية التي لا تملك جسدا ماديا وأرضا صلبة تظل هوية “بكسلية” مهددة بالفناء بكبسة زر من المستعمر.
إننا نعيش اليوم، والفترة القادمة، مرحلة “ما بعد الإبادة”، حيث لم تعد الهوية الفلسطينية تبحث عن تمثيل فقط، بل عن “نجاة”؛ فالفضاء الافتراضي الذي صوره الكتاب كمساحة آمنة للعودة الرمزية، تحول في ظل الذكاء الاصطناعي الحربي إلى “بانوبتيكون” (سجن مركزي) يسهل عملية الرصد والاغتيال المادي وإعادة استهلاك ذات المحتوى. وهذا يضعنا أمام أسئلة فلسفية مقلقة: هل “الوطنية الرقمية” هي فعل تحرر حقيقي، أم أنها مجرد تعويض نفسي عن خسارة الأرض الواقعية؟ وهل يخدم تجميع الشتات افتراضيا مشروع التحرر، أم أنه يكرس حالة الاكتفاء بالافتراضي كبديل عن الصراع المادي على السيادة والتحرر والأرض؟
علاوة على ذلك، فإن تركيز الكتاب على “فيسبوك” كفضاء عمومي رئيسي قد يبدو اليوم مقاربة “ما قبل اندثار المنصات”، حيث أثبتت الحرب أن الخوارزميات ليست مجرد أدوات تقنية بل هي “وكلاء استعمار” يمارسون “تطهيرا” عرقيا رقميا. إن مستقبل الهوية الفلسطينية لا يتوقف على جودة التمثيل، بل على القدرة على انتزاع استقلال تكنولوجي كامل؛ فالهوية التي تغترب في خوادم الشركات الكبرى هي هوية رهينة لشروط الخدمة الاستعمارية.
ن هنا، يبقى السؤال المفتوح للمستقبل: كيف يمكن للفلسطيني أن يحول “سيادته الرقمية” من حالة “التمثيل الجمالي” إلى أداة “فعل سياسي” يكسر الحصار المادي؟ وكيف ستصمد هذه الهوية أمام جيل جديد من الخوارزميات العنصرية التي لا تكتفي بحذف المنشور، بل تسعى لمحوه من الذاكرة الرقمية العالمية؟ إن كتاب أبو معلا، رغم ريادته، يظل صرخة في وادٍ رقمي عميق، يحتاج منا إلى الانتقال من توصيف الهوية إلى تأمين بقائها في عالم يزداد توحشا وتقنية.