دخل التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا مرحلة جديدة من التصعيد، بعدما شرعت واشنطن في تحويل تهديداتها بخنق كاراكاس اقتصاديًا إلى إجراءات عملية على الأرض، وذلك في سياق اتهام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحكومة الرئيس نيكولاس مادورو بالعمل كـ”منظمة إرهابية أجنبية” تهدد الأمن والاستقرار الأميركيين.
وكان ترامب قد أعلن في 16 ديسمبر/كانون الأول الجاري فرض حصار كامل وشامل على جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات التي تدخل إلى فنزويلا أو تغادرها، حيث كتب في منشور له على منصته “تروث سوشال” إن فنزويلا باتت “محاصَرة بالكامل بأكبر أسطول بحري جرى تجميعه في تاريخ أميركا الجنوبية”، مؤكدًا أن الحصار سيظل قائمًا إلى أن تعيد كاراكاس “كل النفط، والأراضي، والأصول الأخرى”، على حد تعبيره، في خطاب عكس تصعيدًا غير مسبوق في لهجة واشنطن تجاه الحكومة الفنزويلية.
وقد أسفرت الإجراءات الأميركية المفروضة في البحر الكاريبي، وما رافقها من سقوط أكثر من مئة قتيل فنزويلي بدعوى تهريب المخدرات، عن خلق ما يمكن وصفه بـ”مصائد النفط الفنزويلي”، إذ لم يقتصر تأثيرها على السفن المستهدفة مباشرة، بل امتد ليصيب منظومة الشحن البحري برمتها بحالة ردع واضحة، عطّلت سلاسل الإمداد وأربكت حركة التجارة وأحدثت حالة من الشلل التام.
وأمام هذا الخنق اللوجستي الذي يطوّق شريان الاقتصاد الفنزويلي، تجد حكومة كاراكاس نفسها مضطرة للبحث عن أدوات واستراتيجيات بديلة لمواجهة الحصار الخانق، وسط تساؤلات متزايدة حول قدرتها على الإفلات من قبضة الضغط الأميركي المتصاعد.
مصائد النفط.. تجميد حركة النقل
تدرك واشنطن جيدًا الأهمية المحورية لقطاع النفط في بنية الاقتصاد الفنزويلي، إذ يمثل المصدر الرئيسي للدخل في بلد يمتلك أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم، تُقدَّر بنحو 303 مليارات برميل، أي ما يقارب 17% من الاحتياطي العالمي.
ويشكّل النفط في مجمله أكثر من 90% من عائدات الصادرات الفنزويلية، وما بين 80 و90% من تدفقات النقد الأجنبي، ما جعل الاقتصاد الفنزويلي شديد الهشاشة أمام تقلبات الأسعار، وأكثر عرضة لأي تهديد يطال هذا المورد اللوجستي الحيوي.
وفق تلك المعادلة الكاشفة، بنت إدارة ترامب استراتيجيتها في الضغط على كاراكاس، والتي تعتمد في المقام الأول على تجميد قطاع النفط وإقصائه نهائيًا عن الخارطة الاقتصادية للبلاد، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن شلّ هذا المورد كفيل بإرباك المشهد الداخلي وتأجيج الرأي العام والشارع الفنزويلي.
وترجمة عملية لتلك الاستراتيجية، شهدت السياسة الأميركية منذ تصاعد التهديدات في أغسطس/آب الماضي تحولًا نوعيًا في أدوات الضغط، حيث بات استهداف النفط يتقدم على العقوبات الاقتصادية والمالية والإدارية التقليدية بوصفه الأداة الأشد تأثيرًا.
In a pre-dawn action early this morning on Dec. 20, the US Coast Guard with the support of the Department of War apprehended an oil tanker that was last docked in Venezuela.
The United States will continue to pursue the illicit movement of sanctioned oil that is used to fund… pic.twitter.com/nSZ4mi6axc
— Secretary Kristi Noem (@Sec_Noem) December 20, 2025
وفي هذا السياق، شهد شهر ديسمبر/كانون الأول الجاري موجة غير مسبوقة من الاعتراضات والاستهدافات المباشرة لناقلات النفط الفنزويلي في البحر الكاريبي، إذ أعلنت السلطات الأميركية مصادرة ناقلة نفط عملاقة محمّلة بالكامل بالنفط الخام الفنزويلي، إلى جانب محاولات اعتراض ناقلتين إضافيتين خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي.
ووصفت وكالة “رويترز” هذه الخطوة بأنها أقسى ضربة تتلقاها شركة النفط الوطنية الفنزويلية (PDVSA) منذ تشديد العقوبات عام 2019، وتزامنًا مع هذا التوصيف، أكدت وزيرة الأمن الداخلي الأميركية، كريستي نويم، في تصريح عبر منصة إكس في 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن الولايات المتحدة ستواصل ملاحقة حركة النفط “غير المشروعة” الخاضعة للعقوبات، معتبرة أنها تُستخدم في تمويل “الإرهاب المرتبط بالمخدرات” في المنطقة.
التصعيد لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد تغريدتها بيومين، شددت نويم في مقابلة مع برنامج “فوكس آند فريندز” على أن واشنطن لا تعترض هذه السفن فحسب، بل “تبعث برسالة إلى العالم بأن نشاط مادورو غير القانوني غير مقبول، وأن عليه الرحيل”، مؤكدة التزام بلادها بالدفاع عن مصالحها وشعبها.
استراتيجيات التصدي للحصار الأمريكي
تتبنّى فنزويلا، عبر شركتها النفطية الوطنية العملاقة، حزمة من الاستراتيجيات والأدوات للالتفاف على الحصار الأميركي والعقوبات المفروضة عليها، بهدف الحفاظ على تماسك النظام وقدرته على الصمود في مواجهة الضغوط التي تستهدف في المقام الأول تركيع حكومة نيكولاس مادورو وإجبارها على الانهيار، وهنا تبرز ثلاث أدوات رئيسية في هذا السياق:
أولًا: الناقلات–المخازن العائمة
تراهن الولايات المتحدة في استراتيجيتها العقابية على شلّ حركة تصدير النفط، باعتبارها العصب الحيوي للاقتصاد الفنزويلي. فمع تقييد تحميل النفط وإبحار السفن، يتراكم الخام في خزانات التخزين البرية والبحرية، ما يهدد بإجبار الشركة على إغلاق الآبار الناضجة، وهي خطوة مكلفة ومحفوفة بالمخاطر وقد تلحق ضررًا دائمًا بالقدرة الإنتاجية.
ولتفادي هذا السيناريو، تلجأ شركة النفط الوطنية إلى استخدام ناقلات النفط كمخازن عائمة داخل المياه الإقليمية، في إجراء عالي الكلفة يهدف إلى استمرار الإنتاج، تمهيدًا لنقل الشحنات لاحقًا عبر شبكات التهريب البحري.
ثانيًا: أسطول الظل
يُعدّ “أسطول الظل” أحد أهم أدوات فنزويلا الالتفاف على العقوبات، ويتكوّن من ناقلات قديمة غالبًا بلا أوراق رسمية ولا التزام بالمعايير الدولية، وتبحر تلك السفن بعد تحميل النفط مع إطفاء أجهزة الإرسال لتفادي التتبع، ثم تُجري عمليات نقل من سفينة إلى أخرى في عرض البحر لإخفاء مصدر الخام، وقد يُخلط النفط الفنزويلي بأنواع أخرى لمحو بصمته نهائيًا، وتستخدم تلك الأداء مع النفط الروسي والإيراني كذلك.
ويُوجَّه معظم هذا النفط إلى الصين، مستفيدًا من اتساع المحيط وصعوبة فرض حصار محكم، ما يسمح لعدد من السفن بالإفلات من الرقابة الأميركية رغم المصادرات المتكررة، حيث تُظهر بيانات “كبلر” (الشركة المتخصصة في تتبع شحنات الطاقة وحركة الناقلات) أن الصادرات لم تتوقف كليًا، لكنها دخلت مرحلة اختناق لوجستي واضح، مع تباطؤ الإبحار وتكدس الشحنات وارتفاع المخزونات إلى مستويات قياسية.
ثالثًا: الاعتماد على العملات الرقمية والدعم الدولي
إلى جانب الأدوات البحرية، تعتمد فنزويلا بشكل متزايد على العملات الرقمية المستقرة مثل USDT لتلقي مدفوعات النفط، بما يتيح تجاوز النظام المصرفي التقليدي وتقليل مخاطر تجميد الأموال، ويُضعف هيمنة الدولار في تجارة الطاقة، ورغم ما توفره هذه الآلية من سرعة وكفاءة وانخفاض في التكاليف، فإنها تنطوي على مخاطر تتعلق بالتشديد الرقابي وتقلبات السوق.
وفي موازاة ذلك، تحظى كاراكاس بدعم سياسي واقتصادي من دول مثل الصين وروسيا، التي ترى في استمرار تدفق النفط الفنزويلي مصلحة استراتيجية، فضلًا عن كونه أداة لموازنة النفوذ الأميركي في أميركا الجنوبية، عبر إعادة التصدير أو خلط الخام وتزوير وثائقه.
مواجهة قراصنة الداخل
بالتوازي مع المسارات الثلاثة السابقة، صادقت الجمعية الوطنية الفنزويلية (البرلمان) بالأغلبية على قانون جديد يجرّم أعمال القرصنة والحصار البحري وأي ترويج أو دعم لها داخل البلاد، ويهدف هذا التشريع، المعروف باسم «”قانون حماية حريات الملاحة والتجارة في مواجهة القرصنة والحصار وغيرها من الأفعال الدولية غير المشروعة”، إلى حماية المصالح الوطنية والفنزويليين من التدخلات الخارجية، ويُعدّ ردًا مباشرًا على الإجراءات الأميركية الأخيرة.
ينص القانون على عقوبات بالسجن تتراوح بين 15 و20 عامًا ضد كل من يشارك أو يسهّل أو يروّج لأعمال القرصنة أو الحصار البحري أو التجسس على الملاحة، بما في ذلك اعتراض السفن أو أي أفعال دولية غير مشروعة، كما تتضمن المواد الأخرى غرامات مالية تصل إلى مليون يورو ومصادرة الممتلكات، في إطار تشديد العقوبات ضد أي محاولات للإضرار بالاقتصاد الوطني أو الالتفاف على السيادة الفنزويلية.
Venezuela's National Assembly on Tuesday passed a law aimed at guaranteeing and protecting freedom of navigation and trade against piracy, blockades, and other illicit international acts, following U.S. seizures of vessels carrying Venezuelan oil in the Caribbean. pic.twitter.com/Uy96XezMk2
— China Xinhua News (@XHNews) December 25, 2025
ويرى مراقبون أن القانون يوجّه بالدرجة الأولى ضد قوى المعارضة الفنزويلية التي أيدت الإجراءات الأميركية الرامية للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو، ويكمل حزمة تشريعات سابقة تستهدف كل من يسهل فرض العقوبات الدولية على فنزويلا، بما في ذلك شخصيات بارزة مثل ماريا كورينا ماتشادو، الحائزة على جائزة نوبل للسلام هذا العام.
في المحصلة، قد تتمكن كاراكاس من الصمود أمام العقوبات الأميركية بفضل هذه الاستراتيجيات المبتكرة والمتنوعة والتي استطاعت فعليًا تحقيق بعض الإيجابيات خلال الآونة الأخيرة، لكنها في الوقت ذاته تبقى رهينة المخاطر والتحديات التي تفرضها واشنطن، المترصدة بلا شك لمثل تلك التحركات، وهنا يبقى السؤال الأبرز: إلى متى ستتمكن فنزويلا من الاستمرار في مواجهة هذا الحصار المتصاعد، وما هو ثمن الصمود على المدى الطويل؟