تعيش العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا إحدى أشد لحظاتها توترًا منذ عقود، وسط مؤشرات على احتمالات مواجهة مباشرة بين البلدين، وذلك بعد تصاعد حدة التصريحات والإجراءات المتبادلة.
وتصاعد التوتر مؤخرًا، بدءًا من تهديدات واشنطن المتزايدة وصولًا إلى مناورات عسكرية أمريكية في البحر الكاريبي وردود فعل غاضبة من حلفاء كاراكاس مثل روسيا والصين، فكيف وصلت العلاقات إلى هذا المنعطف الخطير؟ وما مآلات التصعيد الحالي؟
جذور الأزمة وعوامل التوتر
يرجع المراقبون جذور الأزمة الأمريكية-الفنزويلية إلى تداخل عوامل الجغرافيا السياسية والمبادئ المعلنة، فمن جهة، تنظر الولايات المتحدة إلى فنزويلا بوصفها جزءًا من مجال نفوذها التقليدي في نصف الكرة الغربي.
وقد أعادت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الأخيرة إحياء مبدأ مونرو التاريخي (1823) بشكل صريح (والتي تنص على منع الخصوم الأجانب من ترسيخ وجودهم العسكري أو الاقتصادي في الأمريكتين)، في دلالة على سعي واشنطن لتأكيد هيمنتها في أمريكا اللاتينية.
وإلى جانب ذلك، لا يغيب عن المشهد بُعد المصالح الاقتصادية؛ ففنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفط مؤكد في العالم، ويرى كثيرون أن ثروة البلاد النفطية تشكل عامل جذب قويًا يدفع واشنطن للسعي إلى ضمان نفاذ شركاتها إليها بشكل مميز في أي تسوية مقبلة.
1- فترة تشافيز.. بداية الصدام
بدأت جذور التوتر الراهن مع وصول هوغو تشافيز إلى الحكم عام 1999 حاملًا أجندة اشتراكية مناهضة للهيمنة الأمريكية.
أعاد تشافيز صياغة الدستور وأمم قطاع النفط ضمن ما سمّاه الثورة البوليفارية، معززًا علاقات بلاده بدول مناوئة لواشنطن كروسيا وإيران والصين.
في المقابل، اتهمت الولايات المتحدة نظام تشافيز بتقويض الديمقراطية وتكميم الإعلام، فيما طردت كاراكاس منظمات غير حكومية ودبلوماسيين أمريكيين بدعوى التآمر ضدها.
وصل التصادم إلى ذروته في أبريل 2002 عندما تعرض تشافيز لانقلاب عسكري قصير الأمد اتهم واشنطن بالضلوع فيه، وهو ما نفته الأخيرة، إلا أن ذلك الحدث رسّخ انعدام الثقة بين الطرفين لعقود.
وشهدت فنزويلا لاحقًا تدهورًا اقتصاديًا رغم ازدهار أسعار النفط؛ إذ أدى سوء الإدارة والفساد إلى تقويض مكاسب برامج تشافيز الاجتماعية.
بعد وفاة تشافيز عام 2013، تولى نائبه نيكولاس مادورو السلطة بفارق ضئيل في الانتخابات، لتواجه حكومته سريعًا احتجاجات واسعة وأزمات معيشية خانقة عمّقت التوتر مع واشنطن.
2- قدوم أوباما.. أولى العقوبات
وفي عامي 2014 و2015، فرضت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أول عقوبات أمريكية على مسؤولين فنزويليين بتهمة انتهاك حقوق الإنسان، واعتبرت فنزويلا تهديدًا للأمن القومي الأمريكي.
شكلت تلك العقوبات نقطة تحول فاقمت الانهيار الاقتصادي في فنزويلا، حيث بدأت البلاد تعاني نقصًا حادًا في الغذاء والدواء، وارتفع التضخم لمستويات قياسية، وشرع الملايين في النزوح والهجرة الجماعية هربًا من تفاقم الأوضاع.
3- ترامب و”الضغط الأقصى”
مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية عام 2017، تبنت واشنطن نهجًا أكثر تشددًا حيال فنزويلا تمثلت في:
- تلويح ترامب في أغسطس/آب من ذلك العام بـ”الخيار العسكري” ضد نظام مادورو الذي كان يواجه اضطرابات داخلية متصاعدة.
- فرضت إدارة ترامب سلسلة عقوبات مالية صارمة؛ إذ منعت وصول حكومة كاراكاس إلى الأسواق المالية الأمريكية وحظرت تداول سنداتها، ثم شددت القيود على قطاع النفط الفنزويلي الذي يعتمد عليه الاقتصاد بشكل أساسي.
وشكّلت إعادة انتخاب مادورو لولاية جديدة في مايو/أيار 2018 منعطفًا خطيرًا؛ إذ اعتبرت المعارضة تلك الانتخابات “مزورة” بعد منع مرشحيها الرئيسيين من الترشح ومقاطعة معظم أحزابها للاقتراع.
مطلع عام 2019، أعلن زعيم المعارضة السابق خوان غوايدو نفسه رئيسًا انتقاليًا للبلاد خلال احتجاجات حاشدة، وحظي بدعم من الولايات المتحدة وعشرات الدول الحليفة لها، فيما جدد ترامب تأكيده أن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة بما فيها احتمال التدخل العسكري ضد مادورو.

وردّت كاراكاس بقطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن متهمةً إياها بتدبير انقلاب ضد الشرعية، وأعلن مادورو غاضبًا: “لقد سئمنا من التدخلات… هنا شعب يتمتع بالكرامة ومستعد للدفاع عن أرضه”.
ووسّعت واشنطن عقوباتها الاقتصادية في تلك الفترة، فشملت حظر صادرات الذهب والمعادن الأخرى وتعاملات القطاع المصرفي الفنزويلي والنفط.
ورغم ذلك، حافظ مادورو على السلطة بدعم من الجيش وولاء المؤسسات الرئيسية بالدولة، ومساندة قوى دولية حليفة كروسيا والصين وكوبا.
وبحلول نهاية ولاية ترامب الأولى في 2021، كانت المعارضة المدعومة أمريكيًا قد تراجع زخمها بشكل كبير (غادر خوان غوايدو إلى أمريكا) دون أن تنجح بإسقاط مادورو، فيما تفاقمت الكارثة الإنسانية مع ارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات هائلة ونزوح ملايين المواطنين هربًا من الانهيار.
4- بايدن.. انخراط دبلوماسي حذر
مع تولي جو بايدن الرئاسة عام 2021، انخفضت حدة الخطاب الأمريكي تجاه فنزويلا وتحوّل التركيز إلى الحلول الدبلوماسية.
أبقت إدارة بايدن على معظم العقوبات الاقتصادية الكبيرة، لكنها عرضت تخفيفًا انتقائيًا لبعض القيود مقابل اتخاذ خطوات ملموسة من قبل حكومة مادورو نحو استعادة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
في عام 2022، استؤنفت المفاوضات بين حكومة مادورو والمعارضة برعاية دولية (استضافت المكسيك جولات حوار) بهدف إيجاد مخرج للأزمة.
وقد سمح بايدن لشركة النفط الأمريكية شيفرون باستئناف بعض أنشطتها في فنزويلا بشكل محدود كحافز، على ألا تحصل حكومة مادورو على أي عائدات مباشرة من تلك المبيعات النفطية.
كذلك اتفقت واشنطن مع حلفائها على إطار للتسوية يقضي بإجراء انتخابات رئاسية حرة عام 2024 مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات، لكن مادورو تنصل من وعوده لاحقًا حين أقصى أبرز شخصيات المعارضة (مثل ماريا كورينا ماتشادو) عن الترشح، ما أفرغ الاتفاق من مضمونه.
وبشكل عام، أبدت إدارة بايدن استعدادًا للتعامل الواقعي مع الأمر الواقع في كاراكاس وتخفيف العزلة الدبلوماسية عنها، لا سيما مع استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية وتفاقم أزمة المهاجرين الفنزويليين في دول الجوار.
5- عودة ترامب وتصعيد المواجهة
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، اتخذ نهجًا أشد صرامة تجاه فنزويلا منذ اليوم الأول عبر عدة خطوات:
- لم يعترف بتنصيب مادورو لولاية جديدة (ثالثة) في يناير/كانون الثاني 2025 عقب انتخابات متنازع على نزاهتها، ورفضت واشنطن نتائجها.
- ألغى الامتيازات التي منحتها الإدارة السابقة للفنزويليين، بما فيها وضع الحماية المؤقتة الذي كان يجنب نحو 600 ألف فنزويلي خطر الترحيل.
- صنف في فبراير/شباط 2025 إحدى أخطر عصابات الجريمة في فنزويلا (قطار أراغوا) منظمة إرهابية أجنبية وزعم ارتباطها بمادورو.
- نسقت إدارة ترامب مع كاراكاس ترحيل المهاجرين الفنزويليين غير النظاميين على دفعات، ووصلت أول طائرة تُقلّ مُبعدين في فبراير/شباط 2025.
- تراجع ترامب عن أي بوادر انفتاح سابقة، فألغى التراخيص النفطية المحدودة التي كان بايدن قد منحها لشركات أمريكية للعمل في فنزويلا.
- فرض في مارس/آذار 2025 تعريفات جمركية بنسبة 25% على الدول التي تشتري النفط الفنزويلي في محاولة لخنق مصادر عائدات كاراكاس.
وفي خريف 2025، أخذ التصعيد منحى عسكريًا خطيرًا، بررته أمريكا رسميًا بذريعة “محاربة تهريب المخدرات”، متخذة الخطوات التالية:
- أعلنت تنفيذ عملية بحرية باسم “رمح الجنوب” قرب سواحل فنزويلا.
- أرسلت أكبر حاملة طائرات أمريكية (USS Gerald R. Ford) ترافقها قطع حربية وآلاف الجنود إلى البحر الكاريبي، في أضخم انتشار عسكري أمريكي بالمنطقة منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
- نفذت أكثر من 20 ضربة جوية وبحرية ضد ما وصفتها بـ”قوارب مخدرات” في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، ما أسفر عن مقتل العشرات.
- كشف ترامب أنه فوض وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بتنفيذ عمليات سرية داخل فنزويلا تستهدف أركان نظام مادورو.
- فرضت أواخر 2025 حظر أحادي على استخدام المجال الجوي الفنزويلي بدعوى وجود “مخاطر أمنية”، ما أرغم شركات الطيران العالمية على تعليق رحلاتها من وإلى فنزويلا.
وترافق التصعيد الميداني مع معركة كلامية حادة بين واشنطن وكاراكاس، بدأها ترامب في ولايته الأولى لكنه صعدها خلال رئاسته الحالية، إذ حذّر الرئيس الأمريكي نظيره الفنزويلي أواخر 2025 قائلًا: “إذا أراد أن يتصرف بخشونة، فستكون آخر مرة يستطيع فيها ذلك”. كما اتهم صراحةً حكومة مادورو بأنها “سرقت النفط والأراضي وغيرها من الأصول” الأمريكية، متوعدًا باستعادتها.
من جانبه، دأب مادورو على التنديد بما وصفه بـ”الادعاءات الاستعمارية ودعوات الحرب” في خطاب ترامب، مؤكدًا أن فنزويلا “لن تصبح أبدًا مستعمرة” وأن الشعب الفنزويلي سيقاوم أي تدخل أجنبي.
بل إنه خاطب ترامب مباشرةً قائلًا إن عليه الالتفات إلى مشكلات بلاده الاقتصادية والاجتماعية بدل التفوه بتهديدات ضد كاراكاس، مجددًا رفضه لما يعتبره أطماعًا أمريكية في ثروات فنزويلا النفطية.

تبعات الأزمة على فنزويلا
- تجاوز معدل التضخم مستويات فلكية وأضحى أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، مع ندرة حادة في المواد الغذائية والأدوية.
- قدّرت الأمم المتحدة أن قرابة 7.9 مليون فنزويلي داخل البلاد – أي حوالي ثلث السكان – بحاجة اليوم إلى مساعدات إنسانية عاجلة.
- تسببت الأوضاع المعيشية الكارثية والمخاطر الأمنية في فنزويلا بأكبر موجة نزوح ولجوء تشهدها أمريكا اللاتينية في تاريخها الحديث.
- فرّ نحو 8 ملايين فنزويلي من بلادهم منذ 2014 إلى دول الجوار، لتشهد فنزويلا أكبر أزمة لجوء عالميًا بعد أزمة اللاجئين السوريين.
السيناريوهات المحتملة
في ظل التطورات الأخيرة، يضع مركز السياسات للجنوب الجديد عدة سيناريوهات ممكنة لمآل الأزمة:
1- تسوية تفاوضية شاملة: يتمثل بدخول واشنطن وكاراكاس في مفاوضات مباشرة أو عبر وسطاء، تفضي إلى اتفاق على انتقال سياسي سلمي متفق عليه ينهي حالة المواجهة، غير أن هذا الخيار يُواجه عقبات كبرى بسبب تباعد مواقف ترامب ومادورو في مسألة تنحي الأخير.
2- ضغط عسكري محدود: قد تواصل واشنطن حملة الضغط القصوى مدعومةً بعمليات عسكرية وأمنية محدودة تستهدف إضعاف الحلقة المقربة من مادورو ودفع الجيش الفنزويلي للانقلاب عليه من الداخل، وهو خيار ينطوي على مخاطر تصعيد غير محسوبة قد تنقل الوضع إلى حرب كبرى.
3- تدخل عسكري واسع: يعد السيناريو الأسوأ احتمالًا، ويتمثل في غزو أمريكي مباشر لفنزويلا بهدف إسقاط حكومة مادورو بالقوة، وهو خيار قد يواجه بمقاومة من الجيش الفنزويلي وقد يفضي إلى فوضى أمنية وموجات نزوح ضخمة تفوق قدرة دول المنطقة على الاستيعاب.
وفي المحصلة، يرجّح معظم المراقبين استمرار النهج الحالي في الفترة القادمة – أي تشديد الخناق الاقتصادي والضغط السياسي والأمني على نظام مادورو دون الانزلاق إلى حرب شاملة – باعتباره السيناريو الأقرب للتحقق على المدى القريب.
وستظل فنزويلا مسرحًا لصراع إرادات بين واشنطن وحلفاء مادورو، في انتظار ما ستسفر عنه الضغوط والجهود الدبلوماسية من نتائج قد تفتح الباب أمام حل سياسي يُجنّب البلاد والمنطقة أسوأ المآلات، وفق المركز ذاته.