دخلت التجارة في سوريا مرحلة اختبار جديدة تغيّرت معها قواعد السوق، نتيجة تفكّك العلاقة التي حكمت بين التاجر والسلطة الأمنية لعقود، فبعد عام على التحرير، بدأ إرث الضبط القسري بالتراجع، بالتوازي مع محاولات أولية لإعادة تنظيم العمل التجاري، من دون أن تتبلور حتى الآن منظومة اقتصادية مستقرة أو قابلة للتنبؤ.
يأتي هذا التحوّل في سياق شديد التعقيد، إذ يواجه السوق إرثًا طويلًا من علاقة مختلّة بين التاجر والسلطة، تشكّلت عبر عقود من الرشوة والابتزاز، حيث جرى إخضاع النشاط التجاري لمنطق أمني قائم على الحواجز والأفرع، وفرض إتاوات مباشرة على التجّار، إلى جانب ضرائب ورسوم جمركية مجحفة، وقد أسهمت هذه الممارسات في إغلاق آلاف السجلات التجارية، ودفع أعداد كبيرة من التجّار إلى الخروج من البلاد أو تعليق نشاطهم، ما أضعف البنية التجارية وأفقد السوق جزءًا من حيويته.
يتقاطع هذا الإرث مع واقع اقتصادي بالغ الصعوبة، تكشّفت ملامحه مع حجم الانهيار الواسع الذي طال معظم القطاعات، نتيجة سياسات اقتصادية فاسدة وإدارة فوضوية أفرغت الاقتصاد من مقوماته الأساسية.
وبين تراجع أدوات الإكراه القديمة وغياب قواعد تنظيمية واضحة، تقف العلاقة بين التاجر والدولة اليوم في مساحة انتقالية مفتوحة، يختبر فيها التجّار قدرتهم على العمل خارج منطق النفوذ، في المقابل تُختبر قدرة الدولة على التحوّل من سلطة ضبط إلى سلطة تنظيم.
ضمن هذا السياق، يرصد هذا المقال المزاج العام لحركة التجارة في البلاد، ويستعرض آراء عيّنة من التجّار في دمشق وحلب وحماة، سعيًا للإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلّق بما تغيّر فعليًا في شروط العمل التجاري، وما إذا كانت ملامح علاقة جديدة تقوم على التنظيم بدل الإكراه قد بدأت بالتشكّل، أم أن ما تحقق لا يزال محدودًا ومحكومًا بمرحلة انتقالية لم تتضح ملامحها بعد.
جهود الحكومة السورية الجديدة
منذ مطلع عام 2025، بدأت الحكومة السورية الجديدة باتخاذ سلسلة إجراءات ذات طابع اقتصادي، في مسعى لإعادة تنشيط سوق تجاري ظل لسنوات خاضعًا لهيمنة القيود الأمنية والتعقيدات البيروقراطية، في هذا الإطار، برزت خطوات وُصفت بالتمهيدية على مستوى الإصلاح الضريبي، كان أبرزها إعلان وزارة المالية تشكيل لجنة متخصصة لمراجعة منظومة الضرائب والرسوم القائمة ودراسة إمكان إعادة تنظيمها.
وتضم اللجنة ممثلين عن جهات حكومية وهيئات ضريبية، إلى جانب أكاديميين وخبراء وممثلين عن غرف التجارة والصناعة، في محاولة لفتح قنوات نقاش مع القطاع الخاص بعد سنوات من تغييب دوره عن صياغة السياسات المالية. ووفق ما أُعلن، تتولى اللجنة مراجعة التشريعات النافذة واقتراح تعديلات تهدف إلى تبسيط الإجراءات، وتقليص عدد الضرائب والرسوم، وتعزيز قدر من الشفافية في آليات الجباية، من دون أن تتبلور بعد نتائج عملية يمكن قياس أثرها على أرض الواقع، ومع أن هذه الخطوات لا تزال في إطار الدراسة والتشاور، فإنها تعكس توجهاً رسمياً لإعادة تقييم أدوات الجباية التي شكّلت سابقًا أحد أبرز مصادر الضغط على النشاط التجاري.
ترافق ذلك مع تدفّق ملحوظ للسلع المستوردة إلى الأسواق السورية، في ظل السماح بالتعامل بالدولار واعتماد رسوم جمركية موحّدة مخفّضة، وهي خطوات ساهمت في توسيع دائرة الاستيراد وكسر الاحتكار الذي فرضته سابقًا قنوات محدودة مرتبطة بالنفوذ الأمني، وترافقت هذه الإجراءات مع انفتاح تجاري إقليمي تدريجي، خصوصاً عبر المعابر مع الدول المجاورة.
ولا ينفصل هذا الانفتاح في حركة السلع عن مساعٍ موازية لمعالجة العوائق المالية التي لطالما قيّدت التجارة الخارجية ،إذ يجري تيسير تدريجي لإعادة الربط مع نظام “سويفت” للمدفوعات الدولية، بما يمهّد تسهيل تحويل الأموال من وإلى الخارج، في السياق ذاته، كان لإلغاء قانون قيصر دور في تحسين المناخ التجاري وإعادة فتح أطر التعاون مع الأسواق الخارجية، وإن بقي أثر هذه الخطوات مرهونًا بسرعة تفعيلها على الأرض وقدرة النظام المالي المحلي على استيعابها.
كما عملت وزارة الاقتصاد على تطوير قواعد بيانات موحّدة للسجلات التجارية وربطها بالجهات المعنية لتسريع منح التراخيص وتقليص الاعتماد على الوسطاء غير الرسميين، إلى جانب خطوات إدارية هدفت إلى تنظيم عمل الوكالات التجارية والفروع الأجنبية داخل البلاد.
وقد شهدت سوريا منذ مطلع عام 2025 زيادة عدد الشركات المسجّلة، وتمّ تسجيل آلاف الشركات الجديدة خلال الأشهر الأولى من العام، عدد كبير منها يعمل في مجالات الاستيراد والتصدير والتجارة العامة، في مؤشر على تراجع التعقيدات الإدارية التي كانت تعيق دخول التجار إلى السوق سابقاً.
ورغم أن بعض هذه التوجيهات لا تزال في طور التفعيل أكثر من كونها نصوصاً قانونية كاملة المنشور في الصحف الرسمية، فإنها تمثّل مؤشرات مهمة على توجه جديد في إطار تنظيم الدولة للاقتصاد وتسهيل أنشطة التجار بدلاً من الضبط الأمني والبيروقراطية المكبّلة التي سادت في العقود الماضية.
التاجر والدولة
في أحد أزقة سوق مدحت باشا بدمشق، يصف أبو محمد، وهو تاجر يعمل في السوق منذ سنوات طويلة، شعورًا جديدًا يعيشه بعد عام على التحرير، قائلاً إنه يشعر بتفاؤل كبير مقارنة بالسنوات الماضية، مرجعًا ذلك إلى تغيّر أسلوب تعاطي الحكومة الحالية مع التجار، قائلًا: “باتت الحكومة تستمع لمشاكلنا، وهذا بحد ذاته يخلق حالة من الارتياح داخل السوق”، موضحًا أن نشاطه التجاري كان قائمًا على العمل النظامي منذ البداية، وأضاف: “أنا أعمل وفق القانون السوري مئة بالمئة، لكنني في السابق كنت مضطرًا لدفع إتاوات ورشاوى لجهات أمنية مختلفة”، لافتًا إلى أن هذه الممارسات اختفت اليوم، ما ساهم في تسهيل المعاملات اليومية دون تدخلات غير رسمية.
غير أن هذا التحسن، بحسب قوله، لا يلغي التحديات المالية القائمة، فيقول: “نحن قادرون على التجارة بحرية أكبر، لكن أموالنا ما تزال محبوسة في المصارف السورية، ولا نستطيع سحبها، ما يمنعنا عمليًا من استخدامها”، مشيرًا إلى أن سياسة حبس السيولة تفرض سقوف سحب منخفضة تعيق إدارة الأعمال اليومية.
من حماة، يروي الحاج خالد، أحد التجار في المدينة، تجربته الصعبة هذا العام مع تذبذب أسعار السوق وعدم استقرار سعر صرف الدولار، قائلًا: “اشتريت بضاعتي في فترة ارتفعت فيها قيمة الدولار مقابل الليرة، لكن اضطررت لاحقًا إلى بيعها بعد انخفاض السعر، ما أدى إلى خسارة جزء من أرباحي المتوقعة. هذا حالنا اليومي، الذي نعيشه ضمن سوق متقلب ومفتوح على تغيرات الأسعار”.
من جهته، يعبّر حسان، وهو تاجر من مدينة حلب، عن قلق متزايد إزاء تدفّق البضائع التركية إلى الأسواق السورية، معتبراً أن هذا التدفق انعكس سلباً وبشكل مباشر على نشاطه التجاري، “إذ لم يترك مجالاً حقيقياً للمنافسة العادلة”، ويوضح أن المنتجات التركية تدخل بأسعار تقلّ كثيراً عن كلفة المنتج المحلي، ما أدى إلى تكدّس البضائع المحلية في المستودعات وصعوبة تصريفها.
ويضيف بأن: “هذا سيؤدي إلى خروج كثير من التجار من السوق تدريجيًا ما لم تتجه الحكومة إلى اعتماد سياسات أكثر توازنًا، تشمل ضبط الاستيراد العشوائي، وتشديد الرقابة على التهريب، إلى جانب وضع آليات حماية مؤقتة تتيح للتجار والمنتجين المحليين التكيّف مع مرحلة الانفتاح دون تحوّل السوق إلى ساحة تصريف للبضائع المستوردة على حساب التجارة والإنتاج الداخل”.
الرقابة الجمركية: متطلبات الانضباط وفجوات الخبرة
تذكر مديرة المبيعات سمر والتي تعمل في شركة استيراد مواد التدفئة والتهوية والعزل أن: “مرحلة ما بعد السقوط شهدت تسهيلات واضحة لصالح التجار، أبرزها إلغاء تمويل الإجازات وتسريع الإجراءات، ما أسهم في تسهيل حركة الاستيراد حيث اتسمت الفترة الأولى بمرونة عالية، قبل أن تبدأ الجهات المعنية، خلال الأشهر الأخيرة بتشديد التدقيق على تفاصيل المعاملات بشكل ملحوظ”.
وتبيّن أن: “هذا التشديد يتركز حالياً على التصنيف الدقيق للبنود الجمركية، حيث يتم التدقيق في كل قطعة على حدة، للتحقق من صحة البند المستخدم وعدم اللجوء إلى بنود أقل كلفة”، وتؤكد أن هذا التوجه، من حيث المبدأ، إيجابي وضروري لإرساء نظام جمركي منضبط، مشددة على أن الشركات لا تعارض الرقابة طالما كانت قائمة على قواعد واضحة ومعلنة للجميع.
إلا أن الإشكالية الأساسية، بحسب حديثها تكمن في محدودية الخبرة الفنية لدى بعض الكوادر الجديدة المكلفة بالكشف الجمركي، مقارنة بكوادر الإدارة السابقة، التي كانت تمتلك معرفة عملية متراكمة بطبيعة المواد وتصنيفاتها. وتشير إلى أن هذا النقص في الخبرة ينعكس على آلية العمل، حيث يلجأ بعض المفتشين إلى تصوير القطع، والبحث والاستفسار المتكرر، وفي بعض الحالات الاستعانة بأدوات رقمية عامة مثل تطبيقات الذكاء الاصطناعي لمحاولة التعرف على طبيعة المواد وتصنيفها، ما يؤدي إلى إطالة زمن الكشف وتأخير إنجاز المعاملات.
وتخلص إلى أن المرحلة الحالية تعاني من خلل انتقالي ناتج عن عدم الاستفادة من الخبرات الفنية السابقة، رغم الانتقادات الواسعة التي كانت موجهة للنظام القديم، وتؤكد أن: “إقصاء هذه الخبرات بشكل كامل، دون نقل المعرفة أو تأهيل الكوادر الجديدة، أسهم في خلق إشكاليات عملية في السوق، كان بالإمكان الحد منها عبر إدارة انتقالية أكثر تدرجاً وتنظيماً”.
في السياق نفسه، يشير مصدر يعمل في المعابر الحدودية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، إلى أن جزءًا من فرق الكشف الجمركي المستحدثة يفتقر إلى الخبرة والتأهيل اللازمين للتعامل مع طبيعة المواد وتصنيفها، ما يؤدي إلى ارتباك في آليات الكشف وإطالة زمن المعاملات.
ويضيف المصدر أن تصنيف البنود الجمركية يميل في كثير من الحالات إلى إدراج البضائع ضمن أعلى بند ممكن، حتى عندما تتيح طبيعتها تصنيفات أقل كلفة، مشيرًا إلى ازدياد تسجيل المخالفات الجمركية بوصفها أداة لتعظيم الإيرادات، بما يخلق حوافز مادية مباشرة للكشافين وللخزينة العامة، على حساب استقرار العمل التجاري.
تقييم أولي للتحولات في البيئة التجارية السورية
في حديثنا مع رئيس منظّمة رجال وروّاد الأعمال السوريين في تركيا، يرى خالد البابللي أن العلاقة بين التاجر والدولة شهدت تحسناً ملحوظاً خلال العام الأول بعد التحرير، لكنه تحسّن لم يصل بعد إلى مستوى التحوّل البنيوي العميق، ويعبّر عن ذلك بالقول:
“تحسنت علاقة التاجر بالدولة تحسن ملموس وخاصة بالتخلص النسبي من القبضة الأمنية والابتزاز وأصبح التاجر أكثر قدرة على الحركة والسفر والمبادرة، إلا أنّ هذا التحسن بقي في إطار السلوك والدعاية أكثر من إطار التحول البنيوي والاصلاحات المؤسساتية الحقيقية ويأمل الكثير بالإصلاحات الموعودة ليستخدم كل المهارات التجارية التي تميز بها التاجر السوري”.
كما أكّد البابللي أن النهوض بالتجارة السورية يتطلّب حزمة متكاملة من عوامل الاستقرار، موضحاً أن: “العملية التجارية في سورية تحتاج إلى استقرار على عدة مستويات، يشمل ذلك تحقيق توازن دقيق في دعم المنتجات المحلية والمنتجات المستوردة، واستقرار القوانين والقواعد التي تنظم العمل التجاري، إلى جانب استقرار سعر الصرف وتوحيد المرجعيات القانونية، فضلاً عن التخفيف من المركزية وإتاحة الفرصة للغرف التجارية بهوامش أوسع من المرونة ومنحها الصلاحيات اللازمة، إضافة إلى ضمان استقرار عمل البنوك والتحويلات المصرفية، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتبني سياسة ريادة الأعمال على نطاق أوسع”.
وحول مستقبل العلاقة بين الدولة والتاجر، يشدد البابللي على ضرورة تغيير جوهر العلاقة نفسها، قائلاً: “من أهم الشروط للعلاقة المستمرة والناجحة هو الانتقال من منطق النفوذ إلى منطق التعاون والاسناد دون استثناء أو تمييز، فعندما يشعر التاجر أن حقوقه مصانة بقضاء مستقل وتمثيل حقيقي يكون التزامه بالقوانين تعبير عن مصلحة وليس عبئا مفروضا، لذلك فإن مشاركة الممثلين عن التجار في الخطط الاستراتيجية للتجارة السورية مهم جدا وفعال لضمان النهوض التجاري بشكل أسرع”.
تشير شهادات الفاعلين التجاريين إلى أن بناء علاقة جديدة بين الدولة والتجّار يتطلّب ما هو أبعد من التسهيلات الإجرائية، ليشمل استثمار الخبرات المتراكمة داخل البلاد وخارجها، وإرساء قواعد واضحة وشفافة تقوم على الشراكة والثقة المتبادلة. وعليه، تبقى المرحلة الراهنة اختبارًا لقدرة الدولة على التحول من سلطة ضبط إلى سلطة تنظيم، ولقدرة السوق على استعادة عافيته ضمن إطار مؤسسي أكثر تدرجًا وتنظيمًا.
