لم يعد الشرق الأوسط يحتل موقع الصدارة في خريطة الأولويات الأميركية كما كان عليه لعقود، لكن ذلك لا يعني كما قد يكون الانطباع الأولي، تراجع نفوذ واشنطن أو انكفاءها عن الإقليم، فوثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025، التي أعلنتها إدارة دونالد ترامب، تكشف عن تحوّل أعمق من مجرد إعادة ترتيب جغرافي للأولويات، يتمثل في الانتقال من منطق “المركزية الاستراتيجية” إلى مقاربة تقوم على إدارة النفوذ بأقل كلفة ممكنة، دون التخلي عن المصالح الجوهرية أو الخطوط الحمراء التاريخية.
في هذه الوثيقة، لا يظهر الشرق الأوسط بوصفه ساحة صراعات تستوجب حضورًا أميركيًا دائمًا ومكلفًا، ولا باعتباره عبئًا ينبغي الانسحاب منه، بل كإقليم يجب ضبط إيقاعه، ومنع انفجاره الكبير، والحفاظ على حدّ أدنى من الاستقرار الوظيفي الذي يضمن أمن إسرائيل، وحرية الملاحة، واستمرارية تدفقات الطاقة، دون الانجرار إلى “حروب أبدية” أثبتت التجربة الأميركية أنها أعلى كلفة من مردودها السياسي والاقتصادي.
ولا يعكس هذا التحوّل فقط قراءة أميركية جديدة للإقليم، بل يعكس أيضًا إدراكًا بأن الشرق الأوسط لم يعد مركز الثقل في النظام الدولي الصاعد، في مقابل صعود آسيا، وتحوّل المنافسة مع الصين إلى أولوية بنيوية. ومع ذلك، فإن تراجع المركزية لا يعني نهاية التأثير؛ بل إعادة إنتاجه بأدوات مختلفة قائمة على الشراكات بدلًا من الوصاية، ردع انتقائي بدل انتشار واسع، وصفقات اقتصادية وأمنية بدل مشاريع إعادة هندسة سياسية.
وثائق الأمن القومي الأميركية
صدر أول تقرير رسمي تحت مسمى “استراتيجية الأمن القومي” عام 1987 في عهد رونالد ريغان، في ذروة الصراع مع الاتحاد السوفيتي، حيث ارتكزت الوثيقة آنذاك على الردع النووي، واحتواء الخصم، وترسيخ قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحول إلى توجهات لتكريس الأحادية الأميركية، وربط الأمن القومي بالعولمة، وتوسيع الأسواق، ونشر الديمقراطية. وبعد هجمات 11 سبتمبر، اكتسبت الوثائق طابعًا أمنيًا هجوميًا واضحًا، مع تبنّي منطق الحرب الاستباقية والانخراط العسكري الواسع، خصوصًا في الشرق الأوسط. لاحقًا، حاولت إدارات متعاقبة تقليص هذا الإرث، دون أن تُحدث قطيعة حقيقية معه.
ضمن هذا المسار، تأتي استراتيجية الأمن القومي لعام 2025 بوصفها لحظة كسر واضحة، لا مجرد تعديل تدريجي، إذ لا تعيد ترتيب الأولويات فحسب، بل تعيد تعريف مفهوم الأمن القومي نفسه، على قاعدة أن الالتزامات الخارجية الواسعة أضعفت الداخل الأميركي، وأن العولمة لم تعد تصبّ في مصلحة الاقتصاد الأميركي، وأن الولايات المتحدة دفعت كلفة قيادة نظام دولي لم يعد يراعي مصالحها المباشرة.
في هذه النسخة، تطغى بصمة دونالد ترامب السياسية بوضوح غير مسبوق، فالوثيقة لا تبدو نتاج تسوية مؤسسية بين مراكز القرار، بل امتدادًا مباشرًا لشعار “أميركا أولًا“، حيث يُعاد تقديم الأمن القومي بوصفه أمن الحدود، والصناعة، والطاقة، والاقتصاد، قبل أي التزام قيمي أو دور قيادي عالمي، وتغيب اللغة الليبرالية التقليدية لصالح خطاب صريح، براغماتي، يقيس السياسة بمنطق الربح والخسارة.
الأهم أن الوثيقة تعبّر عن محاولة واعية من ترامب لتطويع مؤسسات الدولة العميقة، وتحويل رؤيته السياسية إلى برنامج مُلزم، لا إلى توجّه قابل للتأويل، إذ تسعى إلى تقليص هوامش المناورة التي تمتعت بها المؤسسات الأمنية والدبلوماسية سابقًا، وفرض سردية واحدة تُحمّل الإدارات السابقة مسؤولية “إضعاف أميركا”، وتقدّم هذه الاستراتيجية بوصفها مشروع استعادة لا مجرد إدارة مرحلة.
وفي بعدها الأيديولوجي الأوسع، تمثل استراتيجية 2025 خروجًا صريحًا من دور الولايات المتحدة كحارس للنظام الليبرالي العالمي، نحو موقع جديد يُسهم في شرعنة النموذج القومي–الشعبوي في السياسة الدولية، فحين تتبنّى القوة الأعظم خطاب السيادة الصلبة، وتُقدّم المصالح الوطنية الضيقة على القيم العابرة للحدود، فإنها لا تغيّر سلوكها فقط، بل تعيد تشكيل البيئة الدولية بأكملها.
إدارة المخاطر
على امتداد العقود الماضية، شكّل الشرق الأوسط إحدى الساحات الأكثر حضورًا في التفكير الاستراتيجي الأميركي، ليس فقط بوصفه إقليمًا غنيًا بالطاقة، بل باعتباره عقدة تداخل بين الأمن، والاقتصاد، والتحالفات، وصراعات النفوذ الدولي.
غير أن وثيقة الأمن القومي الأميركية لعام 2025 تُعلن بصيغة واضحة ومباشرة، انتهاء هذه المرحلة، وانتقال واشنطن إلى مقاربة مختلفة لا تقوم على الانسحاب، بل على خفض مركزية الإقليم في سلم الأولويات، وتحويله إلى ملف يُدار بمنطق المخاطر لا بمنطق الاستثمار السياسي طويل الأمد.
لا تتعامل الوثيقة مع الشرق الأوسط كتهديد وجودي للأمن القومي الأميركي، ولا كساحة تنافس رئيسية مع القوى الكبرى، بل كإقليم “قابل للاشتعال” ينبغي منعه من الانفجار الواسع، دون أن يستدعي ذلك انخراطًا أميركيًا دائمًا أو مكلفًا.
يظهر هذا التحول في تقليص الاعتماد على القواعد العسكرية بوصفها أداة مركزية للنفوذ، مقابل توسيع شبكة الشراكات الأمنية، والاعتماد على الحلفاء الإقليميين في تحمّل الجزء الأكبر من الأعباء اليومية للأمن والاستقرار
وهو ما يعكس تحوّلًا في تعريف التهديد نفسه؛ فبدلًا من التعامل مع أزمات المنطقة بوصفها أزمات أميركية بالوكالة، يجري توصيفها كأزمات إقليمية ينبغي احتواؤها، ونقل عبء إدارتها إلى الفاعلين المحليين والإقليميين.
في هذا الإطار، تميّز الوثيقة بوضوح بين ما تعتبره مصالح أميركية “جوهرية” لا تقبل التهاون، وبين ملفات لم تعد تستحق استنزاف الموارد، فالمصالح الجوهرية تتركز في ثلاثة عناوين رئيسية: أمن إسرائيل، حرية الملاحة والممرات البحرية، ومنع أي قوة معادية من السيطرة على موارد الطاقة أو توظيف الإقليم ضد المصالح الأميركية. وخارج هذه الدائرة، تتراجع أولوية الانخراط المباشر، ويُترك هامش واسع لإدارة الأزمات عبر أدوات غير عسكرية.
ويفسّر هذا التحوّل اللغة التي تستخدمها الوثيقة لوصف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بوصفه “شراكة لا التزامًا طويل الأمد”، وهي صيغة تختصر جوهر المقاربة الجديدة، فواشنطن لا ترى نفسها مسؤولة عن إعادة تشكيل الأنظمة، ولا عن رعاية عمليات انتقال سياسي، ولا عن إدارة صراعات داخلية معقّدة، بل عن ضمان ألا تتحوّل هذه الصراعات إلى تهديد مباشر لمصالحها الاستراتيجية أو إلى ساحات نفوذ لقوى منافسة.
جنود أقل وصفقات أكثر
لا يوجد فعليًا تراجع في الطموح الأميركي للحفاظ على النفوذ في الشرق الأوسط، لكن التحول الرئيسي هو في أدوات هذا النفوذ. فواشنطن، وفق منطق الوثيقة، لم تعد ترى في الانتشار العسكري الواسع أو الوجود الميداني الكثيف وسيلة فعّالة أو مستدامة لحماية مصالحها، بل عبئًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا أثبتت التجارب السابقة كلفته العالية ومحدودية مردوده.
في هذا الإطار، تنتقل الولايات المتحدة من نموذج “القوة الحاضرة على الأرض” إلى نموذج القوة المُديرة من الخلف؛ قوة تعتمد على الردع الانتقائي، والقدرة على التدخل السريع عند الضرورة، دون الالتزام بوجود دائم أو انخراط طويل الأمد.
ويظهر هذا التحول في تقليص الاعتماد على القواعد العسكرية بوصفها أداة مركزية للنفوذ، مقابل توسيع شبكة الشراكات الأمنية، والاعتماد على الحلفاء الإقليميين في تحمّل الجزء الأكبر من الأعباء اليومية للأمن والاستقرار.
في المقابل، يتقدّم البعد الاقتصادي بوصفه الأداة الأكثر فاعلية في تثبيت النفوذ الأميركي، فالعلاقة مع دول المنطقة لم تعد تُقاس بحجم القوات المنتشرة، بل بحجم الصفقات الموقّعة: صفقات السلاح، والتكنولوجيا، والطاقة، والاستثمار، والتكامل في سلاسل الإمداد.
وتتعامل واشنطن مع هذه الصفقات بوصفها آلية مزدوجة الوظيفة؛ فهي من جهة تُحقق مكاسب مباشرة للاقتصاد الأميركي، ومن جهة أخرى تُقيّد هامش حركة الشركاء، وتربط أمنهم واستقرارهم بمنظومات أميركية يصعب الاستغناء عنها.
ويظهر هذا المنطق بوضوح في الطريقة التي تُعاد بها صياغة الشراكات مع دول الخليج؛ حيث يتراجع الحديث عن “الالتزام الدفاعي المفتوح”، مقابل تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النووية السلمية، والصناعات الدفاعية. وبهذا، تتحول المظلة الأمنية الأميركية من ضمان تلقائي، إلى خدمة مشروطة بثمن سياسي واقتصادي واضح، تُدفع عبر الاستثمارات، والتطبيع، والاصطفافات الإقليمية.
كما تتجلى هذه المقاربة في اعتماد واشنطن المتزايد على الدبلوماسية الصفَقية، حيث تُدار الملفات الإقليمية الكبرى من خلال ترتيبات جزئية ومحدودة، لا عبر حلول شاملة. فالسلام، في هذا التصور، ليس نتيجة معالجة جذور الصراع، بل ثمرة تفاهمات مرحلية تُخفف التوتر، وتمنع الانفجار، وتسمح باستمرار تدفق المصالح. وهو ما يفسّر التركيز على اتفاقيات التطبيع، وترتيبات التهدئة، ومشاريع التعاون الاقتصادي، بوصفها بدائل عن مسارات التسوية السياسية التقليدية.
وفي هذا السياق، يصبح النفوذ الأميركي أقل اعتمادًا على الإكراه العسكري المباشر، وأكثر ارتباطًا بالقدرة على التحكم في الخيارات المتاحة أمام الفاعلين الإقليميين، فالدولة التي تعتمد على السلاح الأميركي، أو التكنولوجيا الأميركية، أو الأسواق الأميركية، تجد نفسها مضطرة إلى مراعاة الخطوط الحمراء التي تضعها واشنطن، حتى في ظل غياب جنود أميركيين على الأرض.
لكن هذا التحول لا يخلو من مخاطر؛ إذ إن تقليص الوجود العسكري، مقابل توسيع الاعتماد على الصفقات، يفترض درجة عالية من الاستقرار والانضباط الإقليمي، وهي فرضية لا تصمد دائمًا في شرق أوسط مضطرب، فحين تتعطل الصفقات، أو تتآكل قدرة الردع غير المباشر، تجد واشنطن نفسها مضطرة للعودة إلى أدوات القوة التقليدية، ولو بشكل محدود.
نفوذ أميركي منخفض الكلفة
يُشكّل كلٌّ من إيران والبحر الأحمر أكثر الملفات حساسية لاختبار الفرضيات الأميركية؛ ففي هذين المسارين تتقاطع المصالح الاقتصادية والأمنية مع واقع إقليمي شديد التعقيد، ما يجعل إدارة المخاطر مهمة بالغة الصعوبة، وأقرب في كثير من الأحيان إلى السير على حافة التصعيد.
تنظر الوثيقة الأميركية إلى إيران بوصفها التهديد الإقليمي الأكثر إزعاجًا، لا لأنه تهديد وجودي للولايات المتحدة، بل لأنه قادر على تعطيل مصالحها الحيوية دون الانخراط في مواجهة تقليدية مباشرة.
تتبنى واشنطن مقاربة تقوم على إضعاف إيران، لا إسقاطها، واحتوائها عبر الردع المحدود، والضربات الانتقائية، واستخدام الوكلاء الإقليميين كمساحات اشتباك غير مباشرة، بدل الذهاب إلى حرب شاملة ترى أنها عالية الكلفة وغير مضمونة النتائج.
في هذا السياق، يُعاد تعريف الردع الأميركي تجاه إيران بوصفه ردعًا “وظيفيًا” لا استراتيجيًا؛ أي ردع يهدف إلى منع تجاوز خطوط حمراء محددة، مثل تهديد الملاحة الدولية، أو توسيع رقعة الاشتباك الإقليمي، دون السعي إلى تغيير بنية النظام أو إعادة هندسة ميزان القوى بشكل جذري. وهو ما يفسّر التباين بين الخطاب الأميركي الحاد، والاستجابة العسكرية المحسوبة، التي تُبقي باب التصعيد مفتوحًا، لكن دون اندفاع.
أما البحر الأحمر، فيمثل الوجه الآخر لهذا الاختبار، فالممر البحري الذي لم يكن في صدارة الاهتمام الأميركي لعقود، تحوّل فجأة إلى ساحة احتكاك مباشرة، بعدما باتت الهجمات على السفن تهديدًا مباشرًا لسلاسل الإمداد العالمية، وللاقتصاد الدولي الذي تسعى واشنطن إلى حمايته من الاضطراب.
وهنا، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام معضلة جوهرية: كيف تحمي واحدًا من أهم شرايين التجارة العالمية، دون العودة إلى نمط الانتشار العسكري الواسع الذي تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى تجنبه؟
الاستجابة الأميركية في البحر الأحمر جاءت انعكاسًا دقيقًا لهذا التناقض؛ إذ اعتمدت واشنطن على تحالفات بحرية محدودة، وضربات دقيقة، ورسائل ردع محسوبة، دون تحويل المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة، لكن هذه المقاربة كشفت في الوقت ذاته هشاشة مفهوم “النفوذ منخفض الكلفة”، إذ إن استمرار التهديد يعني استمرار الحاجة إلى الحضور، ولو بصيغته المحدودة، ما يفرض استنزافًا تدريجيًا للموارد والقرار السياسي.
الأهم أن ملف إيران والبحر الأحمر يكشف حدود الفصل بين تقليص الانخراط ومنع الانفجار، فالمنطقة التي يُفترض إدارتها عن بُعد، تُظهر قدرة عالية على فرض نفسها على جدول الأعمال الأميركي، كلما اقتربت التهديدات من الاقتصاد العالمي أو من أمن الحلفاء. وهو ما يعني أن واشنطن، مهما سعت إلى خفض حضورها العسكري، ستظل أسيرة معادلة التدخل الانتقائي، لا الانسحاب الكامل.
رفع الأعباء وتكثيف الشروط
بالنسبة للأنظمة العربية، ولا سيما غير الديمقراطية منها، يشكّل تخلّي إدارة ترامب عن دور “حارس القيم الليبرالية والديمقراطية” رفعًا لعبء سياسي ثقيل ظل ملازمًا لعلاقات هذه الدول بواشنطن لعقود، فغياب خطاب حقوق الإنسان والإصلاح السياسي من صدارة السياسة الخارجية الأميركية يمنح هذه الأنظمة هامش حركة أوسع، ويُحررها من ضغوط كانت تُستخدم – ولو انتقائيًا – في إدارة العلاقة معها، خصوصًا في الخليج.
غير أن هذا الارتياح السياسي لا يقابله بالضرورة ارتياح استراتيجي طويل الأمد، فالتخلّي الأميركي عن مركزية النفط العربي، نتيجة تنامي قدرات الإنتاج الأميركي في قطاع الطاقة، يُفقد دول الخليج إحدى أهم أوراقها التاريخية في معادلة النفوذ.
ومع تحوّل العلاقة إلى منطق صفقات ومنافع مباشرة، تجد هذه الدول نفسها مطالبة بتقديم “السلعة المناسبة” التي تتلاءم مع المنظور الترامبي: استثمارات ضخمة داخل الولايات المتحدة، شراكات في التكنولوجيا المتقدمة، التزام واضح بخيارات واشنطن في المنافسة مع الصين، وانخراط في ترتيبات إقليمية تُسهم في تثبيت الاستقرار الوظيفي الذي تريده.
في هذا السياق، لم تعد الشراكة مع واشنطن مضمونة بذاتها، بل باتت مشروطة بالقدرة على الاستجابة لأولويات اقتصادية واستراتيجية متغيرة. وهو ما يفتح، للمرة الأولى بشكل جدي، نقاشًا داخل العواصم العربية حول حدود الاعتماد على الولايات المتحدة، وضرورة التفكير بخيارات بديلة أو موازية، في حال تراجع مستوى الاهتمام الأميركي أو تغيّرت شروطه بشكل يصعب تلبيته.
أما الدول العربية التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات الأميركية، مثل مصر والأردن، فتواجه معادلة أكثر حساسية، فالمساعدات، التي كانت تُقدَّم سابقًا باعتبارها ركيزة للاستقرار الإقليمي، باتت في ظل الاستراتيجية الجديدة خاضعة لمنطق الجدوى والمنفعة، ولم يعد مضمونًا استمرارها بصيغتها التقليدية، ما لم تتمكن هذه الدول من إعادة تقديم نفسها ضمن المنظور الاقتصادي–الأمني الأميركي الجديد، القائم على الربط بين الدعم والعائد، وبين الاستقرار والخدمة المباشرة للمصالح الأميركية. وفي حال تعذّر ذلك، يصبح مستقبل هذه المساعدات مفتوحًا على احتمالات إعادة الهيكلة أو التراجع، بما يحوّلها من أداة استقرار إلى مصدر ضغط إضافي.
في الملف الفلسطيني، تتجلّى التحولات الأميركية بأكثر صورها خطورة، فعلى الرغم من ترويج واشنطن لنموذج “السلام عبر القوة”، وتقديم ما جرى من اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة بوصفه خطوة أولية نحو هدوء بعيد المدى، إلا أن المقاربة الأميركية تبقى في جوهرها، حافظة للمصلحة الإسرائيلية أولًا. فوقف النار لا يُنظر إليه كمدخل لمعالجة سياسية شاملة، بل كأداة لضبط التوتر ومنع الانفجار، بما يسمح باستمرار مسارات إقليمية أوسع لا تكون القضية الفلسطينية في مركزها.
في هذا الإطار، تُراهن الولايات المتحدة على الاتفاقيات الإبراهيمية باعتبارها المسار الأكثر فعالية لإدارة علاقات “متوازنة” بين حلفائها في المنطقة، دون الحاجة إلى الدخول في استحقاقات الحل السياسي للصراع العربي–الإسرائيلي، وهو رهان يقوم على تجاوز جوهر القضية الفلسطينية، أو تأجيله إلى أجل غير مسمى، مقابل دمج إسرائيل في الإقليم اقتصاديًا وأمنيًا، وتحويل الصراع إلى ملف إداري–أمني يمكن احتواؤه.
الأخطر في هذه المقاربة أنها تتقاطع مع وجود حكومة يمينية إسرائيلية تُصرّ على مشروع “الحسم”، وترفض أي معالجة سياسية حقيقية للصراع، في ظل غياب التفات أميركي جدي لما يجري على الأرض، طالما أن التطورات لا تمسّ المصالح الأميركية المباشرة، ولا تُهدد الصفقات الإقليمية الكبرى. وبهذا، تصبح الحقوق الفلسطينية عرضة لمزيد من التبديد والتصفية، ليس بفعل القوة الإسرائيلية وحدها، بل بفعل اللامبالاة الاستراتيجية الأميركية التي ترى في إدارة الصراع بديلًا كافيًا عن حله.
في المحصلة، يكشف هذا التحول أن تراجع مركزية الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأميركية لا يعني تخفيف الضغوط عن المنطقة، بل إعادة إنتاجها بأشكال جديدة: ضغوط اقتصادية بدل سياسية، شروط صفقات بدل التزامات تحالفية، وإدارة أزمات بدل معالجة جذور الصراعات.
وهو واقع يضع العرب والفلسطينيين أمام مرحلة أكثر تعقيدًا، تتطلب إعادة تعريف أدوات الفعل السياسي، خارج وهم الرهان على دور أميركي لم يعد معنيًا بقيادة النظام، بقدر ما هو معني بإدارته وفق مصالحه الضيقة.
